إعتذار لعداس الموصلي والأطباء آل بختيشوع وآل الكرملي

إذا لم يتعاضد العراقيون ويحتجون احتجاهم الأكبر، مثلما خرج الأسبان عن بكرة أبيهم رفضاً للإرهاب، وإذالم يعلنها الفقهاء صيحة بوجه الإرهاب سوف لن يسلم شيء من أيادي (شُراة الجنة)، لن يسلم مسجد ولا كنيسة ولا معبد ولا منزل ولا بقية حضارة. فيا أعجب العجب، أن تهز قصبة فقهاء جماعة علماء المسلمين إشاعة الاعتداء الجنسي على صدام حسين، الذي لم يترك هو وأولاده جنساً لم يعتد عليه، فقالوا لا يجوز التطاول على المسلم، لكن لم يهزهم إفزاع الآمنين في المنازل والأسواق، وقتل المصلين في مسجد أوضريح أو كنيسة، فيخرج كبيسيهم ويعلن من على شاشة الجزيرة: أن الفلوجة فتح من أعظم الفتوحات. وهو يعلم علم اليقين أن الغرباء حولوا الفلوجة إلى مطابخ للإرهاب.
بالأمس القريب أفزع شراة الجنة الباكين على الحسين فوق فزعهم وحزنهم، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وفجروا الضريح العلوي ولم يبق من جسد آية الله محمد باقر الحكيم غير خنصر وخاتم، وفجروا مساجد سنَّية وشيعية، وأتوا اليوم لتفجير الكنائس والأديرة. وبهذا سيأتون على بقية تسامح ديني يفتقد إليه المحيطون، أتوا ليزيلون فخر المسلمين بتصرف الإمام علي بن أبي طالب عندما أدخله أصحابه إلى باحة بناء للإغتسال، ولما سأل عن المكان قيل له: إنها كنيسة، فامتنع الإمام بالقول: طالما عُبد الله فيها.
سيأتون على ذكرى عداس الموصلي وهو يضمد جراح النبي محمد عندما أدمته حجارة عرب ثقيف، سيلغون ذكرى النجاشي وهو يردُ طلب عمرو بن العاص في بلاطه عندما أتى مبعوثاً من قريش لتسليم المهاجرين، أتوا لمحو نداءات العراقيين من مسلمين ومسيحيين وهم يأسسون لدولتهم الحديثة، نداءات تعمق الوحدة العراقية وتنبذ تطاول طرف على طرف آخر. يوم "استقبل وفد يضم شباباً من السنَّة والشيعة، موكباً مسيحياً كان في طريقه إلى أحد الكنائس للإحتفال بعيد الجسد، فنثروا الورود ورشوا الماء المعطر على الموكب وهتفوا: عاش مجد سيدنا المسيح، عاش إخواننا المسلمون.. عاشت الوحدة العراقية، عاشت الوحدة الوطنية". فكان جواب المسيحيين: "عاش إخواننا المسلمون، عاش العرب". واستعداداً لتشكيل الدولة الحديثة والعيش بتجاور مريح حرصت كل الأطراف على المشاركة في الأعياد الدينية، ووزعت منشورات في أيار "مايو" من السنة نفسها ببغداد والموصل على المسيحيين واليهود "تؤكد على وحدة وأخوة كافة الطوائف العراقية وتدعوها باسم الوطن الواحد والمصير الواحد إلى الإتحاد مع المسلمين لتحقيق استقلال العراق".
أشارت الروايات بوضوح إلى أن دخول النصرانية العراق كان بفعل حركة تبشيرية هادئة، بعيداً عن فتوحات الروم البيزنطينيين، وأول المناطق التي تنصرت هي منطقة حدياب، أربيل اليوم. وارتبطت المسيحية بالعراق بمختلف أقوامه القديمة، من سريان وعرب وكرد، وأمتدت من شماله إلى جنوبه، ومن أبرشية فرات ميسان (البصرة) وصلت المسيحية إلى الصين والهند وسقطرى في عرض المحيط الهندي بين الصومال وعدن، وإلى قطر والبحرين، لم ينافسها في جنوبي العراق غير الصابئة المندائيين والمجوسية، والأخيرة كانت ديانة الدولة الساسانية الرسمية آنذاك.عشرون قرناً هو عمر المسيحية ببلاد ما بين النهرين، واجهت خلالها اليسر والعسر تبعاً إلى الظرف السياسي وشخصية الحاكم الفارسي المجوسي أو العربي المسلم.
يذكر لنا النص القرآني وأحداث التاريخ صلات طيبة ما بين النبي محمد والنصارى. فقد خلدَ القرآن مذبحة النصارى بنجران على يد الملك اليمني ذي نواس: "قتل أصحاب الأخدود، النار ذات الوقود، إذ هم عليها قعود، وهم على ما يفعلون بالمؤمنون شهود". فمَنْ هم المؤمنون غير المصلين في كنيسة نجران، وقد أضرمت النار، واُحرقوا فيها! والمشهد لا يختلف عن مشهد إحراق الكنائس اليوم ببغداد والموصل، إنها رجعة من رجعات التاريخ. لقد أغفل أو تعالى الفاعلون على ما جاء في الآية "ولتجدن أقربهم مودَّة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى، ذلك بأن منهم قسّيسين ورهباناً، وأنهم لا يستكبرون"، ولكنك تجدهم مخلصون ومستميتون في متابعة النص التالي "فأقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" رغم زمنية ولحظة هذا النص وديمومة النص الأول، لأنه يعني حالة دائمة بينما عنى الثانية بحالة طارئة. فمَنْ أحرق هؤلاء بتفجيراتهم غير القسيسين والرهبان والمصلين صلاتهم في يوم الأحد. المقتلون هم أحفاد القساوسة الذين أوصت بهم هند بنت النعمان قائد الفاتحين المسلمين: "هؤلاء النصارى الذين في أيديكم تحفظونهم، فقال لها: هذا فرض علينا، وقد وصانا به نبينا"(الشابشتي، الديارات).
أما التاريخ فيحفظ للنصارى أنهم استقبلوا رُسل النبي وأكرموهم، وخبر نجاشي الحبشة معروف وإقامة مأتم على روحه من قبل النبي معروف أيضاً، وموقف مقوقس الإسكندرية غير خاف على أحد، بل هناك مَنْ نقل وصايا نبوية تجاه القبط. والتاريخ الإسلامي لم يهمل مأثرة الغلام النصراني الموصلي عداس مع النبي، وهو غلام من نينوى، كان يعمل بخدمة نفر من ثقيف بالطائف، ولما شاهد النبي مكلوماً من إيذاء أهل الطائف أقترب منه، وحدثه عن النبي يونس، وضمد جراحه وسقاه ماءً وأطعمه عنباً، خلافاً لرغبة أسياده الثقفيين (راجع القصة كاملة في تاريخ الأمم والملوك للطبري). وكان ورقة بن نوفل قساً بمكة، مشجعاً للنبي، و"الرسول نهى عن سبه"، وقال في منزلته: "شعرت أني قد رأيت لورقة جنَّة أو جنتين". وأكثر من هذا أذن الرسول لنصارى نجران أن يصلوا بصلاتهم في مسجده وقد علقوا الصلبان في أعناقهم ولبسوا لباس القساوسة، وهم اليوم يمنعون من دخول الحجاز بأكملها، جاء في الرواية "قاموا في مسجد رسول الله يصلون، فقال الرسول: دعوهم، فصلوا إلى المشرق" بعد تغيير القبلة بسبعة سنوات(راجع الحدث الذي سنعود إليه في مقالة أخرى، في سيرة ابن هشام، وأسباب النزول للواحدي وغيرها).
ألم تحضر أمام مفجري بوابات الكنائس والأديرة، ذات التاريخ الضارب بالقدم في أرض الرافدين، واحدة من هذه الشواهد، فيقتلون الأطفال والنساء على عتباتها، فإذا لم يردعهم ويكفهم عن غيهم قرآن ولا قول نبي ولا عاطفة عِشرة وجيرة فإلى أي دين وإلى أي مذهب هؤلاء ينتمون؟ ها أنا أتصفح مقالات المذاهب السبعة في الإسلام فلا أجد في أحكامها حكم يوجب إفراغ الأرض من أهل الأديان الأخرى، ولا أجد عند فقهاء المذاهب السبعة المعاصرين مَنْ يدعو إلى تطبيق ما عرفه المتشددون بالشروط العمرية في غير المسلمين.
صفحات أخرى يذكرها مؤرخون سريان أن هناك اتصالات جرت بين العراقيين النصارى والنبي محمد، وأن هناك خبراً يتناقله شيوخ صابئة عن إتصال رئيس كهنتم بالعراق بالنبي محمد أيضاً. ومن أخبار تلك المصادر أن الجاثليق ايشوعياب، رئيس الكنيسة الشرقية في بدايات الإسلام، بعث برسالة وهدايا إلى النبي، حملها إليه أسقف ميسان أو فرات ميسان (البصرة)، لكن وصول المبعوث صادف وفاة النبي، فأوصل ما كان معه إلى الخليفة أبي بكر الصديق (تاريخ الكنيسة الشرقية، عن تاريخ السعردي).
ويذكر ماري بن سليمان (القرن الثاني عشر الميلادي) أن النبي محمد قد تسلم رسالة رأس الكنيسة الشرقية، وأن ملك الفرس قد استنكر فعل ذلك، ورد في الرواية: كان الجاثليق أو الفطرك "يكاتب صاحب شريعة الإسلام، ويهدي له ويسأله الوصاة (هكذا وردت) برعيته في نواحيه، فأجابه إلى ذلك، وكتب إلى أصحابه كتباً بليغة مؤكدة، وبرّه صاحب الشريعة، عليه السلام، ببرّ كان فيه عدة من الإبل وثياب عدنية، وتأتى ذلك إلى ملك الفرس، فأنكر على الفطرك فعله ومكاتبته، وخاصة عند ورود هداياه، فداراه (الجاثليق) إلى أن سلم منه، وعاش إلى أيام عمر بن الخطاب عليه السلام (هكذا وردت)، فكتب له كتاباً مؤكداً بالحفظ والحياطة، وأن لا يؤخذ من إخوانه وخدمه الجزية وأشياعه أيضاً، وهذا الكتاب محتفظ به إلى هذه الغاية"(تاريخ الكنيسة الشرقية).
فتحت العهود النبوية والراشدية للنصارى أفقاً رحباً في التسامح الديني، وكانت أصلاً أعتمده فقهاء المسلمون والخلفاء، ماعدا مَنْ شذ وتشدد في المعاملة، في تأكيد حِسن المعاشرة والجوار المريح، فالإمام أبو حنيفة النعمان يوصي تلميذه السمتي بالقول: "عاشر أهل الأديان بمعاشرتهم"، و ألا يكفي قول القرآن شاهداً على حِسن معاملة الآخر: "اليوم أُحلَّ لكم الطيبات وطعام الذين أُتوا الكتاب حلٌّ لكم". وإن عدَّ مفجرو الكنائس والأديرة سلمان الفارسي من الصحابة، وهو أحد المقربين من النبي والمؤتمن من قبل عمر بن الخطاب في ولاية المدائن وأحد حواري علي بن أبي طالب، فعليهم أن يصغوا وصيته في معاملة أهل الأديان الأخرى: "إذا صحبت الصاحب منهم تأكل من طعامه، ويأكل من طعامك، ويركب دابتك، في أن لا تصرفه عن وجه يريده"(أبو يوسف، كتاب الخراج). وإن قالوا: نحن لا نقر بإمامة أبي حنيفة ولا نعترف بصحبة سلمان الفارسي، ولا نقيم لمشورته في حفر الخندق قدراً رغم فضلها في الإسلام، فما عساهم يقولون في وصية النبي محمد؟ قال: "ألا مَنْ ظلم معاهداً أو كلفه فوق طاقته أو انتقصه، أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفسه فأنا حجيجه يوم القيامة"(كتاب الخراج).
فهل هناك ظلم أبلغ من إشاعة الرعب والفزع، بين عجائز وأطفال وشبان دأبوا على ممارسة طقوسهم في هذه الأرض قبل الإسلام بقرون، وهذا ما شهد به الجاثليق طيمثاوس للخلفاء المسلمين وهو يتحدث إلى رهبان دير: "إنهم لم يكرهونا قط على عمل شيء يمس الدين"(مجلة بين النهرين). عشرون قرناً ونصارى العراق يخدمون العراق ثقافة وطباً وترجمة وفلاحة، لم نقرأ كتاب فلسفة أو علم إلا من ترجمتهم، تحملوا، مثل باقي الأديان الأخرى، شروط الفقهاء المتشددين العمرية، وصغروا عند دفع الجزية، تحملوا مزاج أمراء وخلفاء فرضوا بلبس الزنانير، والحرمان من ركوب الخيول ودخول الحمامات، وأمتثلوا للوائح إذلاهم، مثل تعليق شارات الإهانة على أبواب منازلهم. ورغم ذلك ظلوا بعراقهم وعلى دينهم، يتجنبون مواقع الإيذاء والضرر بهم، حتى تطبعوا على الصبر والصمت، وحرصوا على التحصيل العلمي فكان منهم في السابق أكطباء وعلماء يستظل بظلهم، ولهم في العصر الحديث ما لا يتغافل عنه أحد. كان أبرز المحققين الأخوين كوركيس وميخائيل عواد، وأبرز اللغويين بالعربية والقاموسيين الأب أنستانس الكرملي، والأب آدي شير، والأب إغناطيوس الرحماني، والأب أوغسطين مرمرجي، وأبرز المترجمين عبد المسيح وزير، وأبرز الإعلاميين رفائيل بطي، وأبرز المربين متي عقراوي، وأبرز المؤرخين في السريانيات الأب يوسف حبين والاب البير أبونا، وأبرز الماليين يوسف غيمة، وهذا قليل من كثير.

[email protected]