حينما سئل هنري كيسنجر عن العراق، قال" العراق طائر بثلاثة أجنحة، أحد أجنحته يعوقه عن الطيران". هذا التعريف يضمر دلالات مجازية كثيرة، لكنه يحيل على وقائع لها صلة بتاريخ العراق الآن. والحديث عن طائر بثلاثة أجنحة يذكر بقولة الشاعر الفرنسي"فاليري"بأن "الذئب خراف مهضومة". بعض أصدقائي يؤكدون أنه قال" الأسد" لكني أجد أن علاقة الذئاب بالخراف أكثر اطرادا، وأرجح أنني قرأت ذلك منذ نحو ثلاثين سنة في الكتاب الكبير الذي أعده"عبد الغفار مكاوي"بعنوان" ثورة الشعر الحديث" وشغف به جيل كامل من قراء الشعر مثلي في ذلك الوقت، ويحتمل أن يكون" فاليري" قال"الأسد" على سبيل الإغراب والإبعاد، وهذا متوقع من صاحب"المقبرة البحرية".
ثمة اختلاف كبير بين السياقين اللذين وردا فيهما التعريفان المذكوران، ففاليري يتحدث عن الشاعر الذي هو خلاصة تجارب الآخرين، كالذئب الذي هو خلاصة الخراف المهضومة. فهو كائن جديد مختلف عن الشعراء الذين سبقوه، أما تعريف كيسنجر فهو مباشر، وإشكالي، يعبر عن جانب من السجال الناشب حول العراق: واقعه، مستقبلة، وهويته، فالمشبه به صار أكثر حضورا في "الميديا" يتداوله كثيرون، بدون تردد، كحقيقة مطلقة، أقصد بذلك التركيب العرقي- المذهبي في العراق، الذي ارتسم في المخيال العام كخطر يهدّد وحدة بلاد الرافدين، بدل أن يكون ميزة لتنوعها الخلاق، فحينما تكون المجتمعات على مشارف تحولات كبرى (جيدة أو سيئة) ترتسم المخاوف كنذير كارثة، وتتجه الأفكار إلى تضخيم المخاوف، وذلك أمر يرافق إعادة تعريف الهوية الذي كتبت عنه في هذا المكان قبل نحو شهر، وأشرت فيه بالتفصيل إلى أن نحواً من ست وستين جماعة ثقافية وعرقية ومذهبية ولغوية تعيد تعريف نفسها الآن في العراق، ومن المحتمل أن تتطرف بعض الجماعات في غلواء التمسك بالتعريف الجديد، أو تلجأ إلى العنف للحفاظ على تعريفها القديم لنفسها، وتلوح بوادر ذلك الآن في بعض أنحاء البلاد.
ومع أن الأمر مفهوم في سياق إعادة تعريف المجتمعات لهوياتها، وإعادة ترتيب العلاقات بين مكوناتها، والجماعات التي تشكلها، لكن ليس من الخطأ التحسب من مخاوف حقيقية بخصوص طرق إعادة التعريف التي قد تدفع ، بصورة حقيقية، الجماعات إلى ممارسة العنف ضد بعضها، لأسباب تتصل بوجود الاحتلال الأجنبي للبلاد، وانتعاش التفكير الطائفي، والعرقي، وضعف أفكار الشراكة والتعايش وقبول الآخر، والانحباس في نطاق ضيق للهوية، وعدم التعرّف على مكاسب الهوية المركبة، الهوية الشاملة، الهوية الرمادية التي هي مزيج من هويات صغرى تضمن في آن خصوصية الجماعات وعموميتها، ناهيك عن تحول العراق إلى ساحة لصراعات إقليمية ودولية كثيرة مختلفة في أسبابها وأهدافها، وكل ذلك على خلفية من الأزمات اليومية البالغة التعقيد على كل المستويات.
ولكن ما الجناح الثالث الذي يعوق العراق عن الطيران؟ أعتقد بأن الجواب على هذا السؤال لا يخفف الاحتقان إنما يثير النقمة، إنه لا يحل معضلة إنما يخلق أخرى، فالمعضلات أكبر من المشكلات، وحلّ طرف منها يفضي إلى ظهور مشكلة أخرى فيها. الجواب عمّن يكون الجناح الثالث يرضي جماعة ويغضب أخرى في جو متهيج، مسكون بالقلق، وسيكون صحيحا بإطلاق لجماعة، وخاطئا بإطلاق لدى أخرى، فهذا النوع من الأسئلة الذي يحيل على مشكلات مباشرة في الواقع الاجتماعي العراقي ليس له أجوبة مطلقة إنما أجوبة نسبية، لأن كل جماعة(=جناح) لديها تصور محدد عن نفسها وعن غيرها، والجواب يكون صحيحا أو خاطئا بمقدار موافقته أو مخالفته لتصور الجماعة، ولن يتفق اثنان على مثل هذا الجواب.
ورث المجتمع العراقي خلال القرن العشرين ثقافة شبه مدنية (يصعب ادعاء كونها مدنية بصورة كاملة تتقبل دون تردد مكاسب الحداثة الاجتماعية والسياسية) ثقافة تخجل من الإعلان عن الانتماء الطائفي والعشائري، ومنذ منتصف القرن الماضي، انتعشت الأفكار المدنية، وبخاصة في الحواضر الثقافية الكبرى المنفتحة بسبب تنوعها الثقافي والديني والعرقي، إلى درجة اتخذ قرار في السبعينيات يمنع الألقاب العشائرية والقبلية( فهمه كثيرون على أنه يهدف إلى تذويب تلك التشكيلات والقضاء عليها) والمرجّح لديّ أن ذلك رافق نشوء الحس المدني في المجتمع العراقي الذي عاصر التحولات الاقتصادية والاجتماعية في النصف الأول من سبعينيات القرن الماضي، قبل أن يتم الإجهاز على تلك التشكيلات المدنية الحقيقية، وهي الأحزاب، والاتحادات، والنقابات، والجمعيات، والنخب الثقافية، والاقتصادية، والدينية المستنيرة، فانتعشت التشكيلات الأهلية الضيقة المغلقة كالقبيلة، والمذهب، والعرق، وأصبحت ركائز لقوة النظام الذي مارس من خلالها دوره في السيطرة على المجتمع، وينبغي القول بأن نشوء المجتمع الشمولي(التوتاليتاري) يسبقه هدم المكونات المدنية والأهلية الضابطة للنسيج الاجتماعي، بهدف تأسيس مجتمع هش بلا ركائز تسهل السيطرة عليه. وينبغي علي التنويه إلى أنني لست منتقصا للتشكيلات الأهلية بحد ذاتها ما دام الانتماء إليها طبيعيا لا يراد منه إضفاء التفوق والرفعة على الذات، وفرض الدونية على الآخر، فقد مارست نقدا لهذه المركزيات المتعصبة منذ عقد ونصف، ونشرت ذلك في أربعة كتب كبيرة( وصدرت خلاصتها في مجلد من الحجم الكبير يربو على 700 صفحة مؤخرا بعنوان" المطابقة والاختلاف") لكنني شديد النقد للانتماءات الضيقة القائمة على اختزال أيدلوجي للأعراق والطوائف، والمذاهب، التي تتميز بخصوصياتها ضمن الفضاء الاجتماعي-الوطني العام.
أعود إلى تعريف كيسنجر للعراق، فمن الواضح أنه يقصد بالأجنحة التشكيلات الكبرى للمجتمع العراقي: العرب الشيعة، العرب السنة، والأكراد، ومع أنه يغفل التشكيلات الأخرى التي لا تقل أهميتها تاريخيا وثقافيا عن التشكيلات المذكورة، فالاقتصار على المكونات الثلاثة يوهم وكأن العراق لا يتضمن سواها، فليكن للعراق مئة جناح، وفيه فعلا أكثر من نصف هذا العدد، شأنه في ذلك شأن كل دول العالم، ولا أعلم بوجود دولة في عالمنا كاملة النقاء عرقيا ودينيا وثقافيا، فميزة الدول بتنوعها، وثقافة التهجين هي التي ستميز قرننا بدون أي شك، أقصد الثقافة المهجنة من ثقافات متعددة، والهوية المنسوجة من هويات كثيرة، فلماذا يرتسم الخطر بالنسبة للعراق، ويعد ميزة لغيره؟ وأي من الأجنحة الثلاثة هو الذي يعوق طيران العراق؟
يتوهم كثيرون أن الشيعة بإطلاق يطمحون إلى شطب السمة العربية للعراق، وإطلاق عراق شيعي الهوية يعيد ربط نفسه بإيران، لتكوين هلال يخترق المجال السني في العمق، ويتوهم كثيرون أيضا بأن الحقوق القومية الطبيعية الكردية ستمزق البلاد، وسوف تنتهي بكردستان عراقية تكون مقدمة لكردستان كبرى تتربع بين إيران والعراق وتركيا وسوريا، ويتوهم كثر أن سنة العراق بإجماع يترنحون حزنا وبكاء على نظام جعلهم سادة البلاد، ووضع بيدهم مقدراته مدة طويلة، وكأن هذه حقيقة شملت السنة قاطبة. والحق فلا نعدم وجود متطرفين سنة وشيعة وأكرادا في هذا الموج المتلاطم من التطلعات المتعجلة التي يمور بها العراق الآن، وكثير من هذا يتردد في"الميديا" العربية والعالمية، ويتضخم، ويتورم، إلى درجة دخل بصورة خطيرة في وعي العموم كحقيقة وليس كجزء من توهمات الإعلام فقط، دون أن يتعرض لنقد يفككه، ومن الواضح أن النخب السياسية في العراق الآن تفتقر إلى البعد الثقافي، والعمق المعرفي، وسعة الأفق، ما يمكنها من تحويل هذه التنوعات إلى عوامل قوة بدل أن تنتهي إلى عوامل ضعف، وربما تناحر. إذا أخذنا بهذه الأوهام كما يروّج لها، فيمكن أن يكون الجناح الثالث الذي يعوق طيران العراق هو إما الشيعة أو السنة أو الأكراد، فأي من هؤلاء يمكن أن يمزق وحدة البلاد إذا أصبحت هذه الأوهام خيارات حقيقية بمرور الوقت، وتفاقم الأزمة، وتأخير بناء الدولة، وبقاء الاحتلال الأجنبي؟.
انتقل العراق إلى مرحلة التمثيل السياسي، والشراكة، وقبول الجماعات لبعضها، وأي جماعة لا تنخرط بهذه العملية بهدف التعايش والشراكة والحفاظ على وحدة البلاد ستعوقه عن الطيران، أي ستحول دون استقراره، وهذا أمر يوجب على الجماعات الفاعلة إعادة النظر برؤيتها للعراق الجديد، فقد انقضى عهد الجماعة المهيمنة، والجماعة المقهورة، ولابد من قبول تغير جذري في العلاقات بين الجماعات طبقا للمعطيات الجديدة، فلكي تخطو البلاد خطوتها الحقيقية إلى الأمام ينبغي أن تكون الأرض ممهدة، ومهادها توافق الجماعات الفاعلة على أن وجودها يكمن في دورها التمثيلي، وليس في الاستئثار بموقع كان محتكرا في الماضي، أو في شعورها بالظلم والاختزال السابق، أو في التطلعات الانفصالية المبالغ بها، إذ أن كلا من الشعور بالزهو المفرط أو الغبن العميق يتساويان في درجة إنتاج الشر والعنف والخطأ، وأحوج ما يحتاجه العراق الشراكة وقبول الجماعات بعضها لبعض. فلماذا لا يكون العراق موافقا لتعريف"فاليري" فيكون عراقا جديدا يتشكل من نسيج متداخل لجماعاته الكبرى والصغرى؟ وفي هذه الحالة لن يعيق طيرانه أي جناح. ولن يكون لتعريف"كيسنجر"معنى ودلالة، سيكون وصفا لماضي العراق، وليس لمستقبله.















التعليقات