لا تقوم الدولة الحديثة المعاصرة، إلا إذا توزعت السلطة فيها على سلطات ثلاث هي السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية، على أن يكون بين هذه السلطات فصْل حقيقي، وفقاً للمعايير الدولية المعتبرة. فإذا لم يحدث فصل جاد وحقيقي وواضح، تميّعت الحدود وتحللت القيود، فتركزت السلطات ndash; حقيقة وواقعاً ndash; في يد واحدة، تحت أى اسم يكون، الزعيم أو الرئيس أو القائد.. إلى آخر ذلك.
وتستوى السلطة التشريعية على انتخابات حرة نزيهة، يساهم فيها الشعب كله، أو أكثر عدد ممكن فيه ؛ شريطة أن يكون الشعب قد نال حقه من التنمية البشرية، فصار ناضجا واعيا، مثقفاً محايدا، لا يميل ولا ينحرف، لكنه يوازن بين برامج ولا يتعلق بالإشخاص. يغلب مصلحة وطنه، ويتجرد من أى تحيز لجنس أو لعقيدة أو لحزب أو للون أو للغة أو لأي شىء آخر يقيم التمايز ويكرس التفاضل بين طبقات الشعب وأفراده.
وتستقيم السلطة التنفيذية على مؤسسات ذات تنظيم عال، وادراة على كفاية، تطبق القوانين واللوائح دون استثناءات وبغير محسوبية أو فساد. ذلك أن مهام الدولة فى الوقت الحالى كثيرة ومتنوعة ومتشعبة، لا يمكن أن تـُجمع فى يد واحدة، ويستحيل أن يُبرْمها شخص واحد، ولا حتى مؤسسة مفردة ؛ والقول بغير ذلك عبث وهراء، ينتهي بالدولة إلى أن تكون ضيعة فى ذمة مالك واحد، أو تكون قبيلة يدير شئونها شيخ القبيلة، الذى قد يكون غير كفء ولا حازم ولا حاسم، فتتراكم مشاكل الشعب وتتزايد وتتضاعف حتى يضيع ثم يموت وينتهى. (ولفظ أمة الذى قد يُسْتعمل بدلا من لفظ قبيلة، هو لفظ من أصل عبرى يعنى القبيلة. فإختلاف اللفظ ليس شيئاً، لكنه يؤكد ولا يبدّل مفهوم القبيلة الحقيقى التى تخضع لشيخ القبيلة وحده، فى وقت لا تـُسَيّر فيه أمور الشعوب التى تشايكت وتعقدت وتسارعت إلا عن طريق مؤسسات علمية ودقيقة ومنظمة وقانونية).
وتستديم السلطة القضائية إذا كانت سلطة مستقلة، إستقلالا حقيقياً وليس إستقلالا صوريا. تتكون من قضاة وأعضاء نيابة على علم وكفاية ونزاهة وتعفف، تـُمسك بميزان العدالة فى قوة وحياد، لا يرى أشخاص الخصوم لكنه يبصر منازعاتهم، بعلم سليم وضمير مستقيم ؛ يلفظ الظلم والتحيز والتملق، وينقىّ نفسه بنفسه، حتى يظل دائماً نقىّ الثوب صفىّ السمعة جلىّ الحق.
وفى هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى أن الدولة تـُسأل عن أعمال السلطة التنفيذية لأن الحكام فيها والإداريين يصدرون قرارات أو أوامر بلا تسبيب ولا تحييث ولا ضمانات لطالبي العون من أصحاب المصالح الحقيقية من أفراد الشعب، لكن الدولة لا تـُسأل عن الأحكام أو القرارات أو الأوامر التى تصدر عن السلطة القضائية، ذلك أن نصوص الدستور والقانون ndash; فرضاً، وشريطة أن يُطابقا المعايير الدولية ndash; تضع ضوابط لصحة وسلامة كل ما يصدر من السلطة القضائية، وتحدد ضمن هذه الضوابط دعاوى لردّ القضاة أو مخاصمتهم، لو فـُصل فيها بعدل وحزم، ولم يجنح الميزان إلى اتجاه قبلي (من القبيلة) أو تعصبي أو (من العصبة) نتيجة وساطة أو اقتناص فائدة على اى شكل تكون، لو فصل فى دعاوى الرد والخصومة بهذا النهج السليم، لاستطاع القضاء أن يطهر نفسه بنفسه، وأن ينقىّ ثوبه من أى بقعة تطاله وتنال من استقلاله ونزاهته وحيدته.. وإن لم يحدث ذلك، يصير القضاء كالجسم الذى تعطلت فيه وظائف الكُلى والكبد فلم يعد يقادر على أن يفصل السموم التى توجد فى الدم والبول، ومن ثم ينتهى الأمر ولابد إلى القدر المحتوم.
يقوم النظام القانونى فى مصر والبلاد العربية وأغلب بلاد العالم على سنّ القوانين ووضع التشريعات بواسطة السلطة التشريعية (وهو ما يسمى باللغة الإنجليزية Statues). أما النظام الأنجلوسكسونى (فى بريطانيا وأمريكا خاصة) فهو يقوم على السوابق القضائية (التى تسمى بالإنجليزية Precedents) ويعنى ذلك اختلاف جذرى بين نظام يضع التشريع فى يد السلطة التشريعية ونظام يجعل من حق المحاكم أن تضع القواعد التشريعية والنظم القانونية من خلال ما تصدره من أحكام.
وعندما كنت أدرس فى كلية الحقوق بجامعة هارڤارد منهجا (Course) عن القانون والإقتصاد، كنت أجد غرابة فى فهم القواعد القانونية من خلال أحكام المحاكم، فيُدرّس القانون بواسطة عرض أحكام المحاكم فى القضايا بذاتها (فلان ضد vs فلان).
هذان نظامان مختلفان، والخلط بينهما يعنى القصد المتعمد لازالة الحدود والتحيف من السلطة القضائية على أعمال السلطة التشريعية، أو يعنى الجهل بما بين النظامين من فوارق، يؤدى إلى استلاب حق التشريع الذى يضمن الشعب مروره عبر إجراءات طويلة وواضحة، وتكون محلا للمناقشة والجدل والتصويب والتعديل، هى حق للشعب بدلا من صدور حكم يجّب ويختزل كل هذه الحقوق، ثم يتحصن بقالة أنه حكم قضائي لا يجوز التعقيب عليه.
فسلطة القضاء إذن، لصالحه ولصالح الشعب، وإحتراماً للنظام القانونى الذى يحدده الدستور وترسمه القوانين تنحصر فى تطبيق القوانين، مع تفسيرها إن كان ثمت غموض فى نصّ ndash; على الوجه الذى يتجه إليه كافة الناس والذى يقره العقل السليم - فلا ينهج فى التفسير منهجا خاطئا أو فاسدا أو شاذا. أما فى المسائل الجنائية فيكون تأويل النصوص دائماً بالأرحم.
حدثت فى مصر حالات من امتناع القضاة عن تطبيق القانون، وحالات من تحيّف المحكمة الدستورية العليا على حق السلطة التشريعية فى سن القوانين ووضع التشريعات، ولعل ذلك كان نتيجة لتميع الحدود فى مصر عامة بين السلطات، وبين السلطة والحزب، وبين الحق والباطل.. وهلم جرا. وتقدم الدراسة نماذج على ما حدث من المحاكم:-
(أ) أثناء quot;هوجةquot; شركات توظيف الأموال بدأت بعض المحاكم فى الإمتناع عن تطبيق حكم القانون بفرض فائدة محددة عند التأخر فى سداد ديون البنوك. وكانت هذه المحاكم تقول فى ذلك قولا واحدا كأنه من الرواسم (اكليشيهات) فتكرر أن الفائدة ربا وأن الربا محرم شرعا وأن المحاكم تطبق الدستور الذى ينص على أنّ الشريعة هى المصدر الرئيسى للتشريع، ومن ثم تحكم برفض طلب الفائدة. وقد تجمّع من هذه الأحكام عدد وفير أمام محكمة الإستئناف العليا فى بورسعيد والتى كنت أرأسها فأصدرت فى 10 يناير 1986 حكماً شهيرا بالغاء هذه الأحكام والحكم بالفائدة التى نص عليها القانون تأسيسا على أن محكمة النقض والمحكمة الإدارية العليا قضتا بأن نص الدستور خطاب للمشرع بأن تكون مبادىء الشريعة الإسلامية (وليس الشريعة الإسلامية كما كانت المحاكم تقرر) ملحوظة عند إصدار القوانين. وأن القرآن الكريم إذ جاء النص فيه على أن (أحل الله البيع وحرم الربا) لم يبين ما هو المقصود بالبيع ولا هو المعنىّ بالربا، فاتجه الفقهاء إلى الإجتهاد فى ذلك فحرّموا بعض البيوع مثل بيع المضاربة وبيع الأشياء غير المحددة (كالزرع قبل أن يبدو تمامه، والسمك فى الماء وما شابه)، كما أنهم أحلـّوا بعض الربا، وهو ربا الفضل الذى لا يشترط فيه الدائن على مدينه زيادة محددة عند رد الدين، إنما يُقدمها المدين للدائن عند سداد الدين فضلا من عنـْده. هذا إلى ان التعامل حاليا (حالا) يجرى بالنقد الذى لم يُعرف على عهد النبى، إذ كانت المعاملات تجرى بالمقايضة (شىء بشىء) وكان التعامل يجرى بين العرب بذهب الروم وفضة اليمن على أنها مثليات ولم ينشأ النظام النقدى فى الإسلام إلا فى عهد عبد الملك ابن مروان. هذا فضلا عن أن علة تحريم الربا كانت لمنع استرقاق المدين إذا لم يوف بدينه الذى استسهل التأجيل فى سداده حتى صار أضعافا مضاعفة فعجز عن سداده. ويمنع القانون المصرى الرق عموما، كما أنه يفرض بنص القانون ألا تزيد فوائد الدين مهما تراخت مدة السداد عن مثله (أى قدر الدين).
وقد هاجت الناس من أصحاب المصالح وماجت، وظللتُ موضعاً للأهانة والتجريح بإعتبارى رئيس المحكمة التى أصدرت الحكم، فأعرضت عن أىّ رد أو تعقيب. وبعد 17 عاما من صدور الحكم أصدر الأزهر فتوى تأخذ بما انتهى إليه الحكم من أن الفائدة القانونية ليست هى الربا المحظور شرعا، ولذات الأسباب التى ساقها الحكم. ووافق على ذلك بالاجماع أعضاء مجمع البحوث الإسلامية، ومنهم من افتأت علىّ وأخطأ فى حقى، مع أن الحكم منسوب إلى المحكمة وليس إلى شخصى.
(ب) فى الثمانينيات من القرن الماضى أقام أحد المحامين ما سمّاه دعوى حسبة للفصل بين أستاذ جامعى وزوجه على اعتبار أنه بما كتب فى كتبه ارتّد عن الإسلام فتعين من ثم الفصل بينه وبين زوجه (والفصل غير التطليق). وكان الموضوع مثارا بشدة، وكانت وجهة نظرى أن الأمر يخرج عن اختصاص المحاكم لأنها لن تحكم فى الدعوى إلا إذا انتهت أولا إلى أن الأستاذ الجامعى قد كفر وخرج من الإسلام، وليس من اختصاص المحاكم أن تحكم على الآراء والأفكار، وإنما هى تفصل فى وقائع محددة (Facts). وحدث أن كتبت فى مجلة شهيرة ذات توزيع عال مقالا عنوانه quot; من الذى يُشرّع لمصر؟ quot; قرأها رئيس الدولة فوجّه وزير العدل إلى تعديل التشريع بمنع دعوى الحسبة اطلاقا، على أن يسرى هذا القانون على كل دعوى لم يصدر فيها حكم بات. وكان الحكم الإستئنافى فى الدعوى المذكورة لم يزل منظورا أمام محكمة النقض، أى إنه لم يكن قد صدر فيها حكم بات. لكن محكمة النقض أعرضت عن القانون ولم تطبقه فى الدعوى، وقضت بتأييد الحكم المستأنف بالتفريق بين الزوج وزوجه. وقد قلت آنذاك لكل المراسلين الصحافييّن فى وكالات الأنباء quot; إن أحداً لم يعد يثق فى المحاكم لأن وظيفتها تطبيق حكم القانون وليس الخروج عليه quot; وقد دفعتُ ثمن هذا التصريح غاليا، من مصالحى الخاصة، حتى صرت من مظاليم القضاء، وهو أمر له عودة.
ابتدع وزير العدل الأسبق فكرة الفصل بين الحكم وتنفيذه، ولجأ عن طريق محام إلى محكمة الأمور المستعجلة فوقفت (أوقفت) الحكم لخروجه على القانون. وعندما اجتمعتُ مع وزير العدل المذكور كطلب رئيس الدولة لاجراء إصلاح قضائى، ذكر واقعة وقف التنفيذ هذا وهو يبتسم، فقلت له إن محكمة النقض أخطأت لأنها لم تطبق القانون ووزارة العدل أخطأت لأنها وقفت تنفيذ الحكم بواسطة قاضى الأمور المستعجلة، وأن الشعب لم يعد يثق بالقانون أو القضاء، فقال مؤمّنا على كلامى، لهذا فنحن (أنت وأنا) مكلفين من رئيس الجمهورية بالعمل على إصلاح القضاء. لكن الوزير الأسبق لم يكن يريد لى أن اشترك فى هذا الإصلاح لأنه لم يكن يرغب فى أى اصلاح، أو لأنه ndash; وغيره ndash; كانا يخشيان أن أكون ضمن المُصلحين للقانون وغيره، فنكث فى قوله، وأرجأ موعدا ضربه لى حتى نجتمع سويا ونضع قانونا أو قوانين لإصلاح القضاء، ولهذا الأمر عودة فيما بعد.
(ج) تختص المحكمة الدستورية العليا بالرقابة على القوانين والتثبيت من موافقتها للدستور، لكنها ndash; فى ظروف معينة ndash; خرجت عن هذا الإختصاص ونصّبت نفسها سلطة تشريع ndash; لتكون كالمحكمة العليا فى الولايات المتحدة ndash; وكان ذلك ملحوظا فى مسائل ايجار الأماكن.
علـَقت على أحكام لهذه المحكمة ndash; لم تكن تمسنى أو تضر صالحا لى ndash; لكنى لم أكن أقر المبدأ فى ذاته، خاصة وأن المحكمة كانت تستند إلى نصين من الدستور لا يخولانها هذا الحق، وقد خشيت أن يرى البعض فى ذلك عوضا عن التشريع، فتصدر المحكمة أحكاما فى مسألة الإسكان تضر بالغالبية العظمى من الشعب المصرى ؛ وإن لم تضرنى. وصحّ توجسى فقد أصدرت المحكمة حكما يقصر مَدّ عقد الإيجار على أشخاص دون سواهم، وكان ذلك مما يهدد ملايين الأسر فى مصر بالطرد من مساكنها، فلا يجدوا سكنا ملائما ويعز عليهم السكن كما عز الغذاء، والعمل والتطبيب والتعليم والمواصلات وكل شىء آخر.
استشاط رئيس المحكمة غضبا، وظل يتصل بالصحفيين ليصدر تفسيرا للحكم غير ما تفيده أسبابه، لكنى واصلت نقدى للحكم تأسيسا على أنه تشريع يخرج عن سلطة المحكمة ويستلب حق مجلس الشعب ولجانه والمناقشات الشعبية التى لابد أن تدور بصدد الإسكان، والموضوع الذى أقحمت المحكمة نفـْسها فيه على غير أساس.
تلك أمثلة تدل فى تقديرى على أن الحدود تميعت والحقوق تغيرت والسدود تقطعت، مما يمكن أن يسىء إلى الشعب أبلغ اساءة. وسوف يسير كل شىء إلى الأحسن لو عرف كل فرد حقوقه فالتزمها، وفهم حدوده فلم يخرج عنها.

[email protected]

اية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه