الموت: هذا النص المعتم الذي يوحي عادةً وكأنه يختطف المعاني والأشياء كي يرميها إلى وحشته الموحشة!!
الموت: هذا المنـزلق، القادم أبداً دون أن يهتم به أحد، المغتصب الذي لا مرد له، المتوج بعتمته .. بقسوته القاسية!!
الموت: الفراغ الذي يستولي على الزمن ويكسره، على ضجيج الدنيا ويكسرها كي يتماهى الكلُّ في ماهيته المفزعة: الهباء!!
ولكن
إذا عدنا إلى معنى الوجود وتجدد الحياة، وبعيداً عن التخفيف من وطأته، نجده في الغالب ليس كذلك. فهو الموت!! ليس نقيض الحياة كما نظن بل هو نصف حكمتها، نصف جمالها الغريب حقاً!! فمن غرابته يُصبح الأليف أليفاً، ومن فراغه يصبح العميق عميقاً مفعماً بحضوره، ففي مواجهة الموت تُصبح الحياة حياةً.
ليس الموت هو المفزع والموحش بل ما يوحش ويُفزع هو الخوف منه. هذا الخوف الذي يؤدي عند المعطوبين روحياً إلى الخضوع له والاستلاب أمام وحشته، فيصبح هاجس الخوف من الموت عندهم، اضطراباً سلوكياً يتجسد على هيئة خوف من الآخرين، من حقيقة الآخرين ومن حقوقهم. هذا الخوف المرضي هو الذي يجعل الإنسان العدائي عدائياً والجلاد جلاداً والمبتذل مبتذلاً .
فالموت في سياقه الطبيعي ليس نقيض الحياة، بل هو نصف حكمتها. وهذا ما يفسر لا أبالية الإنسان إزاءه وانشغاله بتفاصيل إنسانيته وحياته اليومية بما في ذلك المساهمة في تشييع الموتى وحضور مراسيم دفنهم كجزء من ممارسة الحياة.
الموت هو الوجه الآخر للوجود، هذه هي عدالة الحياة على فداحتها، محكومة بقوانين أزلية متجددة. وهكذا تستقيم الدنيا عند الإنسان الممتلك لإنسانيته، فهو يحيا ويموت مـمتلـئاً بمعنى الحياة مدركاً لنصف حكمتها الآخر. ومن لا أباليته العميقة إزاء الموت يكتشف جماليات الدنيا في المتعة والصراع والنوم والرياضة والحوار ومواجهة القهر بالصخب حيناً وبالضحك حيناً آخر. على عكس المفزوعين من الموت حيث تسكن وحشته في لا شعورهم، المصابين بشراهة الروح والغريزة، الذين يتحولون في عدوانيتهم إلى ما يماثل الموت بل وأسوأ منه في كثير من الأحيان.
هؤلاء المرعوبون من الموت يظلون مرعوبين من حياة الآخرين، هم الذين يعممون جحيمهم الشخصي على الدنيا على هيئة حروب عامة أو عداوات شخصية، هؤلاء هم المرشحون ليس للفشل بالضرورة بل للسقوط الدائم تحت وطأة الشعور بالفشل. هذا الشعور الذي يتحول إلى نمل أعمى يأكل بأرواحهم وضمائرهم وإيقاع أيامهم!!
هذا الاحتدام بين نمطين من السلوك البشري لم يأت اعتباطاً بالتأكيد، بل هو نتيجة لتراكم المفاهيم المشوهة في الثقافة الإنسانية عبر صراعات جماعية وفردية طويلة ومعروفة، لكنها ظلت دون حسم، ومن هنا جاءت ضرورة إعادة تأليفها وعرضها مسرحياً على الجمهور ذاته، بمواقفه المتباينة والمتناقضة. عرضها أمام الضحية والجلاد معاً. الجمهور ذاته الذي يؤلف ويعرض مسرحه في الهواء الطلق يومياً حيث كلّ ُ ُ يؤدي دوره دون مُـخرج ودون إرادة ( الممثلين ) ورغبتهم في الغالب. وسيكون بوسعنا الحديث عن ( مُـخرج ) من نوع آخر هو النسق الحضاري السائد في بلد معين، حيث يطبع أساليب التفكير والإيقاع الاجتماعي بطابعه.
لنـتأمل إذن في حكمة المسرح، في حكمة الإنسان الذي أكتشف المسرح داخل الدراما الاجتماعية والتاريخية الواقعية، أو ابتكر أشكالاً أخرى لعرضها كي تضع الإنسان أمام ذاته وتجاربه وحماقاته!! كي تضع الجمهور أمام ضجيجه وهفواته وشهقته الأخيرة على الأحلام الضائعة!!
مكتشف المسرح أو مبتكره لم يـبتكر التمثيل بل أكتشفه في سلوك الإنسان!! ماذا يعني الالتزام بالعادات وتغير تصرفك عندما تنتقل من إنسان أقل منك شأناً إلى إنسان مساوٍ لك في القيمة ثم إلى آخر أعلى منك أهمية أو مركزاً ؟! إلا يحدث أن يؤدي الإنسان ثلاثة أدوار خلال نفس اليوم أحياناً ؟! يحدث هذا طبعاً دون أن يكون الإنسان قد زيف موقفه من الآخرين، بل هذا ما تفرضه التقاليد في كل مجتمع مع اختلاف السلوك في الدرجة لا في الجوهر، دون أن يعني ذلك خلو الأمر من ذلك الإنسان المزيف الانتهازي الذي يتلاعب بكل ما يستطيع التلاعب به من أجل الوصول إلى ضالته بغض النظر عن مشروعية ما يقوم به أو عدمها.
إن ابتكار المسرح في الأصل يعتمد على فلسفة أخلاقية، دون أن يعني هذا أن على المؤلف أو المخرج أن يكون قاضياً بالضرورة إلا لناحية التقيد بالمنطق الموضوعي لعرض الأحداث وتطور مواقف الشخصيات، لأن من يقرر مصائر الشخصيات وفحوى العرض المسرحي هو السياق الموضوعي للأحداث، وليست رغبات المؤلف أو المخرج.
فلسفة المسرح أخلاقية وموضوعية في نفس الوقت، لا تعتمد على النصائح والموعظة بل على منطق الصراع وعدالة الحياة. في الحياة وكذلك في المسرح لا يـمكن أن يكون الإنسان مجرماً وبطلاً في نفس الوقت.
إنه البحث الشاق عن الحقيقة، وذلك الخيط الرفيع الذي يفصلها عن الزيف. بحث ودراسة في سلوك هذا الكائن الوعر المدعو بالإنسان!! هذه هي مهمة المؤلف والمخرج وليس اعتماد المقولات الجاهزة.
البحث والدراسة لإعادة طرح موضوع العدالة، لإعادة طرح معطيات التاريخ والأزمة الإنسانية كما هي، أي وضع الجمهور أمام الحقائق والأسئلة الصعبة بعيداً عن الأوهام والتضليل الأيديولوجي .
أما الوجه الآخر أو بالأحرى الوجه المضاد لهذا التوق المسرحي الإنساني، فهو غالباً ما يحدث وراء الكواليس، كواليس السياسة أو السوق أو العائلة أو كواليس الحياة اليومية أو كواليس الضمير الجبان. فاللصوص والفاشلون أو المصابون بعقدة الشعور بالفشل، والخائفون من حقوق الآخرين وحريتهم، يريدون تحويل الحياة ذاتها إلى ( مسرح ) وإنهاء الأدوار العفوية أو تلك التي تفرضها الضرورات اليومية في سياقها الطبيعي ، وتحويل البشر إلى ( ممثلين ) ولكن بأقنعة مُعدة سلفاً، أقنعة يجب على الناس أن يدمنوا عليها إلى درجة ينسون معها حقيقتهم وملامح وجوههم الأصلية. فاللص أو الفاشل أو الفاشي، حاكماً كان أم محكوماً، لا يستطيع العيش تحت وطأة الفضيحة التي يمثلها موقفه الشاذ، بدون قناع وأدوار مُعدة مسبقاً.
وفي نفس السياق فإن اقتصار الأقنعة عليهم وحدهم يجعلهم أمام فضيحتهم دون رتوش، لذلك فهم بتحويل الحياة ذاتها إلى ( مسرح ) إنما يريدون تعميم الفضيحة على الجميع، حيث تتحول الحياة ذاتـها إلى كذبة، إلى حفلة أقنعة. أقنعة مضطربة على وجوه مضطرة ومضطربة، فيصبح الكذابون ومديرو عملية الكذب والمستفيدون من الكذب في واجهة المشهد، فالساقط تحت وطأة الشعور بالفشل نتيجة خوفه من حقوق الضحايا وحقيقة وجوههم، نتيجة خوفه من الفضيحة بعد ترسخ شعوره بـها، تدفعه لا سويته إلى إلغاء معنى الحقيقة أو إمكانية ظهورها لاحقاً، إلى إحلال الموت في غير وقته ومحله. إحلال كل شيء محل نقيضه أو قلب الأمور على رأسها وترك المشهد يعيد عوامل الاضطراب المرة تلو الآخر كي لا يتسنى لأحد أن يلتفت وينـتبه إلى ما يدور حوله!!
وهكذا فبالنسبة لمديري عملية الكذب، فأن إحلال الموت في غير وقته أو محله، يُصبح ضرورة لازمة ، لأنه إذا جاء الموت في سياقه الطبيعي، هذا يعني أن هناك حياة يجب أن تعاش وأن تستمر في سياقها الطبيعي أيضاً، وهذا ما لا يمكن السماح به بعد أن تحولت الحياة إلى خديعة كبرى!! يقول الشاعر مداح الديكتاتور: ( لقد سقطت، أنا ساقط. لا أستطيع أن أؤدي دوراً آخر ، أنتم تطلبون مني المستحيل. ) ( ع.ع )
إذا كان الموت موتاً هذا يعني أن هناك حياة يجب أن تُعاش. إذا كان الزيف زيفاً هذا يعني أن هناك حقيقة يجب أن تُرى وتلمس. إذا كان القناع قناعاً هذا يعني أن هناك وجهاً لا بد أن يظهر بعد أن تنتهي مهمة أو ضرورة القناع. لكن اللص والفاشل والفاشي داخل السلطة وخارجها، لا يعرف معنى لبهجة الحياة وقد تحول وجوده إلى إشاعة لتعميم كآبة والخوف والموت، لا يستطيع أن يعيش مع وجوه الآخرين وحقيقة وجودهم، لا يستطيع أن يعيش إلا بسرقة المعنى والإيقاع، لكي تستمر حفلة الأقنعة خامدة دون بـهجة أو ظلال!! لذلك فهو ضد وجود التمايز بين الوجهين الطبيعيـين للظواهر: الحياة والموت، الحق والباطل، الخير والشر .. وهما طرفا الصراع الأساسيان في الدراما منذ الإغريق لحد الآن!!
من هنا تأتي أهمية المسرح، ومن هنا نعرف أن من ابتكر المسرح لم يكن يلهو بل هو يريد تسليط الضوء على تجربة القتل التي مورست وراء الكواليس بصفتها بروفة أو عملاً اضطرارياً لكنها تحولت بالتكرار إلى لعبة مخيفة أغرقت العراق بالدماء لعقود متتالية. لا بد إذن من إعادة الحياة إلى تلك الصرخات المخنوقة في زوايا القاعة، لا بد من جمع الأقنعة، جميع الأقنعة ووضعها على قارعة الطريق ليرى الجمهور تاريخ الديكتاتورية على حقيقته. لا بد أولاً من فضح ( مسرح اللامعقول ) الذي أسسه وأداره صدام حسين وطارق عزيز وكنسِ آثار نصوصه ووجوه وأقنعة ممثليه من شوارع العراق وأحلام الناس وملاحقة أشباحهم داخل الكتب والمشاعر والمقاهي.
لا بد من عودة الإنسان العراقي إلى إنسانيته كي يعود المسرح إلى الواقع ومنطق الحياة. فالمسرح بـهذا المعنى رفض لإشاعة الكذب وتحويله إلى عادة اجتماعية، لأن ( التمثيل ) المفتعل في الحياة اليومية هو كذب وخيانة، بينما التمثيل على المسرح هو تقمص لدور وتجلٍ للشخصيات في صعودها وهبوطها. والفرق كبير بين ذلك الكذب وهذا التجلي، بل هو التناقض في أوضح صوره. الكذب سلوك عادي وابتذال بينما التقمص يقترن بنبل الموهبة الإيجابية والتفرد، التفرد بأقصى درجات الصدق الإنساني. لذلك يقولون أن المسرح رفض، أي مواجهة بالمعنيـين الإبداعي والمعرفي، مواجهة الذات والآخر معاً.

[email protected]