في كتابه "الانسان ذو البعد الواحد" يستشهد المفكر الألماني المتميز(هربرت ماركوزة) بنص للفرنسي ( فرانسوا بيرو) يقول فيه: "يعتقد المرء انه يموت من أجل الطبقة، وهو في الواقع يموت من أجل رجالات الحزب. ويعتقد انه يموت من اجل الوطن، وهو يموت من أجل ارباب الصناعة. ويعتقد انه يموت من اجل حرية الناس، وهو يموت من اجل ارباح الشركات. ويعتقد انه يموت في سبيل الطبقة العاملة، وهو يموتفي سبيل بيروقراطيتها. ويعتقد انه يموت بناء على أمر من الدولة، وهو يموت من أجل المال الممسك بتلابيب الدولة. ويعتقد انه يموت في سبيل الأمة، وهو يموت في سبيل اللصوص الذين يكمون فاها، ويعتقد..... ولكن لم الاعتقاد والايمان في عالم مظلم داج الى هذا الحد؟ الايمان، الموت؟ ولكن ألم يحن الأوان لنتعلم كيف نحيا؟"

هذا النص أثار في ذهني بعض التأملات حول الوضع الملتبس في العراق، لاسيما وقد التقيت قبل فترة قصيرة ببعض الأخوة من الفنانين والكتاب والأساتذة الجامعيين الذين زاروا العراق لفترات مختلفة تمتد ما بين الشهر وحتى الخمسة اشهر. والمهم في الأمر ان هؤلاء الأخوة لم يرجعوا الى الوطن بحثا عن موقع سياسي أو إداري او وظيفة في الوزارات التي بفترض بها ان تحتظنهم. هؤلاء ذهبوا ليتعرفوا على وطنهم الذي تشردوا من أجله في بلاد الله الواسعة.

كل منهم عاد بتجربة متناقضة، وكل منهم عاش تجربته الخاصة، لاسيما وانهم من محافظات مختلفة، لكنهم ومن خلال أحاديثهم كانوا يتحدثون عن شيء واحد، هو ان العراق قد إجتاز ليل البعث الفاشي البهيم، لكنه لا زال في عتمة السحر، فالشمس لم تشرق بعد، لكن الليل قد ولى، وتباشير الفجر تلوح في الأفق، لكن العتمة موجودة بعد.

تحدثوا عن حرية الصحافة، عن الحرية التي لم يعرفها العراق منذ قرون وقرون، لكنهم ايضا شكوا من المستوى الهابط لمعظم هذه الصحافة سواء من الناحية الحرفية او الجمالية.

تحدثوا عن مستوى المعيشة الذي تحول للأحسن بما لايقاس مع سنوات الحصار، بل ومع السنوات التي قبلها ايضا، لكنهم تحدثوا ايضا عن إنقطاع الكهرباء والماء، وعن دور السلطة والأميركان في قصديتهم بعدم حل هذه المشكلة من أجل إشغال الناس بهموم غير هموم السياسة وإصطفافات الدولة الجديدة.
تحدثوا عن حقد الناس للبعث ولصدام وعائلته واقربائه، لكنهم تحدثوا ايضا عن لامبالات الناس بمن سيأتي الى سدة الحكم، المهم ان لا يكون بعثيا او من البعثيين المتخفين بثياب جديدة.
تحدثوا عن عودة اساتذة الجامعات البعثيين بحجة حاجة الجامعات العراقية الى الاساتذة، لكنهم يرفضون تعيين الاساتذة العراقيين القادميين من المنافي.

تحدثوا عن الجامعات العراقية التي تشهد حراكا تنظيميا جبارا يتصدى لكل محاولات إعادة البعثيين الى الجامعات، بل يصل الأمر الى تصفية القتلة والسفلة منهم، الذين قادوا عشرات الطلبة الجامعيين الى الموت والى أقبية السجون حينما كانوا عمداء ومسؤولي كليات وما شابه.

تحدثوا عن القتلة ورجالات المخابرات وعتاة البعثيين الذين لا زالوا يشغلون جميع المكاتب الأدارية في الوزارات الحكومية، خاصة مكتب الوزاراء ووكلائهم والأمن في هذه الوزارات.

تحدثوا عن إستعداد العراقيين الى أن يبادوا من جديد على ان لا يرجع البعث والبعثيين الى الحكم.

تحدثوا عن الفوضى في شوارع بغداد، عن الأوساخ والقمامة التي تملأ شوارعها، لا سيما شارع الرشيد

تحدثوا عن عدم الأمان الذي يلقي بظلاله على الحياة.

تحدثوا عن مكاتب للوساطة مع الخاطفين وإعادة المخطوفين

تحثوا عن مخرج قدم قبل سقوط صدام مسرحية زبيبة والملك، ثم قدم قبل ايام مسرحية عن الشهيد الصدر

تحدثوا عن اللامعقول في المجتمع العراقي، عن الشيوعيين الذين يذهبون للصلاة عن سماع الآذان، وعن الشيوعيات المحجبات، وعن الحراك النسوي المنظم الذي ربما سيعيد توازن الحياة والمجتمع العراقي.

تحدثوا عن إنتشار الأصولية، والوهابية، وبالمقابل انتشار الدعارة

تحثوا عن الحساسيات من العراقيين الوافدين الى العراق، رغم كل الصراخ والتصريحات والنوايا الطيبة التي تضيء في قلب البعض.

تحثوا عن الطائفية، والمناطقية، رغم كل محاولات التربية السياسية بتجاوز هذا الأمر.

تحدثوا عن الرشوة،هذا الأخطبوط الذي سيدمر الدولة العراقية وهي في بدايات تكوينها الجديد.

تحدثوا عن السرقات بالملايين من قبل المسؤليين الجدد..

وتحدثوا عن الإحتلال.. وما أدراك ما الإحتلال..؟

تحدثوا عن أشياء اشد هولا.. وتحدثوا عن أشياء أجمل.. وتحدثوا عن الأمل.. وتحدثوا.. وتحدثوا
.. وتحدثوا.. ورغم كل هذا.. فالناس يشعرون بالفرح لسقوط صدام وحكم البعث الفاشي، لكنهم في حيرة من أمرهم، فأكثر من ثلاثين عاما من الحصار الفكري والثقافي والسياسي، حول الناس الى أميين في السياسة، وجعل أفقهم السياسي ضيقا، ومحا الكثير من ذاكرتهم السياسية، فكأنما التاريخ بدأ بالبعثيين وبقرية العوجة وانتهى معهم وفيها. فهم لا يعرفون الكثيرعن العراق في المرحلة الملكية، بل ولا يعرفون الكثيرعن عبد الكريم قاسم، مثل، بل لا يعرفون الكثير عن الحركات السياسية العراقية المعارضة، ولا ضير في ذلك، فالمسالة مسألة وقت لا أكثر.

سيتعرف العراقيون قريبا على الوجه والقناع، عن الأصيل وعن المزيف، عن الحقيقة وعن الأكاذيب، ولا أشك في ذلك ابدا، فهم ابناء الحضارات العريقة، وهم ابناء الثورات المجيدة، وهم ورثة مأثرة كربلاء، وهم ورثة مقامات الفقهاء النجباء، والمتصوفة، والشهداء، وهم الحالمون رغم ان البعث عصب أعينهم عن رؤية النور لأكثر من ثلاثة عقود.

نعم، لقد توقفت عند إستشهاد ماركوزة، وما أثارني حقا، هو السؤال الأخير: ألم يحن الأوان ان نتعلم كيف نحيا؟؟

بلا والله انه لسؤال يستحق التأمل: أما آن الآوان لنتعلم كيف نحيا؟؟