تواجد الإنسان بها منذ نصف مليون عام

كامل الشيرازي من الجزائر:تشتهر مدينة quot;تمنراستquot; الجزائرية (1800 كلم جنوب العاصمة) بكونها ملحمة الرجال الزرق وهم quot;الطوارقquot; أو quot;أهل اللثامquot; الذين اشتهروا بكنية quot;الرجل الأزرقquot; لتفنّنهم في ارتداء الكوفية والعمامة الزرقاء، وكذا للون بشرتهم اللافح، حيث تحدى هؤلاء منذ قديم الزمان، مصاعب الصحراء الكبرى، وحوّلوها إلى متحف فريد، فأينما توجهت نحو أضلاع السلسلة الجبلية الشهيرة، وتحفتي الطاسيلي والأهقار، كما ضاحيتي quot;تين زواطينquot; وquot;تازروكquot;، تحس وأنّك تتلمس حضارة العصر الحجري، وأنامل الإنسان الأول في منطقة دلت الحفريات، على تواجد الإنسان بها قبل نصف مليون عام.


وقال دارسون ورواة لـquot;إيلافquot;، إنّ عمر موقع quot;الأهقارquot; الذي يمثل عمق quot;تمنراستquot; يتراوح بين 600 ألف سنة ومليون سنة، دلالته عشرات الآلاف من الصور المنقوشة على الصخر وأشكال لا حصر لها من الرسوم، وكهوف وملاجئ وأشياء مصنوعة من الحجر، وشهدت quot;تمنراستquot; عديد الحضارات الإنسانية، اعتبارا من الحضارة الإيبيرية- المغاربية (13000-8000 ق.م)، وصولا إلى الحضارات القفصية نسبة إلى الفترة التي قامت فيها حضارات مشابهة في قفصة في تونس (7500 إلى 4000 ق.م)، بالإضافة إلى حضارات أخرى في مناطق متفرقة من الصحراء.


ولا يعرف أحد بالتحديد الأصول التاريخية للشعب الأول الذي أمّ quot; تمنراستquot;، حتى وإن كانت إشارات قوية تجمع على أنّ البربر الأمازيغ، كانوا من أوائل الشعوب التي استوطنت المنطقة، حيث مارسوا الصيد، ثم تحولوا إلى نشاطي الرعي والزراعة، وانتظموا في تجمعات قبلية كبيرة، أطلق عليهم المؤرخون الإغريق تسمية quot;ليبيونquot;، وعرفوا عند الرومان باسم quot;نوميديونquot; وquot;موريسيونquot;، غداة تأسيس إحدى قبائل البربر النوميدية دولة مستقلة قادها الملك ماسينيسا، دامت الدولة قرنا من الزمن حتى مجيء الرومان وخلعهم لآخر ملوكها يوغرطا. أصبحت المملكة جزءا من الإمبراطورية الرومانية.


ويعيش quot;الطوارقquot; الذين يكنّون باللغة الأصلية القديمة quot;إموهارquot; (مفرد أمهار)، في نظام اجتماعي خاص يقوده السلطان المكنّى quot;أق أخموخquot;، وقد أقام الطوارق في الصحراء مشتتين إلى قبائل، وقسمت أراضيهم إلى عدة أجزاء، ويصل عددهم حاليا إلى مليون quot; طرقي quot; يتوزعون على الجزائر حيث يعيش حوالى 200 ألف ترقي في تمنراست وجبال الاهقار وبجانب الطاسيلي، ويعيش الجزء الأكبر من الطوارق في النيجر وخاصة في أقاديس، ويتمركزون في مالي في منطقة قاوو، ويوجد الآلاف منهم في بوركينافاسو وليبيا. ويغلب الطابع الطبقي على مجتمع الطوارق، وحاكمهم العام يدعى quot;أمينوكالquot;، ولكل قبيلة مسؤول يسمى quot;أمرارquot;.


وتقول الأساطير إن المرأة الطارقية تدعى quot;تين هينانquot; بمعنى quot;أم الأشرافquot;، ما يعكس الشأن الكبير للمرأة في مجتمع الطوارق، ويعيش أفراد هذا المجتمع من تربية الجمال والغنم، ويتخذون من الخيم ملجأ لهم. أما لغة الطوارق المسماة quot;إموهارquot;، فهي مشتقة من لهجة بربرية تسمى quot;تماهاكquot; أو quot;تماشكquot; بالنيجيرية، والحرف الذي تكتب به هذه اللغة يدعى quot;تيفيناغquot;، والقليل من الطوارق اليوم يجيد كتابة لغتهم، الا ان غالبيتهم يتحدثون العربية بطلاقة.
ومع مجيء العرب في القرن الثامن الميلادي. أدخل هؤلاء الإسلام إلى المنطقة، التي عرفت البلاد قيام أولى الدول الإسلامية المستقلة (الأغالبة، الرستميون، الأدارسة)، ومع ظهور الفاطميين تغير تدفق الفتوحات إلى الخارج ففتح هؤلاء بلاد مصر و الشام والحجاز، ثم تركوا البلاد إلى جهة الشرق، وعرفت المنطقة نزوح العديد من القبائل العربية لاسيما (بنو هلال وبني المعقل) بتشجيع من الفاطميين، وابتداء من القرن الحادي عشر الميلادي، سيطر على تمنراست العديد من السلالات البربرية (الزيريون، الحماديون، الموحدون، الزيانيون، الحفصيون، المرينيون).


واستمر الحال بتمنراست كذلك، إلى غاية سطوع نجم الدولة العثمانية في الجزائر في غضون القرن السادس عشر الميلادي،حيث تعرضت كباقي مناطق البلاد لحكم الأتراك بقيادة الأخوان quot; خير الدين وعروج بربروسquot;، وبعد قيام فرنسا باحتلال الجزائر سنة 1830 م، لقي الفرنسيون مقاومة شديدة من طرف السكان، وقاد الأمير عبد القادر حركة المقاومة في غرب البلاد، بصورة أخرت سيطرة الفرنسيين على البلاد، وكانت تمنراست آخر حلقة في مسلسل استعماري بغيض، عندما أكمل الفرنسيون احتلال الأهقار سنة 1900 م عندما تمكنوا من إخضاع الطوارق، وقد حوّل الفرنسيون تمنراست كغيرها إلى مقاطعات مكملة لبلديات فرنسا، نزح أكثر من مليون مستوطن (فرنسيون، إيطاليون، إسبان..) وفيما اعتبرت فرنسا كل المواطنين ذوي الأصول الأوروبية واليهود أيضا، مواطنين فرنسيين لهم حق في التمثيل في الجمعية الوطنية ( البرلمان)، ما تسبب في إخضاع السكان العرب والبربر على حد سواء إلى نظام تفرقة عنصرية.


في تمنراست اليوم، صارت المدينة بموقعها المنتصب على قمة جنوب الأطلس الصحراوي، وهي قمة تاهات، حيوية بما تضخّه هضابها الصخرية اللاهبة، وسهولها الحجرية التي تتخللها منطقتان رمليتان: العرق الغربي الكبير والعرق الشرقي الكبير، هذان الأخيران ظلا يمثلان مساحات شاسعة من الهضاب الرملية، في حين يعكس موقع الأهقار الفسيح، أفاريز العصور القديمة بأنواع من الحيوانات المنتمية إلى فصيلة الثدييات وطيور نادرة وأنواع من الزواحف والحشرات.


وعلى مسافة 200 كلم دائما في محيط quot;الأهقارquot;، يكتشف الزائر سلسلة quot;الطاسيليquot; التي صنفتها اليونيسكو تراثا عالميا عام 1982، كما اعتبرتها المنظمة ذاتها خزانا للبحوث العلمية حول الإنسان والحيوان. وتبلغ مساحة الطاسيلي 10 آلاف هكتار وتضم آلاف النقوش الصخرية التي تعكس جانبا عن صراع الإنسان في سبيل كسب قوت يومه، من خلال صور مطاردة الغزال وحيوانات أخرى. وتوجد في الموقع قصور مبنية بالصلصال والخزف على طول واد جاف.


ويقع في شمال طاسيلي، ما يعرف بـquot;طاسيلي نويدرquot; وإلى الشرق quot;طاسيلي الناجرquot; وإلى الجنوب الشرقي quot;طاسيلي أنهقارquot; وquot;طاسيلي إين روحquot;، وفي الجنوب توجد جبال أخرى تنتمي الى الطاسيلي تدعى quot;طاسيلي سيساوquot; ويغطي quot;الأهقارquot; وquot;الطاسيليquot; مساحة 55 ألف كلم مربع، أي ما يعادل ضعف مساحة بلجيكا، ويقع quot;طاسيلي أنهقارquot; على بعد 100 كلم فقط من الحدود مع النيجر، بينما يقع quot;طاسيلي الناجرquot; بالقرب من الحدود الليبية، وتظهر بعض السلاسل الجبلية في شكل قبب ضخمة، وبعضها الآخر عبارة عن أفواه كلاب مكشرة الأنياب.


مدينة تمنراست التي تقع أصلا في قلب المرتفعات المكونة من جبال صخرية تحيط بها ما يشبه هضاب علوها 2000 متر، وquot;الأهقارquot; عبارة عن سلسلة جبلية يصل ارتفاعها إلى 3 آلاف متر، وتدعى quot;الآتاكورquot; أي quot;الرأسquot; باللهجة الترقية التي يتحدثها quot;الطوارقquot;، وقد صنفت منظمة اليونيسكو السلسلة الصخرية ضمن التراث الأثري، واعتبرتها منهلا للباحثين المختصين في الجداريات العظمية للحيوانات المحلية التي عاشت في المنطقة قبل مئات الآلاف من السنين.


وتستوعب مدينة تمنراست عدة مسالك ودروب، بدءا من مسلك الأسكرام، الواقع في شمال تمنراست، الذي تنحدر منه مياه عذبة من ثنايا الجبل تخترق صخوره لتركد في بركة صغيرة قرب سفحه يقصدها الطوارق لإرواء عطشهم، وليزود جماله ما تحتاجه من الماء لمتابعة الرحلة، كما نعثر على مسلك الاكتشاف: وهو عبارة عن واحات تقع إلى شرق تمنراست، إضافة إلى مسلك النحوتات الأثرية: يقود من تمنراست إلى مدينة جانت، ويعود تاريخ هذا الطريق إلى 6 آلاف سنة قبل الميلاد.