انطلق في فهمي لحاضر العراق ومستقبله من قراءة معينة لتاريخه المعاصر. اقول- وأختصر- ان مشكلة العراق السياسية الاولى هي مشكلة اخفاق مسيرة اندماج مكوناته الاجتماعية المتنوعة اندماجا سلميا.
هناك ثلاثة اسباب رئيسية لهذا الاخفاق.
السبب الاول، على مستوى الدولة، قلة رجالات الدولة من الوزراء والادرايين والمسؤولين الذين يسهرون على تأسيس مؤسسات الدولة الوطنية اللاشخصانية. رجالات دولة يعملون لصالح انفسهم ولكنهم يتجاوزونها ايضا. هم يعرفون ان وجودهم من وجود الدولة. وهم جزء من كيان موضوعي يقوم ويحيا خارجهم. ويستمر بعدهم. كانت اعداد رجالات الدولة ابان العهد الملكي (1921-1958) قليلة لكنها اكبر مما اضحت عليه في العهد الجمهوري. فقد استلب العسكر بواسطة انقلاب 14 تموز 1958 مسيرة تكوين مؤسسات الدولة واحلّوا، بدلا عنها، ماكنة السلطة الحكومية. وشتان ما بين سلطة الحكومة وسلطة الدولة. اما بعد انقلاب 1968 البعثي فقد اُختتطفت عملية الاندماج كليا من قبل العشيرة. وانبثقت شمولية الدولة الطائفية.
السبب الثاني، على مستوى الفعاليات السياسية، هو تغلب اليات الصراع العنفي على موارد البلاد على حساب العمل السياسي، سلميا. تبادل العنف والسياسة السلمية اماكنهما ابان العهد الملكي بين فترة واخرى. وانتصر العنف مع انقلاب 14 تموز. وصار بعد انقلاب 1968 اسلوبا ثابتا لادارة السلطة والحياة، ايضا.
السبب الثالث، على مستوى الحكومات المتعاقبة منذ سنة 1921، هو احتكار القوى المسيطرة على الدولة لموارد البلاد السياسية والاقتصادية. كانت مظاهر الاحتكار قائمة اثناء العهد الملكي. وصارت شرسة بعد انقلاب 14 تموز. واصبحت واقعا شاملا بعد الانقلاب البعثي 1968.
حصاد مسيرة الاندماج وتكوين الدولة
تبين تجربة اندماج المكونات الاجتماعية في دولة جديدة اسمها العراق انه لا يمكن إقامة الدولة في ظل قلة اعداد رجلات الدولة واهتمامهم بمصالحهم الانانية فقط على حساب المجتمع والدولة. ولايمكن اقامتها في ظل الاحتكار والعنف. واذ يسعى الكل لمصالحه الجزئية على حساب الاخر فانه لن تتحقق فكرة الوطن للجميع، لكل الناس. ولن تنشأ هوية وطنية جديدة.
ان تنوع مكونات المجتمع العراقي بطوائفه وقومياته ومذاهبه يشكل عنصر غنى ثقافيا وروحيا واجتماعيا. ولكن فقط اذا استثمرت هذه المكونات بعقلانية وعدالة وفي اطار سلام وطني بينها. بخلاف ذلك يمكن لهذه المكونات ان تحمل في طياتها قنابل قابلة للانفجار والتدمير. يحدث ذلك حينما يتسلط عنصر من عناصرها على الكل المتنوع محتكرا موارد الكيان المادية والسياسية والقيمية ليعيد تشكيلها وتوزيعها على هواه.
اساس تكوين الدولة: الولاء الوطني
عند النظر لواقع الحالة السياسية في العراق ومستقبل تطوره على طريق وطني ديمقراطي فمن الضروري التمييز بين بعدين اساسيين مختلفين، تحليليا، وربما تكتيكيا ايضا ولكن مترابطين استراتيجيا. البعد الاول يتعلق بضرورة خلق اليات الحكم السياسي من حكومة ووزارات ومؤسسات ادارية وسياسية وغير ذلك مما يتطلبه أي نظام حكم. وبعد أخر يتعلق بخلق اساس مرجعية وشرعية الدولة. أي خلق اسس التواجد المصيري المشترك لجماعات اجتماعية مختلفة يمكن ان تتفق او لا تتفق على العيش المشترك.
فقبل ان يتفق اهل العراق على طريقة حكم الجماعة، عليهم ان يتفقوا اولا فيما اذا كانوا يشكلون حقا جماعة مشتركة.
وقبل ان يتفقوا على خلق اليات صنع القرارالسياسي المفروض على الجميع عليهم ان يتفقوا على مبدأ الانتماء المشترك.
من هنا، فان اي ترتيب مقبل لنظام الحكم السياسي للكيان يجب، بالضرورة، ان يتمفصل على تنظيم اسس تكوين وقيام ومستقبل هذا الكيان.
ان تكوين دولة قانون في العراق- أي دولة قائمة ليس على الاقرار الفعلي بالتعددية الاجتماعية والفكرية السياسية فحسب وعلى مساواة سياسية تامة تصونها مؤسسات مستقلة- هو المرحلة الاولى والاساسية على طريق التطور السياسي لعصر ما بعد صدام حسين.
الاندماج السياسي القائم على مشروع الدولة الوطنية يفترض انخراط الناس والمكان والدولة في كلٍ واحد على اساس فكرة الولاء الواحد لمؤسسات سياسية لا شخصانية. علاوة على ذلك، فان آليات تكوين الوحدة والولاء السياسي الوطني في ظل تعددد وتشظي اجتماعي لا تنجح، بالضرورة، الا إذا تمكنت المكونات المختلفة من تعريف نفسها ومصالحها الاقتصادية والسياسية والثقافية، طوعيا، ضمن المشروع الوطني
lسؤوليات الفعاليات السياسية
ما من هوية جماعية تتشكل وتنمو إلا مع نمو ولاء الناس لها ونشوء منظومة قيم ومعايير ورموز مشتركة تربطهم معا. وفي العراق ترسخت العديد من القيم الاخلاقية والرموز الحضارية والمصالح الاقتصادية المشتركة منذ زمن طويل بين مختلف مكوناته الاجتماعية.
وفضلا على وجود قواسم مشتركة فان ثمة معطى معاصر فادح المعنى يمكن ان يشكل، اذا استثمر بصدق وحماسة انسانية، عنصرا حاسما من عناصر منظومة القيم والرموز الموحدة لكل مكونات العراق. انه المعاناة الدامية التي مرت باهل البلاد، على أختلاف ولاءاتهم واصولهم، على يد ألاستبداد الشمولي الطائفي. فضحايا العنف والقهر هم في كل مكان في العراق. . ان اقامة محاكمات عادلة لمجرمي النظام السابق والعناية الخاصة بالمقابر الجماعية والسجون السابقة يمكن ان يقيم رموز مهمة على طريق خلق المعاني الوطنية المشتركة. ليس ثمة اسمى وامتن من اخوة المقهورين وضحايا الطغيان.
ان أي بديل سياسي، قائم، مثلا، على وازع اخلاقي ديني مثالي (الحركات الاسلامية) او مثال ثوري تغييري راديكالي (الاحزاب الماركسية واليسارية اللبرالية) او دافع قومي عربي (الاحزاب القومية) او وازع قومي استقلالي (الاحزاب الكردية) لابد ان يتغير، داخليا، ليستند على وينطلق من الولاء لدولة القانون الوطنية
يفترض أي نمو لسياق سياسي، وطني ديمقراطي ان تنشأ احزاب عريضة تضع هدف التغيير الاجتماعي والتحويل الوطني الديمقراطي للعراق موضع الاولوية الحاسمة. ومن الضرورة القاطعة، بالطبع، ان يتوجه ولاء كل التنظيمات السياسية في العراق اولا وقبل وكل شيء الى دولة القانون ومؤسساتها السياسية. مثل هكذا ولاء سيتطابق مع ماهية الهوية الوطنية المشتركة لمكونات العراق المختلفة. من هنا لابد للتنظيمات السياسية في العراق ان تكيف مراميها السياسية الهادفة- ضمنيا او بصراحة- الى تكريس نماذجها الخاصة للبديل السياسي والمرجعية السياسية ليتلاءم في الجوهر والاساس مع هذا الولاء.
العمل بدستور منبثق من اجماع اجتماعي ووطني عام. وانتخابات نزيهة والتزام قانوني ثابت بحريات الناس السياسية والمدنية، انتخابات يحترم نتائجها الجميع. هذا هو الطريق الوحيد المتاح لتأسيس شرعية الدولة الوطنية. والاساس الوحيد لتنمية الاندماج الوطني، سلميا وطوعيا.
التعليقات