على رغم الموقف المرن الذي أبدته طهران تجاه مشروع واشنطن في التغيير السياسي بالعراق، والرضا الشكلي الذي قابلت به الولايات المتحدة إيران، لم يهدأ بال حكومة المحافظين الجُدد في البيت الأبيض في التعبير عن تضخيم التهديد الاستراتيجي ـ من منظورهم ـ الذي تكرسه إيران على المنطقة في الشرق الأوسط.
وفي الأيام القليلة الماضية تصاعدت حدة الاتهامات الأمريكية لطهران في ضوء متغيرات بدت تنسج كيانها ببطء حتى باتت تركز في ثالوث حيوي قوامه ثلاثة ملفات هي: البرنامج النووي الإيراني، وتورط إيران في التغطية على عناصر من تنظيم (القاعدة) كانوا وما زالوا يمكثون لديها منذ شهور طويلة، ومن ثم إشكالية إيران مع العراق الجديد، خصوصا ما يتعلق بعدم سيطرة الجانب الإيراني على حدوده مع العراق. وهو الثالوث الذي يشي بتطورات ربما من شأنها إشعال فتيل الأزمة بين طهران وواشنطن على نحو فادح قد يكون منه اندلاع حرب عسكرية بين الجانبين.

ردع الإرهاب النووي
لقد كثُر الجدل بين الطرفين بشأن برنامج إيران النووي، وكدنا قبل شهور قريبة أن نصدِّق أن إيران هي قاب قوسين أو أدنى من غلق هذا الملف، إلا أن كل تفاؤلات محمد البرادعي في هذا الشأن بدت فقاعة لا أكثر، فطهران تعلم أن واشنطن لن تكتف بمجرّد توقيع اتفاقية أو ملحق اتفاقية متعلقة بالتزام إيران لجم برنامجها النووي عن التطوير أو أن يكون عامل ضغط بالمنطقة والعالم، وعلمها الاستشرافي هذا سرعان ما كشف عنه سبنسر أبراهام، وزير الطاقة الأمريكي، في مقال نشرته (الاتحاد) يوم الأحد 18/7/2003 بعنوان (كيفية ردع الإرهاب النووي)، الذي عبر عن رؤية الولايات المتحدة الاستراتيجية للأسلحة النووية ليس في إيران فقط إنما في العالم برمته، فلدى واشنطن رغبة عملية في تقويض فاعلية السلاح النووي بالعالم، ودعا أحدث طلب تقدمت به إدارة الرئيس بوش إلى تخصيص مبلغ مليار وثلاثمائة وخمسون مليون دولار للبرنامج الدفاعي المعني بمنع الانتشار النووي. وبموجب هذه المبادرة ستعمل واشنطن مع روسيا أولاً لاستعادة الوقود النووي الروسي المنشأ من المفاعلات البحثية حول العالم وإعادته إلى روسيا لتخزينه أو التخلُّص منه بطرق آمنة. وستعمل ثانيا على إكمال إعادة الوقود النووي العالي التخصيب الأمريكي المنشأ من المفاعلات البحثية المنتشرة بنحو أربعين موقعا بالعالم. وثالثا تحويل نواة كل واحدة من المفاعلات البحثية المدنية التي تستخدم وقود اليورانيوم المستنفد العالي التخصيب بحيث يُستخدم بدلا منه الوقود منخفض التخصيب.
ولا ريب أن لإيران نصيب كبير من الوقود النووي الروسي ما يعني أنها مشمولة حتما في هذا البرنامج الذي حظي بمباركة روسية عملية لا مجال فيها لطهران أن ترفض الانخراط في تنفيذه رغم إصرارها في مباحثاتها مع عدد من الدول الأوروبية إلى جانب بريطانيا بأن مشروعها النووي هو لأغراض سلمية بحتة فيما وجدنا أن وفدا من الوكالة الدولية للطاقة الذرية كان قد أمضى اثني عشر يوما في إيران وغادرها مؤخرا من دون أن يدخل إلى (مركز الطرد المركزي وتخصيب اليورانيوم) الإيراني. وفي وقت لاحق سيعاود فريق دولي متخصص آخر زيارته إلى إيران للغرض نفسه، ولكن من دون جدوى؛ فالإصرار الإيراني ماض في استراتيجية دفاعية عن سلمية المشروع النووي الإيراني في الظاهر فيما نعتقد أن إيران عندما تنظر إلى دول قريبة منها مثل باكستان والهند فإنها لا تدخر الجهد في تحقيق نوع من التوازن الاستراتيجي مع هذين البلدين النوويين، في حين لن تدخر واشنطن، من جانبها، الجهد من أجل إخضاع طهران للأمر الواقع ما يتعلَّق بخطة المليار وثلاثمائة مليون دولار الأمريكية، وهو ما يعني أن السجال والضغط المتبادل بين الطرفين سيتواصل في خلال هذا العام والذي يليه، وإذا كانت الدول الأوروبية التي تقف إلى جانب إيران قد تبعث بعض الاطمئنان لدى طهران، فإن الولايات المتحدة تبدو اليوم أكثر تحكما بالكثير من المواقف الأوروبية ناهيك عن الزيجة الاستراتيجية بين بريطانيا بلير وواشنطن بوش بعد أن دخلت الأخيرة مع موسكو في تحالف عملي للتخلص من عالم الوقود النووي الروسي الذي اندلق إلى بلدان العالم الثالث في سنوات ماضية وقد آن أوان ترحيله عنها بل والتخلُّص من فاعليته السلمية أو غير السلمية.

إيران وحادث الحادي عشر
في الزيارة التي اجتمع فيها الرئيس السوري بشار الأسد مع الرئيس الإيراني محمد خاتمي في وقت سابق من الشهر الجاري تسربت معلومات عن أن الرئيس بشار أعلم نظيره الإيراني بأن الولايات المتحدة تعد العدَّة لشن حرب على النظام السياسي في إيران بسبب إيواء طهران لعناصر من تنظيم (القاعدة) من جهة، وبسبب تعنُّت إيران في الملف النووي من جهة أخرى، فضلا عن تدخُّلات الإيرانيين في الشأن العراقي. وذكرت المصادر أن بشار حذَّر نظيره الإيراني من اللعب بورقة (القاعدة) مع الولايات المتحدة. وبُعيد هذه الزيارة أشار تقرير صادر عن لجنة التحقيق في أحداث الحادي عشر من سبتمبر إلى تورط إيران في هذه الأحداث عبر مرور عناصر من التنظيم حدود إيران بعلم الإيرانيين. وقد خدمت متغيرات عدة هذه الاحتمال، حيث استسلم (خالد الحربي المكي)، وهو سعودي، إلى السفارة السعودية في طهران إلى سلطات بلاده بعد عفو سعودي ـ ملكي عن عناصر القاعدة، وفي إثر ذلك كشفت إيران عن اعتقالها نحو 384 عنصرا من (القاعدة) بينهم 18 قياديا، وهم معتقلون في دور فخمة بمنطقة (نمك آبرود) القريبة من بحر قزوين، وفي قاعدة عسكرية بمنطقة (لوزيزان)، وفي منطقة ثالثة غرب إيران حيث منتجع (شمشك) الشتوي. ما يعني أنَّ إيران كانت، ومنذ حدث الحادي عشر، تغطِّي، إن لم تكن تتستَّر على، وجود هذا العدد من تنظيم عناصر (القاعدة) لديها، وربما تهتم واشنطن بهذا الموضوع قدر اهتمامها بالبحث عن دور إيران في تسهيل مهمة جريمة الحادي عشر، وهو الاتهام الذي تلهج به إدارة الرئيس بوش الآن، والذي، أيضا، من المحتَّم أن يكون (الشمّاعة) التي سيعلِّق عليها المحافظون الجُدد تبريرهم لشن عمل عسكري على إيران.

إيران والعراق الجديد
أما العراق، فإن إيران ورغم التسهيلات أو الالتزامات التي قدَّمتها لواشنطن للمُضي قُدماً في قلع هذه الأخيرة نظام صدام عن العراق، يلاحظ أنَّ المحافظين الجُدد غير مرتاحين لسياسة طهران تجاه العراق الجديد، فالاختلاف ما زال قائما بين إيران والولايات المتحدة بشأن مستقبل الوضع السياسي بالعراق، وهو وضع تريده واشنطن مغايرا جذريا عن الخطاب السياسي في إيران الإسلامية، لقد كانت واشنطن تراقب عن كثب الكيفيَّة التي كان المحافظون الإيرانيون بها يدعمون الزعيم الشيعي السيد مقتدى الصدر في حراكه السياسي المسلح ضد القوات الأمريكية في العراق، وكانت واشنطن تحصَّل على معلومات عن اختراق ناشطين مسلّحين، وتجّار مخدرات ورقيق أبيض إيرانيين إلى العراق لغرض زعزعة الأمن السياسي والتجاري في البلاد، ورغم أن الحكومات العراقية الانتقالية قد مارست أكثر من ضغط على إيران في هذا الشأن إلا أن طهران لم تبد ذلك الحرص الكبير على تطويق الاختراقات، بل لم تدخر الجهد في الحدِّ من تدخّلها الديني والسياسي في العراق الجديد عبر قنوات تابعة لها بالبلاد، وكانت في وقت سابق قد افتعلت أزمة الرهائن البريطانيين الذين ألقت القبض عليهم في حدودها المائية مع العراق، ولم تكن هذه العملية سوى مشهد احتفالي مفتعل لم تجن منه طهران نتائج ما خططت له من العملية برمتها.

سيناريو الحرب القادمة
لا يبدو الموقف الأمريكي مع إيران مطمئِنا في ضوء كل هذه المتغيرات، وفي هذا السياق كشف مسئولون في الاستخبارات الإيرانية إنهم حذروا المرشد الأعلى السيد علي خامنئي والرئيس محمد خاتمي في فبراير (شباط) الماضي، من تعرُّض احتمال إيران لضربة عسكرية أمريكية. وجاء في المعلومات أن العراق يمكن أن يكون جسرا لعبور الولايات المتحدة الى إيران، وأضافت المعلومات أنه في حالة إعادة انتخاب الرئيس الأمريكي جورج بوش لولاية ثانية، فإن على النخبة الحاكمة في إيران أن تأخذ في اعتبارها ثلاثة احتمالات:
الأول: قيام إسرائيل بضرب المفاعلات النووية الإيرانية في يناير (كانون الثاني) 2005.
الثاني: نجاح مساعي الولايات المتحدة في نقل الملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن الدولي.
الثالث: قيام الولايات المتحدة نفسها بضرب المنشآت النووية الإيرانية، ومساعدة المعارضة على تكوين حكومة ظل.
ويأتي الكشف عن هذه المعلومات الاستخباراتية في الوقت الذي قال فيه مسئولون أمريكيون إن الرئيس بوش سيحاول الإطاحة بالنظام في إيران في حالة إعادة انتخابه لولاية رئاسية ثانية، وهو الأمر الذي يعني أن الأفق القادم للعلاقة بين البلدين هو أفق مظلم ما لم يلجأ الطرفان إلى معالجة عقلانية في تجاوز ثالوث الأزمة الذي يؤرِّق المنطقة برمتها في وقت لن تتحمَّل فيه المنطقة أيّة حروب جديدة.

كاتب عراقي