هذا هو عنوان أحدث كتب الدكتور بطرس بطرس غالي الذي يغطي فترة ستة أعوام بين أول يناير 97 بعد الخروج من الأمم المتحدة ونهاية ديسمبر 2002 بعد الخروج من منظمة الفرانكوفونية. يقع الكتاب، الصادر عن دار بايار في باريس، في 710 صفحة، (ومن المنتظر أن تصدر طبعة عربية له قبل نهاية العام).
يرجع عنوان الكتاب إلى مقابلة للمؤلف مع عراف هندي في سبتمبر 1994 قال له فيها، ردا على تساؤل حول فرص نجاحه في إعادة الانتخاب لمنصبه في الأمم المتحدة: "لا أعتقد أنك ستحقق هذا المشروع. ولكني أعتقد أن نجمك سيسطع أكثر بعد أن تترك تلك الوظيفة. سيكون ذلك بعد "ألف قمر". وأؤكد لك أنه سيسطع ببريق لا مثيل له..."


...
يعتمد د. غالي في هذا الكتاب نفس الأسلوب الذي اتبعه في كتابيه السابقين: "طريق مصر إلى القدس" و "في بيت من الزجاج" (بحسب عناوين الطبعات العربية)؛ وفيها ينشر مذكراته التي يكتبها بصورة شبه يومية. وإن كانت اليوميات تتصف عموما بالصدق في طرح أفكاره وآرائه، إلا أنه من الملاحظ أنه بدأ مع الوقت يأخذ في عين الاعتبار أن ما يكتبه سيُنشر بعد فترة قصيرة نسبيا، وليس مجرد مذكرات شخصية..
ملاحظتان تمهيديتان قبل أن نغوص في الكتاب. الأولى: بما أنه يتعرض، بسبب طبيعته، لعدد كبير من القضايا والموضوعات فلا بد عند عرضه من التركيز على رؤوس موضوعات أو محاور أساسية، وإلا تُهنا في خضمه. الثانية:عندما يكتب واحد في مقام د. غالي كتابا كهذا، فمن الإهانة له ألا نأخذه بجدية ونفحص آراءه بشيء من التعمق، مع طرح التساؤلات بدون حرج أو مجاملة.

الفرانكوفونية
جزء كبير من صفحات الكتاب مخصص بالطبع للفرانكوفونية ونجاح د. غالي في انتخابه لمنصب الأمين العام في نوفمبر 97 بمساندة فرنسا، وبرغم معارضة عدد من الدول الأفريقية؛ ومحاولات التجديد التي فشلت لعدم مساندة فرنسا.
لا نملك سوى الإعجاب بتفاني د. غالي في خدمة الفرانكوفونية برغم عدم اكتراث كثير من دول العالم العربي، باستثناء لبنان وبعض دول المغرب العربي (الجزائر لم تنضم لها حتى الآن!). وقد وصل عدم الاكتراث بها في مصر لمداه عندما يقول له (في 20 مايو 2002) أحمد ماهر وزير الخارجية المصري عندئذ :[إذا دخَلت (مصر) مجموعة الفرانكوفونية فذلك من باب التضامن مع السكرتير العام، رئيسي السابق]!!
بل الأدهى من ذلك أن الفرانكوفونية لا تتمتع بتأييد شعبي أو إعلامي واضح داخل فرنسا نفسها، حيث كثيرا ما يُنظر إليها كعبء بدون جدوى. وما أكثر شكاوى د. غالي عبر صفحات الكتاب من تجاهل الصحافة أو انتقادات "لو موند" له، أو تعارض الأجندات بين الحكومة وبين الإليزيه (الرئاسة).
هل كان الأمر بأكمله بالنسبة له نوعا من التعويض الذاتي عن فقد منصب الأمم المتحدة، كما يقول هو أن البعض يتهمه به؟

أمريكا
ليس هناك من شك في أن معارضة أمريكا لتجديد انتخابه لمنصب الأمين العام للأمم المتحدة مازالت تترك آثارا غائرة على د. غالي، برغم نفيه ومايقوله عن "إعجابه القديم بها".
وصل الأمر إلى أن تأخذ عليه زوجته أنه [(أثناء عشاء مع مثقفين في لاهاي في 12 فبراير 98) كان بالغ العداء لأمريكا..]. وفي 22 اغسطس 98 يكتب: [قال لي محرر كتابي (حول سنوات الأمم المتحدة، الذي كان عندئذ تحت الإعداد) أنه يشم من الكتاب رائحة المرارة و"النوستالجيا" وشكاوى "خاسر رديء". يجب أن أصحح الصورة (عن طريق إعادة الصياغة)، وخاصة أنه ليس لدي مرارة تجاه من خانوني ومن حاولوا هدمي"].
لا يقول لنا د. غالي من هم الذين خانوه أو حاولوا هدمه. كما لا يبدو على الإطلاق، عبر صفحات الكتاب، تقبله لفكرة أن معارضة أمريكا لتجديد ولايته ربما كانت ترجع لأسباب مثل عامل السن ووعده المسبق بعدم طلب التجديد، وأيضا بعض المآخذ على طريقة إدارته للمؤسسة الدولية.
في لقاء مع هنري كسنجر في لوزان بسويسرا في 25 سبتمبر 99 يقول: [وجدتُ أنه انتهى من قراءة كتابي.. الذي أظهر سخافة مادلين أولبرايت. واتضح لي أن هناك من هم أشد كراهية لتلك السيدة من السكرتير العام السابق..].
في 30 سبتمبر 2002 في قصر السلام بلاهاي (هولاندا) قال [أشعر بالإعجاب لخطاب متحمس من امرأة شابة تشجب بقوة انتهاك الولايات المتحدة لحقوق الإنسان، في تصرفات لا تختلف عن الطغمة العسكرية الحاكمة في بورما].
إذن لا نعرف إن كانت المشكلة هي مع أشخاص معينين (مثل أولبرايت)، أو مع إدارة الديموقراطيين التي طالما وَصف سياستَها بالإنفرادية ( unilateralism ). أم أن الأمر يتعدى ذلك؛ إذ أنه وصف الجمهوريين الحاليين بنفس الشيء فيما بعد، كما قام (في21 ديسمبر 2001 في تونس) بشن هجوم حاد على [الانفرادية الأمريكية التي تعود إلى مبدأ مونرو (في بداية القرن العشرين)]. أي أن المسألة أصبحت متعلقة بأمريكا كلها بغض النظر عن الإدارات...

الإرهاب
عندما وقعت أحداث 11 سبتمبر 2001 كان في بيكين بالصين [وكان رد فعلي الأول هو الشعور بالراحة إذ لا يوجد سوى عدد صغير من الضحايا. (تصحح له زوجته أنها: الساعة 9,30 صباحا حيث يوجد آلاف الناس داخل المبنى).
رد الفعل الثاني: نظام الشبكة المضادة للصواريخ فقد الجزء الأكبر من مبرراته (..)
رد الفعل الثالث: أخشى من حرب صليبية (كروساد) معاد للإسلام، بما أن الرأي العام الأمريكي لا يفرق بين المسلمين الحقيقيين – أي المعتدلين، وبين مجانين الله – المتطرفين.
رد الفعل الرابع: أخشى أن تتذرع اسرائيل بهذه الكارثة لاحتلال المناطق الفلسطينية وزيادة قهرها].
من الغريب أن يكون هذا كل ما دار برأس د. غالي أمام حدث مهول مثل هذا، لدرجة أن زوجته أخَذت عليه [عدم حساسيته في مواجهة التراجيدية البشرية التي تحدث...] (فضلا عن الآثار الجيوستراتيجية بعيدة المدى للحدث).
في صباح اليوم التالي يكتب: [أستيقظ مبكرا.. وأقرأ ما كتبتُه بسرعة أمس ...أود أن أضيف أن الخطر الأكبر الذي يهدد السلام بعد تلك الهجمات هو البحث عن عدو، مثلما كان ذات يوم "الشيطان الأكبر" و "الخطر الأصفر". أخشى أن واشنطن ستريد شيطنة الإرهاب في العالم العربي والعالم الإسلامي اللذَين هما الأُوَل في دفع ثمن فادح للتطرف الإسلامي....].
هل يظن د. غالي حقا أن أمريكا كانت تبحث عن عدو، أيا كان، لتنتقم منه؟ وألا يرى أن الإرهاب الإسلامي خطر لا يحتاج إلى مبالغة في تقييمه ولا إلى شيطنته؟ وهل يرى أن أمريكا تقوم حقا بحرب صليبية ضد العالم الإسلامي؟؟ كل هذا يترك لنا الشعور بأنه، بالإضافة إلى مراراته الشخصية، يكتب ما يكتب تملقا للرأي العام العربي.
بتاريخ 12 أكتوبر 2001 بباريس يقول: [سُئلت في مقابلة مع قناة الإخبارية الفرنسية إل سي إي. "ماذا شعرت عندما تهاوى البرجان؟" قلت أن أحد أسباب الإرهاب الأصولي الإسلامي يجب البحث عنها في الوضع الفلسطيني"]. لم يكن هناك بد من أن يرى مقدم البرنامج عندئذ في هذا الكلام تبريرا غير موفق للإرهاب. وهل القضية الفلسطينية العادلة محتاجة لأساليب الإرهاب ضد الأبرياء في مختلف أنحاء العالم لكي تنتصر؟؟
وبتاريخ 29 أكتوبر 2001 يكتب عن [مقال في الفيجارو، يقول أن الإرهابَ سببُه عجز الدول الإسلامية عن العثور على طريقها نحو الحداثة... مثل هذه المقالات نجدها في الصحافة الأمريكية مؤخرا. في الواقع، فإنها تهدف إلى إخفاء المشكلة الفلسطينية التي هي السبب الأولي للإرهاب ولعداء العالم العربي تجاه أمريكا والغرب (...) نظرية العجز عن قبول الحداثة ليست جديدة ونجدها عند مستشرقي الفترة الكولونيالية... وقد كان إدوارد سعيد أفضل من لخصها (...). الوجود النيوكولونيالي الإسرائيلي يجري تبريره اليوم على الأرض الإسلامية].

التطرف
تحت تاريخ 13 أبريل 2002 يتحدث عن عشاء في السفارة المصرية في داكار ..[ولاحظت أنه "لا يوجد سوى عصير فواكه. لا يدري السفير ماهي الصورة التي يعطيها عن مصر .. ويعطي الانطباع أنه قد تلقى أوامر من القاهرة أو بالأكثر أن تأثير المتطرفين الإسلاميين يتزايد في مصر بينما الحكومة تحاربهم وتريد أن تعرف العالم بذلك، أو ترك الفكرة أن الحكومة قد ضعفت لدرجة أنها تطبق تعاليم المتطرفين.. أي الثورة المتطرفة بدون متطرفين..].
ويشير تحت تاريخ 3 نوفمبر 97 إلى [نقاش دار في القاهرة "مع عدد من المثقفين المسلمين الليبراليين. يقولون لي "العالم العربي الإسلامي في أزمة. الأصوليون يزدادون عنفا إزاء المسلمين الليبراليين وغير المسلمين (الأقباط). ويصفونهم بالمرتدين المجدفين.... التناقض المستمر بين التحديث والأصولية. نعيش تراجعا مستمرا في استقلالية النظام القانوني، المستوحي من النظام النابوليوني، الذي أصبح مهددا أكثر فأكثر من الشريعة.....". استمرت المناقشات لوقت متأخر في الليل، ولكني لاحظت أن أكثرية المتحدثين بحماس (حول التحديث) لا يشربون. يبدو أنه حتى الليبراليين قد تأثروا بالتطرف والتزموا برموزه].
يتحدث تحت تاريخ 2 نوفمبر 97..عن [حوار دار في قاعة اجتماعات جريدة "الأهرام" حول كتاب "الطريق إلى القدس"... أحاول الرد على انتقادات جنرال (ضابط سابق) يعيب عليًَّ قولي أن السادات اختار العالم الغربي. ثم يؤثم ثقافتي الفرنسية التي يقول أنها مسئولة عن رؤيتي المشوهة للحقيقة. أعارض جهله بوجود قطاع من المثقفين المصريين التي تحبذ الانفتاح على الغرب منذ عقود. أُذَكره بحلم الخديوي اسماعيل أن تصبح مصر قطعة من أوروبا، وبالكتاب العظام طه حسين وقاسم أمين ومحمد حسين هيكل وسلامة موسى وتوفيق الحكيم وحسين فوزي الذين كان مستقبل الثقافة المصرية عندهم يمر عبر الانفتاح على الغرب. جهد ضائع، إذ يصر الجنرال على موقفه].
يبدو أن د. غالي لم يعد يدرك أن جيل الكتاب العظام الذين كانت آمالهم هي انفتاح مصر على الغرب قد انقرض وحل محله جيل (أجيال !) ممن تسيطر عليهم كراهية الغرب والحداثة.

السادات- السلام مع إسرائيل
بتاريخ 17 نوفمبر 97 يكتب، بعد أن علم بنبأ اغتيال السواح في الأقصر: [(...) اليوم أريد تذكر السادات والصلاة من أجله، اغتيل على يد متطرف بالضبط مثل جدي في 1910. مثل موسى، لم ير السادات الأرض الموعودة.. أرض سيناء المقدسة التي دفع الكثير من الجنود المصريين حياتهم دفاعا عنها.
عرفت السادات في الخمسينيات...كان يُعتبر بواسطة رفاقه بواسطة رفاقه "العجلة الخامسة (للطواريء)". وكان يُدعى "الحمار الأسود" في صالونات المجتمع القاهري. كان يؤخذ عليه تلونه وانتهازيته: أحيانا مع الإخوان، أحيانا مع الماسونيين، أحيانا يساند النازية.... ولكنه كان الأكثر ثقافة بين جماعة الضباط الذين استولوا على السلطة... وكان يحيط نفسه دائما بالفنانين والمثقفين والصحفيين. (...)
قائدٌ بحق، ورجل دولة لا يهمه كثيرا الحصول على رضي الجماهير عند اقتناعه بصحة قراراته، ويعرف كيف يمشي في وسط تردد مستشاريه. يجب أن أعترف بكوني من المجموعة "الحذرة" التي كانت تخشى فشل مبادرته، وكنت أفكر بهدوء في بدائل لها.(...)
السادات، لأنه كان معجبا بالحضارة الغربية ولأنه أحبها وفهمها مثل مفكري عصر النهضة، ....عرف كيف يجذب حب الشعوب الغربية. وكان لديه ضعف تجاه الفنانين الأمريكيين والأوروبيين والكتاب ونماذج الأرستقراطية القديمة، وإن بقي على حاله كابنٍ لقريته].
هكذا يبدو أن إعجاب د.غالي بالسادات بلا حدود، وإن كان لا يقول لنا، وبغض النظر عن مبادرة السلام، إن كان يرى أن تعامله مع الأوضاع الداخلية في مصر، من نواح مختلفة، كان موفقا.
من ناحية أخرى، يبدو تعاطف د. غالي الشديد مع الفلسطينيين، والذي تكرر التعبيرعنه لعدد لا يكاد يحصى من المرات في الكتاب، مُتَفَهما تماما بالطبع. لكن ليس من المستبعد أن هناك نوع من المبالغة التي ربما ترجع إلى رغبة في تغيير السمعة التى التصقت بعد أن اتُهم بالخيانة منذ مساندته لمبادرة السادات.
لكن لعله من الشيق إيراد ما كتبه في 20 أبريل 99 من روما: [أثناء الغذاء مع (زوجته) في ناد بصحبة صديقة طفولة، هجم علينا - حرفيا- محمد حسنين هيكل وزوجته وأخذونا بالأحضان الحارة الحميمة... ولكن بالكاد منذ بضعة أسابيع، هال ذاتُ الشخص الطينَ فوق رأسي ولم يتوانَ عن تكويم الأكاذيب، في مقال طويل مسمم تعليقا على كتاب "الطريق إلى القدس". لقد احتفظ بكراهية عارمة تجاه السادات الذي أزاحه من الحياة السياسية. ولم يتوقف إطلاقا عن الادعاء بأنه (السادات) خان فلسطين، وباعها في سبيل سيناء. وهو يعتبر نفسه الزعيم الفكري لأتباع الخط العروبي المتشدد الذي باشره في عصره جمال عبد الناصر. (....)
لابد أن أعترف أن المشاكسة التي يتابعني بها في كتاباته منذ ذلك اليوم في نوفمبر 1977 الذي فيه طلب مني السادات أن أصحبه في زيارة القدس، لا تترك أثرا فيّ؛ لأن تلك الزيارة التاريخية ستبقى حتى مماتي نقطة القمة في حياتي السياسية].

[email protected]