(إستراتيجية التقليص والتصغير، تتيح الإمساك بالعالم عبر شبكة علاماته المختصرة) بول ريكور
تحت عنوان (مادة إعلانية) بات المشاهد يطالع حزمة متتالية من الإعلانات، الصادرة عن المؤسسة الرسمية العراقية. الهدف يقوم على محاولة للشرح والتنويه والإفصاح عن الواقع العراقي. مادة يتم فيها دفع مبالغ لها وزنها، باعتبار توقيت العرض، ومستوى القنوات التي تبث تلك المواد. إعلان يقوم على توظيف بعض المشاهد التي تتخللها شعارات عامة، قوامها؛ العراق، الإرهاب، موضوعة المستقبل.
التلقي والمشاهدة
(هدفنا واحد، عراقنا واحد)، (الإرهاب لا دين له)، (سلاحكم ما يصير دولة)، رسائل إعلانية ما انفكت تترى بكرم حاتمي على قنوات فضائية، ورزق مفتوح، يبدو أنه يقوم على ميزانية مفتوحة (اللهم لا تجعلنا من قاطعي خبزة أحد)، وكما اعتاد اللسان العراقي، (ألف عافية ببطونكم وبطون اللي خلفوكم)، ما الغاية، وما الهدف، وما المعنى الكامن خلف هذه الرسائل، هل يقوم على محاولة للشرح والتفسير للواقع العراقي؟ أم أن الموضوع يسعى نحو التذكير الدائم بالمسألة العراقية، أم التطلع نحو كسب التعاطف من قبل المشاهد؟ وعلى هذا يبرز السؤال حول الجدوى الكامنة خلف هذه الإعلانات ذات المشاهد السينمائية، تلك التي يتم فيها اختصار كل شيء، إلى الحد الذي يتم فيه تركيز مدى العلاقة بين الناس ووسائل الإعلام. هل الأمر يقوم على محاولة لإبراز مجال التأثير المباشر على المتلقيlsquo; في مسعى لتغيير السلوك، وهل الأمر يقوم على جدولة للمعنى، باعتبار محاولة السيطرة على توزيع العلاقات والقوى الاجتماعية، وكيف يمكن ترصد مجال التأثير لهذه الرسائل، ومدى تقييمها، نجاحا أم فشلا.
المتابع للفضائيات يجد حالة من الاستمرار الملفت، وبإصرار يدعو للتفكير، بأنها مسعى يقوم على محاولة لتثبيت طريقة التفكير بالحالة العراقية، انطلاقا من وجهة نظر رسمية، فيما يتم طمس المجمل من التداعيات التي يزخر بها الواقع العراقي، طريقة الحشد والتكرار، تبرز مجال التقاطع القائم بين (طريقة التفكير وموجبات التفكير)، إنها المبادرة التي تمسك بقيادها السلطة الحكومية، في طريقة التعامل مع المشكل العراقي، وطريقة صنع الإشكالية على مستوى القدرة والطريقة التي يتم التعامل مع المجمل من التناقضات التي يعيشها العراق الراهن، حيث الفوضى النهب والقتل والطمع بالسلطة والميليشيات المسلحة والتكفير والنهب واللاأبالية، والتعطيل الذي تعيشه أجهزة الدولة وغياب هيبتها. إنه الإقحام عبر حزمة الإعلان، في ظل التغييب لطرح الوضع على سدة النقاش، ومن هذا يتبدى عنصر الوهن الذي تعاني منه طريقة المعالجة للمشكلة عن طريق الإعلان!
الآنية والمباشرة
في استثمار الآني، والوقوع في المباشرة، يكون المسعى الأبرز الذي يميز الجهد الإعلاني، حيث التطلع نحو تقديم صورة لاعبي المنتخب الوطني الفائز في كأس آسيا، أو تقديم مغنية مغمورة لا فضل لها سوى الفوز في مسابقة للهواة، وتقديمها على أنها رمز عراقي يتم الفخر به. إنه الاجتزاء والاقتطاع والانتقائية، تلك التي يتم فيها تغييب الرموز العميقة والأصيلة للعراق، وهي حالة من فوضى الفلاشات، تلك التي يتم فيها توجيه اللقطة، وجعلها بمثابة البطل، فيما يغيب المعنى، الذي يمكن أن يتمثل في صورة رمز شعري كبير، أو موسيقي مهم، أو فنان تشكيلي مؤثر، أو مطرب عميق الجذور في الوجدان العراقي، أو ممثل له تاريخي الفني المعروف. أيها المعلنون الأفاضل، ماذا تعرفون عن تاريخ العراق الثقافي والحضاري المعاصر، هل سمعتم بـ عبد العزيز الدوري المؤرخ العالمي، أو سيار الجميل، هل تعرفون حسين علي محفوظ وحسين أمين، هل تتذكرون الشيخ الدكتور أحمد الكبيسي أو السيد أياد جمال الدين، أين نصير شمة وفؤاد سالم وحسين نعمة، أين بدري حسون فريد ومظفر النواب وسعد الطائي ومحمد غني حكمت ومالك المطلبي، وعبد الرزاق عبد الواحد بعينه على بغداد، نعم عبد الواحد القامة الشعرية السامقة، أين كوكب حمزة وقحطان العطار ورافع الناصري وعبد الله إبراهيم وسعيد الغانمي وفاضل ثامر وجواد الأسدي وفالح عبد الجبار وكنعان مكية وصلاح القصب،ورموز الرياضة فلاح حسن هادي أحمد والكثير الكثير من الرموز الثقافية، التي ترفع رأس وعين العراق، ألم تتحدث الحكومة عن المصالحة الوطنية ؟ أفليس الأجدر بنا أن نتصالح مع رموزنا الثقافية أولا، أم أن لعبة المحاصصات تبقى فاردة بقلوعها على الواقع.
العائق الأبرز الذي تعاني منه المادة الإعلانية المقحمة في ساعات البث الفضائي، راحت تتداخل مع المزيد من إعلانات الرفاهية التي يتم بثها، فبعد طرح المشكل العراقي، يتم صدم المشاهد بطرح إعلان عن مادة شامبو أو مسحوق غسيل أو سيارة فارهة، حتى يتم التداخل والاختلاط، إلى حد الرثاء الذي يتداخل بالسخرية، إنه التوهين والترقيع لمسألة جادة، يتم استيعابها في وسيلة تجارية، لاهم لها ولا غاية تعن عليها سوى الربح، وعبر هذا الوسيط التجاري، يتم تحويا المسألة العراقية، من قضية تحمل معنى، إلى مجرد مسألة تجارية قائمة على الربح والخسارة والمساومات المباشرة.
التفاوض على المعنى
ما هو الجمهور المستهدف للإعلان العراقي، هل هو الجمهور العراقي الذي يعرف التفاصيل وتفاصيل التفاصيل، أم الجمهور العربي، ذلك الذي يعيش لوثات الحزن والأذى والاضطراب وفوضى المشاعر وتوزعات الأسى وخيبات الأمل.ترى من ذلك الذي يهتم بالإعلان الذي يتم تكراره بطريقة لافتة، وبسياق إيقاعي يتكرر أحيانا مع ضغطة الزر على جهاز (الريموت كونترول).
ما هو الحد الفاصل بين المعنى المستهدف للإعلان الرسمي العراقي، وقصدية التأثير، هل هي الرغبة بكسب التعاطف؟ هل هي المحاولة للشرح والتفسير والتبرير؟ هل وهل وهل؟؟؟؟ وكيف يمكن ترصد مجال التفاعل، مع العراقي في الداخل أم في الخارج؟ مع المشاهد العربي، الذي لم يعد يعرف عن العراق سوى انقسامه إلى سنة وشيعة، وأكراد وعرب، حتى بات يباشر كل عراقي يقابله، بسؤاله عن أصوله العرقية و الطائفية.
مشاهد يتم تقديمها ولكن بأي رمز، هل هو الوطن الواحد، أم أنها تقوم على فكرة يراد تسويقها؟ وكيف يتم معالجة فكرة الاختلاف والتنوع، هل يكون الاستناد إلى طريقة التلقين أم الإقناع، وعلى هذا يكون السؤال حول مجال دور النقد والحدس والفرضيات، في هذا التواتر من الفلاشات الإعلانية، تلك التي تعتمد مبدأ الالتباس والادعاء بالمعرفة الكاملة والعليمة، من خلال محاولة اختصار كل شيء، في رسالة إعلانية تدعي الإمساك بخيط المعنى، ولكن أي معنى؟!
أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب الملاحقة القانوينة
التعليقات