"العالم رجل" و"التاريخ يكتبه المنتصر" اكذوبتان انتهى عمرهما الافتراضي بعدما اجترهما الدهر لسنين طويلة وتجشأ. فتلك المقولتان أصابتا الناس بتخمة وتقزز لدرجة التقيء والاستفراغ. لذلك قد آن الآوان وأكثر من أي وقت مضى ان يُلقى بهاتين العبارتين في قمامات التاريخ مع زبالة زيف الذكور وافتراءاتهم. اليوم العالم لم يعد رجلا ابدا، ومن يعتقد غير ذلك فإنه في حاجة ماسة ان يعيد النظر فيما يقرأ. العالم نصفه رجال منهكين، بينما يتربع على نصفه الآخر النساء اللاتي هن اطول عمرا، وأشد مقاومة للأمراض، واكثر اجتهادا في التحصيل العلمي والعملي، وبالطبع اجمل معالما وتقاسيم. لكن الأهم من كل ذلك أن النساء هن النصف الاكثر انسانية وأسمى خُلقاً، ولا احد يستطيع أن يُنكر ذلك، فالكل يعلم جيدا ان العنف والتعارك والتقاتل والنزاعات مفاهيم لم تحبل بها ابجدية الأنثى ولم تنجبها قط اجندتها.

اما عن الأكذوبة الاخرى وهي ان التاريخ في حوزة المنتصر، فقد باتت عبارة بالية ومرفوضة تماما، فهي كالبضاعة المنتهية الصلاحية التي تُعرض برخص على ناصية الطريق. التاريخ فلتَ من بين يدي المنتصر، فلم يعد من ضمن غنائمه ومقتنياته، لأنه لم يعد الشاهد الوحيد على ارض المعركة، بفضل التكنولوجيا التي غزت الفضاء فحولت العالم الى قرية صغيرة مترابطة ومتشابكة ودائمة التواصل والتقارب. لذلك اصبح التاريخ يكتبه اليوم الجميع، المنتصرون والمهزومون، النساء والرجال، الشرفاء والعملاء، النبلاء والصعاليك، الذين يعلمون والذين لا يعلمون، وذلك عبر وسائل الاعلام المرئية والمقروءة، الجيد و الرديء منها. فوسائل الأعلام اليوم تمكنت من ان تلحق بعقارب الساعة، وتكاد تسبقها تارات، برصد الخبر وتقصي الاحداث وكشف أو تزييف ما يجري على ارض الواقع ونشره أول بأول..

لكن حين نعود للوراء لبضع آلاف من السنين، نجد ان العالم كان رجلا منتصرا انذاك، وانه هو من رَصدَ التاريخ برمته لصالحه. فالبنسبة لذاك المنتصر الموبوء بنرجسيته ان تاريخ الحضارة الانسانية لا يتعدى السبع آلاف سنة وقد يزيد هنا او هناك قليلا، بالرغم ان أقدم هيكل انسان اُكتشف من الأنواع البشرية البائدة، والذي اُطلق عليه أسم "هومو هابليس"، قُدر عمره من 1.5 مليون الى مليونين سنة.

التاريخ الذي يلوكه البشر اليوم دُون بولادة المجتمعات الابوية، اما ماحدث قبل ذلك فقد ذهب مع الريح، أو ظل مندثرا ومردوما دون ان يمسسه احد. ذاك الجزء من التاريخ يختزل بين طياته عصر المرأة اثناء نهوض المجتمعات الامومية وسيادتها على نواحي كثيرة من الحياة. التاريخ مازال الى اليوم يُـلقن مبتورا لانه يَسرد جزءا بسيطا من حكاية مسيرة البشر الممتدة لقرون. ان علم الانثروبيلوجي والآثار المتبقية كشفت جوانبا مختلفة عن الجزء الأكبر الذي يجّسد دور النساء في العهد الامومي، ويظهر كيفية تمكنهن من ترسيخ قواعد الحضارة الانسانية. تناولت الكاتبة "روزلاند مايلز" بدقة فائقة في كتابها (تاريخ النساء في العالم) قضايا هامة وجليلة الشأن. فقد احصّت الحضارات القديمة في فصول كتابها والتي غفل عنها الكثير من الباحثين والمنقبين. تمكنت من إحياء المجتمعات الامومية واثبات وجودها بدلائل علمية منتقاة من خلال ما عُثر عليه في مشارق الارض ومغاربها من بقايا سحيقة العمر ، ومن مخلفات اثرية ومتحجرات ومخطوطات وهياكل بشرية لأمم بائدة، في مجملها استنطقت طيات الزمن السرمدي وبيّنت ان النساء كان لهن اليد الطولى، والصوت الأعلى، والكلمة الأخيرة في تسيير امور الحياة ولمدة تقارب 25 الف عام.

في تلك الزمانات كثير من الآلهات وانصاف الآلهات كن اناثا. وبقيت تلك الآلهات تُعبد لآلاف السنين حتى في العهد الأبوي الذي احتضن مختلف الحضارات كاليونانية والرومانية والصينية والهندية والحضارات الشرقية الأخرى. فعلى سبيل المثال ظلت بقايا آثار الآلهات في منطقة الشرق الأوسط واضحة حتى بعد بزوغ عهد السومريين وازدهار الحقبة الفرعونية، ونهوض حضارات دول الشام والأفارقة وجزيرة العرب. لكن بعد انتشار الاديان بكل اطيافها وزحفها في دول الشرق والغرب، اُقتلعت جميع الجذور المتبقية من العهد الامومي ورُدمت رموزه المقدسة.تاريخيا حتى العرب كن يقدسن آلهات انثوية وهن: اللات والعزى ومنات اللاتي اتى ذكرهن في المصحف الشريف. تلك الآلهات كن ذي مكانة خاصة وجليلة في نفوس العرب، لذلك كن ملتفات حول الكعبة انذاك. لكن مع رسوخ المجتمعات الذكورية وتصالب الاديان وتناميها، تم تفتيت كل الرموز الأنثوية وتبديدها التي كانت منتشرة في بقاع الدنيا..

الجدير بالبحث هنا هو لماذا العالم القديم اعطى الانثى تلك المكانة واسدلوا عليها كساء الألوهية؟؟ لماذا البشر ألتفوا حول آلهات انثوية وقدسوها؟ حسب ما فسرته الكاتبة "مايلز" في تحليلها للسبب هو لأن المرأة كانت المعيل الاساسي للأسرة . فقد كانت هي المسؤولة عن الافراد في مجموعتها.ايضا الأمر الذي اكسب المرأة سلطة وهيبة بجانب ذلك هو لأنها منبع الحياة واكسيرها المتجدد.

كانت المرأة في العصور القديمة هي احد الاسباب الرئيسية في الحفاظ على سلامة التكتلات البشرية المتناثرة على اليابس وعامل هام في نجاتها من الاندثار. فهي من رعت الصغار وحمتهم، وساعدت الضعفاء وكبار السن على العيش ومواصلة المسيرة. تاريخيا النساء في العصور البدائية هن اللاتي تحملن عبء توفير الماء والغذاء لجماعاتهن، بجانب رعاية الاطفال و تربيتهم. الإناث كن يجلبن تقريبا 80% من المؤونة لأفراد القبيلة، بينما الذكور يعربدون ويهرولون في رحلات الصيد، ويقنصون الحيوانات الكبيرة التي لا تصلح سوى لوجبة واحدة، حيث يلتهمها الأقوياء منهم، وما يتبقى منها يتهافت الباقون عليه, والفتات والفضلات تترك مهملة فيصيبها العفن وتصبح غير قابلة للإستهلاك البشري. إذن الرجال منذ فجر التاريخ كانوا يصيدون لملئ بطونهم، ويعملون بروح الفرد لا الجماعة ويتسمون بفوضوية وهمجية في غالب الاحيان. وهذا ربما يفسر ما آلى اليه حال العالم اليوم فالقنص مازال مستمرا في مجمله من اجل اقصاء الآخر وتوسيع المساحة لمطامع خاصة . النساء عكس ذلك تماما فقد كان همهن اشباع الكل، لذلك زاولن مهنة الزراعة وجمع المأكولات النباتية من خضار وفواكه. كن يلتقطن ديدان الأرض وحشراتها حيث الفائض كان يجفف ويخزن. ايضا احترفت المرأة مهنة صيد الاسماك والحيوانات الصغيرة لأنها سهلة القنص والقضم، يتقاسمها افراد القبيلة ولا يتبقى منها شيئا ليتلف.

اثبت علم الانثربيلوجي ان المرأة هي من علّمت الرجل اصول الزراعة وفنونها ولقنته قواعد صيد الاسماك ودرسته مبادئ الصناعة ايضا. فالبقايا التي عُثر عليها من جماجم النساء وجد ان اسنانهن كانت مهشّمة ومكّسرة الاطراف بينما اسنان الرجال الى حد ما كانت سليمة. رجّح علماء الانثروبيولوجي أن السبب وراء تلك الظاهرة, هو ان النساء كن يستعن بأسنانهن في التقطيع اكثر من الرجال. فالمرأة هي من بدأت بصناعة الخامات والادوات، فالحاجة ام الصناعات. الانثى احتاجت الى مادة قادرة على امتصاص نزفها الشهري، ومن ثم ابتكرت طُرقا للنسج وصنعت خامات لتحقيق ذاك الغرض, واستخدمت الخامة نفسها لصغارها. ولأن المرأة امتهنت الزراعة قبل الرجل, لذلك تطلب الامر منها ان تحصد ما تزرع، فإبتكرت الاناء لكي تلم فيه ما تحصده من خضار وثمار واستخدمت الاناء لأغراض اخرى لاحقا مثل الطهي وجلب الماء. وهذا يرجّح ان المرأة هي من اكتشفت سر اشعال النار وذلك بحك الحجارة. لكن الذي يجب التنويه اليه هنا ان كل ذلك الجانب من التاريخ الانساني عن دور المرأة الفعال في تأسيس الحضارة، لم يكن هو السبب الفريد في الباسها كساء القدسية. على حسب التفسيرات العلمية ان هناك اسباب مختلفة، تقول "مايلز" ان اولها ارتباط دورتها الشهرية بدورة القمر المضيء في السماء الذي ينير للناس عتمتهم الموحشة. فقد ارتبط النور بجسد المرأة وبتغيراته مما اكسبه سمة خاصة. ايضا مع بداية كل شهر كانت المرأة تقوم بالعد وحين تمر الحقبة الزمنية المتابعة لظهور القمر واختفائه، يأتي موعدها فتنتبه لها وتتعرف على وحدة زمنية مضت، ومنها استطاعت الانثى أن تستوعب عدد الايام، وان تفقّه تلك التكتلات البدائية التأريخ الزمني ومن ثم تربطه بالأحداث. وبعدها وضِع اسس التقويم بأصوله وفروعه. تضيف "مايلز" ان السبب الأهم الذي منح المرأة تلك المنزلة الرفيعة هو "العلاقة الخاصة التي تربط الانثى بالطبيعة" والمتمثلة بالحمل والانجاب. كثير من الأصنام الأثرية القديمة التي تبقت من العهد الامومي وعثر عليها في المعابد والمناسك، ضخّمت بطن الانثى وبالغت في حجم ثدييها. فكانت الأنثى تمثل الاستمرارية والعطاء. كان البشر في تلك العصور البائدة يعتقدون ان معجزة الانجاب امر خاص بالانثى وليس للذكر أي دور فيها. ومازال الى اليوم السلالات الاصلية (ابوريجنالز) الاسترالية التي تقطن في الغابات، ئؤمن ان الآلهات تنثر ارواح البشر على الاشجار وتلقي بها في اعماق المياه الجارية، وحين تختار تلك الارواح ان تأتي الى الحياة تلج في ارحام الإناث فيحبلن بها. وهذا يعني بالنسبة لهم ان هناك قرب وتواصل بين الانثى والآلهات المقدسة.

اذن كل الشواهد تشير وتدل على ان الأنثى كان لها تاريخا انسانيا وحضاريا حافلا لكنه لم يُدرج فيما يُسمى اليوم بتاريخ الحضارة الانسانية. فالتاريخ مبتورا ومزيفا ومشوها وناقصا وفي حاجة لإعادة كتابة. فالرجل المنتصر لفق الاحداث وزيّف الحقائق ومسح الدلائل التي تثبت دور النساء في تعليمه الزراعة والصناعة بجانب اللغة والسكينة واصول التعامل وقواعد الاستقرار وتشكيل أُسر وجماعات والتي تولدت منها المجتمعات الحديثة لاحقا.

التحول التراجيدي لوضع المرأة حدث حين قُدست القوة الجسدية واستبد منطق السلاح وسادت لغة العنف وظهر المجتمع الابوي وصار الرجل هو سيد الموقف. حينها سُحب البساط من تحت اقدام النساء واُخفتت اصواتهن وهُمشت ادوارهن واُلغين كوجود حتى صار لا يُسمع ولا يُشاهد في العالم سوى الرجال. الاشكالية اليوم انه مازال ذاك التغييب للمرأة قائما والتجاهل لدروس التاريخ مستمرا، ومازال البشر في غفلة وعدم وعي لإدراك أهمية ذاك البعد التاريخي من التواجد البشري واسباب استمراره. العالم اليوم صار يتخبط في نزاعاته لأسباب عديدة اهمها عدم وجود توازن بين ادوار الرجال والنساء في ادراة شؤون الحياة. فالردح الذكوري الدموي المفجع الذي يجري يوميا في أماكن مختلفة من العالم، صار امرا مقلقا وقد يؤدي بالجميع الى الهاوية. لا بد أن يعي البشر لتاريخ المرأة ودورها في استقرار الحياة واستمرارية مسيرتها ويستنبطوا منه العبر، و يدركوا ان الدنيا لا تؤخد غلابا، ويستوعبوا ان البقاء سيكون فقط من نصيب الأفضل والأصلح، فلا مكان للفتاكين القتلة، ولا لأصحاب الأيدي الباطشة، او لمستأنسي الروح الشرسة المستبدة. تلك سمات البشر الذين قرضتهم الارض والتهمتهم دون رحمة، تماما كما بددت ديناصوراتها الضخمة المتجبرة..