من المعلوم أنه لتأمين فعل إعلامي رصين وإرساء منظومة إعلامية ناجعة، نحتاج في جميع المجتمعات إلى ثلاثة شروط: أولا، منظومة قانونية ذات طبيعة ديموقراطية فيما يخص حرية التعبير، حرية المشاركة، المساواة في الحقوق والحريات... ثانيا، ممارسة إعلامية مهنية وملتزمة بالأخلاقيات الصحفية. ثالثا، تقنين مستقل يضمن احترام الممارسة الإعلامية لمتطلبات النص القانوني وتطلعات المواطن.
هذه الشروط الثلاثة هي بالضبط أسس التجربة المغربية في مجال تدبير الإعلام المرئي والمسموع، التي تستمد روحها من فلسفة ودينامية الإصلاح الشامل الذي أطلقه ويقوده جلالة الملك محمد السادس منذ توليه العرش، وما أثمره من إصلاحات عميقة ومكاسب وطنية كبرى، لاسيما على مستوى ترسيخ دولة الحق والمؤسسات، وتوسيع مجال الحريات الفردية والجماعية، وتعزيز منظومة حقوق الإنسان.
ونحن نستحضر خمس وعشرين سنة من الإصلاح والتحديث منذ تربع جلالة الملك على عرش أسلافه الميامين، تستوقفنا وجوبا التطورات الدالة التي عرفها قطاع الإعلام المسموع والمرئي.
من أهم المحطات البارزة والفارقة، إنهاء احتكار الدولة للبث الإذاعي والتلفزيوني سنة 2002، وفتح المجال أمام المبادرة الخاصة. هكذا أصبح تحرير الإعلام المسموع والمرئي خيارا ديموقراطيا لا رجعة فيه وصار التقنين الذي أوكله المشرع للهيئة العليا للاتصال السمعي البصري ( المسموع - المرئي) المحدثة سنة 2003، نمطا جديدا لتنظيم المجال وفق مبادئ التعددية، التنوع والتوازن، ومنهجا لترسيخ احترام القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان في المضامين الإذاعية والتلفزيونية.
محطة أخرى ضمن هذه السيرورة التراكمية والتطورية عنوانها الارتقاء بالهيئة العليا للاتصال السمعي البصري سنة 2011 إلى مؤسسة دستورية مستقلة للحكامة والتقنين، تتولى طبقا لمقتضيات الفصل 165 من الدستور: "السهر على احترام التعبير التعددي لتيارات الرأي والفكر، والحق في المعلومة في الميدان السمعي البصري "، وهو ما يعكس حصانة دستورية واضحة لحرية التعبير ولواجب ضمان التعددية والتنوع، حتى تكون الهيئة العليا مواكبة للتحولات التي يعرفها الإعلام بصفة خاصة، وللتحولات السياسية والاقتصاديةوالاجتماعية والثقافية التي يعرفها المغرب بصفة عامة.
كل هذه الإمكانات والضمانات القانونية والمؤسسية التي تستمد معناها ومبناها من إرادة سياسية واضحة وعميقة للإصلاح والتحديث، كان لها الأثر الكبير على الإنتاج المعياري للهيئة العليا للاتصال السمعي البصري وعلى الممارسة المهنية للإعلام المرئي والمسموع.
في مقدمة الأثر، إرساء قواعد وممارسات إعلامية تضمن التعبير التعددي لمختلف تيارات الفكر والرأي، سواء خلال الفترات الانتخابية أو خارجها، بشكل يمكنها من عرض أفكارها وآرائها ومواقفها بخصوص الأحداث الراهنة وقضايا الشأن العام، وفي الآن ذاته، تمكين المواطن من الاطلاع على الآراء والمواقف المختلفة بطريقة مستوفية ونزيهة، تساعده على تكوين آرائه وقناعاته الخاصة بكل حرية، وتسهم في الارتقاء بحسه النقدي إزاء قضايا الشأن العام؛ وهو ما من شأنه دعم إسهام الإعلام في بناء الفضاء العمومي وإرساء الثقافة الديموقراطية وإشاعة الوعي السياسي والمشاركة المواطنة.
إرساء قيم التنوع في المضامين الإذاعية والتلفزيونية هو أيضا من المكاسب المحققة في بلد يعتز بهويته المتعددة، الموحدة والغنية بتنوع روافدها. فإسماع صوت المواطنين وإبراز تنوع وضعياتهم، رجالا ونساء، ومن مختلف الفئات العمرية، وأينما وجدوا داخل الوطن أو خارجه من مغاربة العالم، وبتنوعهم اللسني وبسائر فئاتهم السوسيو-ثقافية وانتمائهم الديني، كلها عناصر قوة تقوي وتعزز التماسك المجتمعي وتعين على التصدي لسائر أشكال التمييز سواء بسبب الجنس أو اللون أو المعتقد أو الثقافة أو الانتماء الاجتماعي أو المجالي أو اللغة أو الإعاقة أو أي وضع شخصي، مهما كان.
ولأن الترسيخ الدستوري للديمقراطية يقوم على ثلاث دعامات: التمثيلية، المشاركة والمناصفة، فإن الهيئة العليا تسهم من مداخل عدة في دعم تمثيل إعلامي منصف للمرأة كفاعلة في الفضاء العمومي لإنعاش حضورها ومساهمتها السياسية ولتقوية ثقافة المناصفة داخل المجتمع. وبفتح ورش مراجعة مدونة الأسرة، يكون الإعلام على أبواب اختبار جديد لإمكاناته وقدراته على تأمين مواكبة تُعمل مبدأي التعددية والتنوع حتى تكون في مستوى حجم وسياق وطبيعة هذا الإصلاح الحقوقي المهم الذي أطلقه جلالة الملك.
من المؤشرات الدالة أيضا على الدينامية الفاضلة التي أنتجتها التجربة المغربية في مجال تحرير الإعلام المرئي والمسموع، تسجيل لجوء لافت إلى التفاعلية واعتماد إعلام القرب إلى جانب معاينة تكامل بين الخدمة العمومية للإعلام والعرض المرئي والمسموع الخاص لاسيما في تدبير فترات الأزمات، كأزمة جائحة كوفيد 19 أو في فترات الكوارث الطبيعية، كزلزال الحوز 2023.
على مدى 25 سنة، تحقق الكثير في مجال الإعلام المرئي والمسموع، وتبلور وعي مشترك وجماعي بضرورة المضي بعزيمة ثابتة وبجهود مطردة في النهج الإصلاحي، خاصة وأن هامش التحصين والتجويد والتجديد في مجال الإعلام، يظل دائما فسيحا، بل وضاغطا وملحا، لاسيما في زمن التحول الرقمي للمنظومة الإعلامية والتواصلية. فمع هذا التحول، بزغت حاجيات مستجدة تستلزم تأهيل النماذج الاقتصادية والتحريرية لوسائل الإعلام، وتقوية الثقة في أخلاقيات الممارسة المهنية وتعزيز صحافة الجودة لاسيما وأن سؤال الثقة والموثوقية أصبح رهانا ضاغطا في سياق تواصل رقمي شمولي مهيمن، علاوة على ضرورة خلق وتطوير عادات إعلامية وتواصلية إيجابية لدى المواطن فيما يتعلق بالبحث والفهم والإدراك والمشاركة الآمنة والخبيرة في الفضاء العمومي الواقعي والافتراضي.
لرفع كل هذه التحديات، تواصل الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري تعبئتها لصالح إرساء منظومة إعلامية ذات جدوى واستدامة اقتصاديتين وداعمة للحقوق والحريات الأساسية، مستلهمة فكرها وعملها من إرادة سياسية ثابتة يرعاها الملك محمد السادس لضمان فعلية حقوق الإنسان ودعم وإنعاش دينامية التحولات المجتمعية الكبرى في بلادنا.
* رئيسة الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري بالمغرب
التعليقات