"جورج حبش! من يكون؟ إنَّني لم أسمع به من قبل." (من حديث مع شاب عربي مشرقي في منتصف العشرينيَّات من عمره.)


حين أجبت سائلي أنَّ الدكتور جورج حبش هو مؤسِّس "الجبهة الشعبيَّة لتحرير فلسطين"، نظر إليَّ نظرة السؤال والحيرة، ما أكد لي أنَّه لم يسمع بشئ اسمه الجبهة الشعبيَّة لتحرير فلسطين. إنَّ الدكتور جورج حبش والجبهة الشعبيَّة لم يعودا في قلب الأحداث، على الأقل خارج بعض المناطق الفلسطينيَّة، وبالتالي فإنَّهما خارج إطار الخبر اليومي. ولعلَّ في هذا ما يخفِّف من وطأة الصدمة، ولكنَّه يفتح أبوابًا عديدة لإمعان الفكر والنظر.
العالم العربي هو واقع مجتمعات شابَّة. فما يزيد على الخمسين من المائة من سكَّانه هم دون العشرين، وهذا يعني، انطلاقًا من علم السكَّان، أنَّ تعداد هذه المجتمعات يتضاعف مرَّة كلَّ عشرين سنة. هذه حقيقة يمكن لأيِّ مراقب التأكُّد منها بمراجعة نموِّ السكَّان في معظم الدول العربيَّة خلال المائة سنة الماضية، مع التحفُّظ على العراق في العقدين الأخيرين نتيجة الحروب والعقوبات، وعلى لبنان نتيجة الهجرة المتواصلة خلال القرن الماضي.
نحن إذًا حيال مجتمعات عربيَّة تتجدَّد كلَّ عشرين سنة ولكن بأيِّ اتجاه؟ إذا نظرنا إلى جيل الخمسينيَّات والستينيَّات رأينا أنَّ نظرته صيغت نتيجة نكبة 1948. جيل السبعينيَّات صاغته هزيمة 1967، أمَّا جيل الثمانينيَّات والتسعينيَّات فصاغته حروب المشرق العربي: حرب تشرين، والحرب الأهليَّة في لبنان وحروب الخليج. وفي هذه المراحل كلِّها، كان هناك عامل الواقع السياسي والاجتماعي لكلِّ دولة عربيَّة، ممَّا لم يتغيَّر كثيرًا.
ما الذي يصيغ نظرة شباب اليوم؟ في الواقع أنَّ الجواب صعب، ولكن لنحاول البحث عن جانب منه في برامج التلفزيونات العربيَّة. أعترف أنَّني لست من هواة التلفزيون كوسيط إعلامي، وأنَّني انقطعت عن مشاهدته إلاَّ لمامًا منذ بداية التسعينيَّات في كندا. ولكن الفرصة سنحت لي مؤخَّرًا لمشاهدة عدد من المحطَّات العربيَّة، واعترف أنَّ ما شاهدته كان فعلاً لافتًا للنظر وداعيًا للتفكير. يمكن تقسيم البرامج العربيَّة كما يلي: برامج المحطَّات الغنائيَّة الدائمة، برامج التفسير الديني شبه الدائمة، وبينهما برامج الأخبار والألعاب والدردشة والأفلام والرياضة.
بعض الشباب – كما يظهر على شاشة التلفزيون - هو أجساد ثائرة طربًا وجوعًا إلى الحب والجنس والرقص. بعضه الآخر يظهر وكأنَّه في محاولة مستمرَّة لتأمين آخرته بمعزل عن دنياه. ولكن بين هذين النقيضين ثمَّة مجموعة ثالثة هي آلاف الأبرياء الذين يتساقطون باستمرار نتيجة القذائف الأميركيَّة والغارات الإسرائيليَّة في فلسطين والعراق المحتلَّين، وتبدو كأنَّها خارج نظر المجموعتين الأخريين. فالذي يذوب متلوِّيًّا مع "بوسي" و"هيفاء" و"شيرين" يفعل ذلك وكأنَّ لا أحدًا يموت بالقرب منه. والذي يعيش في الماوراء كيف له أن ينظر إلى ما يدور حوله. أمَّا الذي يموت فلا أحد يشعر بموته ما خلا أقرباءه الأقربين. بعضنا في جنازة دائمة وبعضنا في كرنفال مستمر، وبعضنا الآخر في صلاة لا تنتهي. السمة المشتركة هي العجز. العجز عن وقف آلة الموت والاحتلال والقمع والإرهاب، فيهرب بعضنا إلى حلبة الرقص وبعضنا الآخر إلى رحاب الآخرة.
ما علاقة كلِّ هذا بجورج حبش؟ جورج حبش هو رمز لجيل عاش همَّ الوطن بكلِّ آلامه ولم يستسلم لمنطق العجز. جيل صارع في سبيل تحرير وطنه دون منَّة أو سؤال. إنَّ جهل الشباب به ليس خطأهم. ولكن عدم تعليمه إلامَ يرمز جورج حبش يؤدِّي إلى جيل يجهل حتَّى تاريخه المعاصر. إنَّه يؤدِّي إلى وطن فاقد لذاكرته بامتياز.