بمناسبة ذكرى 23 يوليو 1952 قابلت مذيعة الراديو المصرية المشهورة فى الستينيات آمال فهمى من خلال برنامجها (على الناصية) مواطن بسيط الحال، وسألته عن أحواله وعن رأيه فى الثورة: فقال: أحوالى والحمد لله آخر حلاوة، ورأئى فى الثورة أنها ثورة عظيمة جدا وأنا معجب بها جدا وأتمنى ثورة ثانية كمان!!


............
وأنا أيضا أتمنى ثورة ثانية كمان (حقيقية هذه المرة)!!
......

وأذكر أيام طفولتى فى بداية الستينيات وقبل كابوس هزيمة 1967 عندما كنا نعيش الوهم اللذيذ، عندما كنا نتغنى بكلمات صلاح جاهين وألحان كمال الطويل وأغانى عبد الحليم حيث كان يقول فى أغنيته المشهورة المسئولية:

"ثماثيل رخام ع الترعة وأوبرا
.......
دى ما هيش أمانى وكلام أغانى
ده بر تانى ودى مسئولية "

والشئ المضحك والمحزن فى نفس الوقت، أننا صدقنا بأنه بإتباع (حتمية الحل الإشتراكى) سوف يكون لدينا تماثيل رخام على كل ترعة و دارا للأوبرا فى كل قرية ومدينة، بينما اذا نظرت حولك فى هذا الوقت لكان من السهولة لأى شخص متواضع الذكاء أن يدرك أن كل هذا كلام بكش وأنه بالفعل:"أمانى وكلام أغانى"، ففى هذا الوقت بالذات كانت معظم القرى المصرية تشرب من (الترعة)، وتستحم فى (الترعة)، و....(لا مؤاخذة)... فى (الترعة)، لذلك كان فإنه كان من الأوفق أن نغنى (حنفية مية ع الترعة ودورة مية) بدلا من تماثيل الرخام والأوبرا.
وكانت ولا تزال معظم القرى والمدن المصرية تفتقد المدارس المناسبة والملاعب والساحات الرياضية، لذلك كان العم صلاح جاهين يتصور أننا سوف نقفز مباشرة من مرحلة الأمية والجهل والفقر والمرض الى الأستماع الى أوبرا عايدة وأوبرا كارمن وبالية كسارة البندق، وباليه بحيرة البجع، (أوعلى حد قول الكوميديان سمير غانم: باليه بحيرة المنزلة!!).
ولكن يبدو أن أعذب الشعر أكذبه، وأكذب الشعر هو الأغنية الوطنية.

وعندما قال نفس الثالوث الغنائى الموهوب (وصاحب أعلى صوت فى البروباجاندا الناصرية) يصف تجمع قوى الشعب العامل فى أغنية "صورة":

"وأساتذة وعلماء ومعامل
ودكاترة من الشعب العامل
ورجال سكرة على مكاتبهم
تخدم بالروح لما تعامل"

وأذكر صديق لى خفيف الدم، قال: "أنا أقبل كل شئ فى الأغنية دى.. إلا وصف موظفى الحكومة بأنهم:
رجال ُسًكرة على مكاتبهم
تخدم بالروح لما تعامل"
وأى أرملة كانت تدرك على الفور كذب هذه الأغنية من خلال معاناتها بين هؤلاء الرجال (السكرة) الجالسين أو النائمين على مكاتبهم لأنهم لا (يخدمون) بالروح ولكن يطلعوا (الروح) حتى تستطيع أن تأخذ معاش زوجها الموظف الذى مات، بعد أن (طّلع) أرواح مواطنين عديدين قبل أن تصعد (روحه) الى بارئها.
فماذا بقى من (حتمية الحل الإشتراكى) بعد أكثر من خمسين عاما على 23 يوليو 1952، تحاول مصر الآن بكل قوة أن تعود الى الوراء 50 عاما الى وضعها قبل 23 يوليو1952،( وتحمل فوق أكتافها 50 مليونا من البشر زادوا خلال50 عاما):
تحاول أن تعيد الأستثمارات الأجنبية مرة أخرى، بعد أن ُطرد الأجانب من مصر فى الخمسينيات وأوائل الستينيات.
تحاول تسديد ديونها أو على الأقل فوائد الديون، بعد أن كانت بنوك بريطانيا مدينة لمصر فى 1952.
تحاول ببطء شديد تحقيق الديموقراطية الحقيقية والتى فقدتها بعد 1952.
تحاول تطوير التعليم الذى أنهار فى 50 عاما، وبالرغم من زيادة عدد المدارس والتلاميذ إلا أن نوعية التعليم فى إنهيار، مما أدى الى زيادة أعداد الأميين وأنصاف المتعلمين وأنصاف الجهلة وحملة الشهادات بدون علم حقيقى، وهم أشد خطورة من الجهلة.
.................
لقد باع عبد الناصر (الترماى) الى الشعب المصرى والشعوب العربية، باع لهم وهم الوحدة والحرية والأشتراكية وهى نفس مبادئ حزب البعث، فالنسبة لوهم (الوحدة) العرب أكثر تفرقا الآن من ذى قبل، (وقد نجحت أم كلثوم فى توحيد العرب أكثر كثيرا من عبد الناصر)!!، أما بخصوص وهم (الحرية) فالكل يعرف أن الحرية كانت للحاكم وأذنابه وأعوانه فقط، أما فئة المعارضين والمشاغبين (الوحشين) فحريتهم كانت تمارس داخل السجون والمعتفلات، أما وهم (الأشتراكية) فأنتهى الى سيطرة الحكومة على وسائل الإنتاج والتوزيع والتجارة أبتداء من صناعة الحديد والصلب وإنتهاء ببيع سندويتشات الفول والطعمية، والكل يعرف النتيجة فبدلا من تصنيع كل شئ من الإبرة الى الصاروخ، كنا وما زلنا نستورد كل شئ إبتداء من (الترماى) الى (البسكليتة).

لقد أضاع عبد الناصر فى تقديرى فرصة ذهبية لقيادة مصر والأمة العربية فى طريق التقدم والإزدهار الحقيقى، لقد كان بشعبيته الطاغية وقدرته على محاربة الفساد وشبابه المتحمس قادرا على أن يكون بانى النهضة الحديثة لمصر وأستكمال الطريق الذى مهده محمد على والخديوى إسماعيل، وكان بإستطاعته أن يكمل الجانب السياسى والإجتماعى الذى غفل عنه محمد على نظرا لطبيعة عصره، لكن بدلا من هذا كرس حياته القصيرة على التنكيل بخصومه فى الداخل والخارج، والقيام بمغامرات عسكرية ووحدوية فشلت الواحدة بعد الأخرى، حتى قضت عليه مغامرته الأخيرة فى يونيو 1967، وكانت أسوأ نهاية لقائد كان من الممكن أن يغير خريطة المنطقة بأكملها الى الأفضل.
.......
(وما أشبه الليلة بالبارحة) فالآن يأتى مجموعة من المهوسين دينيا ومجانين السلطة يحاولون بيع (الترماى) مرة أخرى، ولكن هذه المرة على مجال أوسع (على مجال العالم الإسلامى كله) وإختاروا التناطح مع أعتى قوة إقتصادية وعسكرية فى التاريخ بدون أى إمكانيات وبدون أى مبررسوى محاولة عرقلة مسيرة الحضارة فى معركة نتائجها معروفة مقدما، وهم يحاولون بيع (حتمية الحل الإسلامى) بدلا من (حتمية الحل الإشتراكى)، و(ثماثيل الرخام ع الترعة) إكتسبت الحياة وتحولت الى كائنات حية من دم ولحم هذه المرة وأصبحت (الحور العين فى الجنة)، وما الطريق الى تحقيق هذا: بسيطة جدا: ما عليك الى أن تقتل نفسك وتقتل الآخرين وتصبح شهيدا. والنتيجة إيه ياجدعان: خسائر على كل الجبهات فشل وهزائم متكررة، خسائر فى الأرواح والأراضى والممتلكات، أصبح ينظر الى العرب وكأنهم جرب، ويتمتع العرب والمسلمون بأدنى مستويات الدخل والتعليم والصحة وحماية المرأة والأقليات، وأصبح الشخص يخجل من إنتماؤه الى تلك المنطقة.
.......
وقديما قيل الظلم وحده لايكفى لتحقيق الثورة، ولكن الشعور بالظلم والرغبة فى التغيير أساسية لتحقيق الثورة، فالثورة الحقيقية ستحدث يوم يعرف أبناء الشعب أنهم قد ولدوا أحرارا وقد ولدوا متساويين وأن الطريق الوحيد الى الإرتقاء هو الأخذ بالحداثة والنقل عن البلاد المتقدمة والعلم والعمل الشاق، ولن يحدث هذا بالأغانى والهتافات واللافتات والخطب الحماسية، وصدقونى لن يأتى صلاح الدين لينقذنكم من (الصليبين الجدد)، ولن يأتى عمر بن الخطاب ليحقق مبدأ (المستبد العادل)، ولن يأتى المهدى المنتظر ليحقق (العدل فى الأرض بعد أن إمتلأت جورا)، لا نريد أبطالا أو زعماء أو أنصاف آلهة وهميين يبيعون (الترماى) والوهم، نريد ناس مننا وعلينا نستطيع أن نتكلم معاهم، نناقش الأمور، (ونتريق) ونسخرمنهم وقت اللزوم. وهؤلاء لن يأتوا من كوكب آخر، إنهم موجودون بيننا، إنهم أنت وأبنك وأخوك وإبنتك وأختك، وإذا فشل الشعب فى حكم نفسه فيستاهل ما يحدث له من حكم دكتاتورى أو حكم أجنبى، على رأى أستاذنا نجيب محفوظ فى إحدى رواياته قال: "من يعرض قفاه للصفع بإستمرار لا يحق له أن يشتكى عندما يصفعه الرائح والغادى".


[email protected]