ما الذي يستوجب ان يتعلمه العرب منها؟


في يوم الفاتح من تموز 2004، عندما شاهد العالم صدام حسين امام قاضي التحقيق العراقي، كنت اطير فوق الاطلنطي، وفاتني في وجودي بالولايات المتحدة الامريكية وعلى امتداد اسبوعين كاملين متابعة اخبار العراق ومتابعة ما ينشره الكّتاب العرب عن العراق في العديد من الصحف العربية.. وخصوصا منذ تقديم صدام حسين والاحد عشر من زبانيته الى المحاكم العراقية ! وفاتني ان اكتب لقرائي الاعزاء انطباعاتي وتحليلاتي عن هذا الحدث المهم طوال هذين الاسبوعين بسبب انغماري بشؤوني العلمية.. ولكنني بدأت اتابع بعض المشاهد المثيرة التي انتجها ذلك الحدث التاريخي الذي افتتح به العراقيون شهرهم تموز بكل حرارته وسخونته وسطوع شمسه وهو الشهر الذي دوما ما تلد فيه احداثهم الجسام.. ولابد لي ان اقول بأنني لم اكن اثق بما اسمعه من تصريحات الامريكيين المتذبذبة حول تسليم الطاغية صدام حسين وزمرته الى العراقيين، ولكنهم سلّموه ومن يوم الفاتح من تموز / يوليو 2004 وبدأت مباشرة حبكة اشهر محاكمة في التاريخ الحديث خصوصا اذا ما علمنا بأن عهدا وازمانا طوالا مرّت وعالمنا العربي يحيطه الغموض وتكتنفه الخفايا وتستلبه الادوار وتتشابك فيه التناقضات.. بل وتخدع فيه المواقف وتلتبس فسه الاقوال والانكى من ذلك تعج الوسائل الاعلامية العربية من صحف وفضائيات بالتكهنات والمقالات والدعايات والخطابات المضادة وبث الاشاعات والاقاويل.. وكلها خارجة عن سياق الواقع باعتبارها تعّبر عن عواطف ومخاوف ليس لدى القادة والزعماء والحكومات حسب، بل حتى عند تلك النخبة التي تطلق على نفسها جماعات المفكرين واصحاب الرأي وكتل المثقفين وصولا الى العامة ! لقد كان سقوط صدام حسين ونظامه السياسي بمثابة انقشاع حقيقي لتلك الضبابية او ذلك الغموض او تلك الممارسات السرية.. لقد انكشف كل ما تحت الارض من الحقائق وعرف الانسان والجماعة والحزب والزعامة لدى كل العرب على حقائقهم جميعا ازاء مسألة واحدة دوخت العالم كله متمثلة بصدام حسين.. وهي مسألة لا تستحق شخصيا كل هذا الاهتمام، ولكنها تتعلق اساسا بما انتجته على امتداد اربعين سنة كان له دوره البشع خلالها في العراق !


المحاكمة: استثنائية الحدث التاريخي
لعل محاكمة الجلاد على ارض العراق سيكون حدثا استثنائيا في تاريخ العرب.. ومهما قيل ويقال ومهما كتب ويكتب وينشر عن عدم مشروعية المحاكمة باعتبار ان حكام العراق الحاليين هم من ألد خصوم الجلاد واتباعه، الا انه سيمثل على ارض عراقية وسيخضع لقوانين العراق وهي سابقة تاريخية ليس للعراق وحده، بل لكل بلدان العرب والمسلمين الذين لم يعتادوا ابدا على محاكمة جلاديهم واخضاعهم للتحقيقات القانونية وجمع الادلة والقرائن.. وربما كانت محاكمات العراق الجديد لاقطاب عهد البعثيين ( 34 سنة ) ستختلف حتما عن محاكمات العراق الجمهوري لوزراء العهد الملكي ( 37 سنة ) في طبيعتها القانونية والمدنية وتباين مناخ العراق السياسي.. وخطورة الادوار الدولية والعربية والاقليمية للعهد الفاشي.. فضلا عن ان محاكمة العراق الجديد ستكون لرأس النظام السابق ورفاقه في القيادة بعد ان كانت رؤوس النظام الملكي قد حصدتها النيران منذ الساعات الاولى لاحداث ثورة 14 تموز / يوليو 1958 !
ان محاكمات العراق لصدام حسين وجماعته ستعطي المزيد من الامثلة التاريخية الساطعة للبعض من القادة والزعماء العرب بأن التغيير الذي ينشده الجميع لابد ان تكون في سلم اولوياته محاسبة لكل من اقترف الاخطاء.. واعتقد بأن درس العراق البليغ سيصفع كل اولئك الذين كانوا وما زالوا لم يعترفوا البتة بمظالم الشعب العراقي.. اولئك الذين تاجروا باسم الدماء العراقية الزكية، ولعبوا على الحبال تحت مانشيتات متنوعة.. انني اعتقد بأن المحاكمة ستكون لكل اولئك الذين كانوا وما زالوا يتشدقون باسم القومية العربية والعروبة منهم براء ! انني اعتقد بأن المحاكمات ستكون لكل اولئك الذين يستخدمون اغطية سياسية وايديولوجية ودينية باسم العروبة حينا وباسم الحصار حينا وباسم الاحتلال حينا.. لتمرير وصايتهم على العراقيين مدافعين اصلا عن جلاد متوحش حكم العراق والعراقيين بالحديد والنار !!
ان محاكمات العراق ستطال كل اولئك الذين ابتزوا العراق والعراقيين في كل الظروف وما زالوا يسوغون اعمال القتل والاجرام والارهاب تحت لافتة ( المقاومة ) من دون ان يفكروا لحظة واحدة بعواقب الارهاب ! ان محاكمة العراقيين للجلاد ستفجّر المزيد من التناقضات الهائلة التي بدت بكل قروحها وجروحها.. بكل قيحها وصديدها تنكشف على العالم كله اثر سقوط الجلاد وانهيار نظامه السياسي! ان محاكمات العراق للدكتاتور ما هي الا فرصة تاريخية لكي يقول ما عنده قبل ان يصدر الشعب حكمه عليه.. وبطريقة مكشوفة لم يقبل بها كل اعوانه ومناصريه الذين ارادوها محاكمة دولية لأسباب ليست خفية ابدا ! ان محاكمات العراقيين لصدام والطغمة الحاكمة ستنشر غسيلا بالغ القذارة على كل الناس والعالمين.. ومن المؤكد ان هناك من سيبقى برغم كل الشواهد والادلة والقرائن والوثائق يصر على براءة صدام حسين.. لأسباب باتت مكشوفة على الملأ !!


محامون بلا قانون.. كتبة بلا اخلاق
لا يمكن لأي متهم تثبت ادانته بالجرم المشهود ان يقف امام القضاء من دون دفاع.. وكنت وما زلت احترم مهنة المحاماة كونها تمثل الدفاع النزيه عن قضية متهم.. اما ان تشهد الساحة العربية والدولية تسجيل المئات من المحامين العرب وبعض المحامين الدوليين من اجل الدفاع عن صدام حسين وهو يمتلك سجلا تاريخيا غير مشرف ابدا لا ازاء شعبه ولا ازاء المنطقة ولا الاقليم ولا العالم كله.. فهذا يمّثل منتهى السخرية في الذي تمثله ارادة الشر التي تطّوع رجال قانون في الوقوف والاصطفاف والموافقة العلنية الى جانب كل الجرائم التي ارتكبت بحق العراقيين وغيرهم ومن قبل دكتاتور طاغية اثبتت كل السنوات المريرة وصولا الى اللحظات الاخيرة كم يعاني من امراض نفسية قاتلة ! وكيف يمكن لرجال قانون عرب وغير عرب ان يدافعوا عن تهم بالقتل وسرقة المال العام والتعذيب وممارسة كل فنون الظلم من دون ان يكونوا سياسيين ومتعاطفين سياسيا بعيدا عن القانون ونشدان العدل ! ان المشكلة في هؤلاء انهم جزء معّبر عن مشكلة اكبر، فهم يتدخلون بشكل سافر في الشأن الداخلي العراقي كما يتدخل آخرون من دون اي وازع اخلاقي ولا مهني ولا ادبي..
ان حالهم حال اولئك الكتاب و ( المثقفين ) و ( الاستراتيجيين ) و ( المفكرين ) و ( المحللين ) الذين لا نفتأ نقرأ كل يوم ما يكتبونه في الشأن العراقي على الصحف العربية.. ويتدخلون في امر العراق والعراقيين من دون اي خجل وهم لا يعرفون ما العراق ولا طبيعة العراق ولا خبايا العراق.. علما بأننا نحن العراقيين لا ولم نتدخل في شأن اي دولة عربية ولا شأن لنا في اي قضية لها اصحابها.. وعليه، فان محاكمات العراق لصدام وزمرته ستلقن كل ( المحامين ) الذين تجردوا في الدفاع عنه دروسا في القانون لابد ان يدركوها وهم في شيخوختهم مهترؤون.. كما ان تلك المحاكمات ستسكت اولئك الكتبة غير المدركين لحقائق الاشياء ولا حقائق التاريخ ولا تعقيدات الواقع ولا حجم المتغيرات والذين تتنوع اتجاهاتهم السياسية الشوفينية والتعصبية والاصولية والارهابية.. بأنهم يلعبون الاعيبهم في الوقت الضائع ولم تجدي مقالاتهم وصياحاتهم وتهريجاتهم وتصريحاتهم ومخاطباتهم لهم نفعا ابدا.. فعجلة العراق برغم كل العوائق والسدود وكل التناقضات والحدود بدأت تدور بسرعة باتجاه هو غير اتجاههم القديم الذي اعتادوا عليه منذ خمسين سنة.. وبرغم كل ما يتعرض العراق والعراقيين له من مآس واعمال متوحشة ارهابية.. والتي تنال مباركتهم باسم ( المقاومة الوطنية ) اعلاميا وسياسيا وثقافيا.. فان مواقفهم واهنة ولم يعد بمقدورهم ارجاع عقارب الساعة الى الوراء ابدا..


وماذا يمكننا قوله ايضا ؟
اعتقد اننا سواء كنا متوافقين مع حكام العراق الجدد ام كنا من خصومهم، فان محاكمة صدام حسين وحاشيته هي بالدرجة الاساس من اختصاص ذوي الشأن العراقيين والذين لابد ان يتقبلها كل العراقيين بما فيهم كل مناصريه ومحبيه من البعثيين وغيرهم.. ذلك لأن الرجل قد سقط بسقوط نظامه، ولابد ان يحاكمه شعبه عن تهم لا اعتقد ان عاقلا لا يدركها ان لم يسمع بها.. وان المحاكمات هي انجع اسلوب في البحث عن البراءة او الثبوت من الجرم ومن الغريب ان الرجل لم تكن له اي محاكمات اصلا لكل خصومه ومعارضيه.. ومحاكمة صدام حسين هي خليط من تهم جنائية وسياسية واقتصادية ومتنوعة داخلية واقليمية وعربية ودولية.. فاذا نجح العراقيون في ادائهم لها، فانهم سيؤسسون في التاريخ العربي المعاصر عند فاتحة القرن الواحد والعشرين اسلوبا حضاريا في تحقيق فرص العدالة لكل شعوب المنطقة التي باتت لا تعرف الا منطق الذبح بالسكاكين وحز الرؤوس وقطع الاطراف وفقىء العيون.. وكل هذا يحدث في العراق والاخوة العرب يغمضون عيونهم عليه ولا يعلنون استنكارهم لما يحدث للعراقيين في بغداد والمدن الاساسية باسم المقاومة.. كما اغمضوا عيونهم عما جرى في لبنان ابان الحرب الاهلية في الذبح على الهوية.. وكما اغمضوا عما حدث في الجزائر في الذبح باسم الدين !!
نعم، اذا نجح العراقيون في محاكمة جلادهم فسيلقنون الاخرين دروسا حقيقية في تحقيق العدالة.. على الاقل في الاشهار اعلاميا وتلفزيونيا وعرض الحقائق على كل الناس من دون اي اخفاءات ولا تحيّزات.. ومن المؤكد ان المعارضين السياسيين الذين لا يريدون ذلك كله سيقفون ضد المحاكمات معلنين عن انعدام شرعيتها وهذا من ابسط ما سيقولونه.. لكن دعهم يقولون ما يشاءون ما دام الشعب قد بدأ حياته التاريخية الجديدة في ظل اوضاع مختلفة خصوصا وان المحاكمات سوف لن تبدأ الا بعد الانتخابات القادمة التي نأمل ان لا تؤخرها الاوضاع الامنية السيئة..
هذا ما اردت كتابته اليوم في مقالي متمنيا ان تكون محاكمات العراق لها تأثيراتها التاريخية على مستقبل ليس العراق وحده، بل كل المنطقة اذ انها ستنفض تاريخا بكل قضه وقضيضه.. واتمنى ان تنشر غسيلا على الملأ بكل ما له وما عليه.. بل وقبل كل شيىء اتمنى ان تغدو منهجا في التعامل قانونيا واخلاقيا مع كل الذين يتهمون بجرائم متنوعة من اجل ان تتحقق العدالة ومن اجل ان تعبر الشعوب عن اراداتها الحقيقية بعيدا عن العواطف وعن الهوس الثوري وعن الهياج السياسي وعن كل الممارسات العقيمة المألوفة.