اذا كان (.كلكامش ).بشراً من لحم ودم فأن تمجيده طغى حتى على مدينة.(.أوروك ).نفسها، فقد تم تأليهه من خلال تنصيب الناس في ذلك الزمن السحيق لشخصة الهاً مقدساً، وقاموا بتقديم القرابين تحت قدميه، وامتد سلطانه المقدس ليمتد في عدد من المدن السومرية التي اعتبر ملوكها ( كلكامش ) بمثابة الأله الحارس لهم ولمدنهم.
وصارت القاب.( كلكامش ).العديدة تختص بشخصه وحده دون سواه من الملك، فقد عده الناس ألهاً خارج حدود الخلق.
مع أن التاريخ يحدثنا برغبة الناس في أيجاد ند أو خصم قوي لكلكامش يخلصهم منه ولذا فرح الناس عند ظهور ( انكيدو )، وحين هلك كلكامش بعد ان فقد عشبة الخلود، هتف الناس فرحاً بالخلاص من السطوة والجبروت التي كان كلكامش يحكم بها البلاد.
ليس اعتباطاً أن يطلق الناس على كلكامش لقب أبن الالهة ننسون الذي حملت به من ملك اوروك لوجال.والمقدس والبطل الاسطوري والصالح وان ثلثه.انسان وثلثاه اله.
وأذ يستمر تلبس السلطان والحاكم ليس فقط ثياب الالهه، وانما ربط الالقاب التي تطلق عليه بالديانات والألهه، وفي العراق نجد أن جميع الحكام الذين مروا بتاريخ العراق القديم كانوا يستندون على السلطة الالهية ويحملوا معهم القاباً تحمل بعضها صفات الالهة أو ابناء الله.
فالحاكم العادل والمنتصر بالله والمتوكل على الله والمنصور بالله والقاهر بالله والمتوكل بالله.وخليفة الله ونائب الاله وظل الله على الأرض، ولنا في أستعراض الحكم الأموي والعباسي وماتلاه من دول بويهية وسلجوقية وخرفان بيض وسود.وصولا الى الدولة الصفوية والعثمانية جميع سلاطينها وحكامها أستمدت ألقابها التي أطلقتها على نفسها كجزء من السلطة الالهية التي فوضتها حكم الرعية ، وجميع السلاطين والحكام أتخذوا من ذريعة الدين ستاراً لأضفاء الشرعية على أعمالهم، وكونهم المكلفين دينياً.شرعاً وامام.الله على قيادة وحكم الناس بما يحملونه من تفويض الهي لايمكن لبشر أن يسلبه منهم مطلقاً.
ونموذج مثل الحجاج بن يوسف الثقفي والي العراق والذي كان يمثل الخليفة وأمير المؤمنين كان يذكر أسمه في كل دعاء قبل صلاة الجمعة أذ تدعو رجال الدين على المنابر تتوسل بالله أن يحفظ الطاغية الجبار والظالم وأن يمد بعمره ليبقى والياً عليهم.
ومن يملك هذه الصفات يملك الروح والمال والأرض، وليس اعتباطاً أن يكون الملوك الذين تعاقبوا على حكم العراق يحملون القاباً لصيقة باسماؤهم ( الملك المعظم و الملك المفدى ).
وانتشرت ظاهرة الالقاب في العراق بشكل خاص بالنظر لجسامة الأحداث التاريخية التي مر بها، ولقساوة السلاطين والملوك والحكام الذين تعاقبوا على الحكم، فكلما تزداد القسوة والظلم تزداد رغبة الناس في التمسك بالألقاب الالهية التي تطلق على الحكام.
وتميز العرب بشكل خاص بالتفنن في اطلاق الالقاب التي تخرج عن حدود البشر على حكامهم، فالظالم منهم هو الحاكم العادل، وسلطان الفجور يكون أمير المؤمنين وسلطان التقوى، والرئيس القاتل الفاجر يكون رائد العدالة ورمز الحق ، والكافر المنافق الأثم يكون عبد الله المؤمن، والمجرم القاتل قائد النصر ومحقق الامال والقاضي الاول .
لذا لم يكن الهتاف الذي انطلق في بواكير الأيام الأولى لثورة 14 تموز 1958 في العراق غريباً ينقل الزعيم عبد الكريم قاسم الى مصاف الالهة وليحمل القمر صورته، وأطلق الناس عليه الزعيم الأوحد والقائد الفذ والمنقذ والقاهر ، حتى انتقل الى رحمة الله مظلوماً لم يحظ بعدالة او محاكمة عادلة تليق بأي متهم.، حل سلطان جديد في العام 1963.يحمل السيف بيده اليمنى وبالثانية دماء الضحايا تلطخ وجهه والجماجم تتعلق باردانه.والناس تصفق له، وحين صار عبد السلام عارف رئيساً للعراق اطلق عليه وعاظ السلاطين صفات ليس بينها واحدة صادقة لتلصق به، من بينها الرئيس المؤمن والرئيس المحبوب ومفجر الثورات والرئيس العادل.والسلف الصالح ، وحين أحترق بحادثة الطائرة وحل مكانة وريثة الشرعي على العرش العراقي شقيقه عبد الرحمن عارف والذي التفت اليه.المرحوم مجلس الحكم ليزيد من راتبه والحمد لله، فقد كان له صفات من بينها الرئيس الوديع وهو يسلط محاكم امن الدولة والمحاكم العرفية يسلب بها أرواح العراقيين، وأطلقوا عليه صفة الرئيس الهاديء والطيب وهو الممتليء حقداً وطائفية وامتهاناً للعراقيين وانه خير سلف ، وحين تم أسقاطه من قبل حلفاءه البعثيين في العام 1968 بانقلاب صار الرئيس الجديد البكر.الأب القائد وهو الذي يقطر حقداً وسماً ويمتليء بالعقد التي لم يستطع احد من المؤرخين أن يحصرها به، وصار الأب الحنون الذي يجز الرقاب ويذيب الأجساد ويسلط بمعرفته منظمة حنين التي تلاحق قيادات الحركة الوطنية في العراق فتسلب اعمارهم.
وحين صار البكر رئيسا صار شعار العراق ان الوطن تبنيه الجماجم والدم بدلا من الزهور والمعامل والرخاء وسعادة الانسان، وان الدنيا تتهدم كلها.دون ان تتهدم السلطة وتذهب سلطة.الرئيس، وحين صار البكر رئيسا كان الناس كلها تستعد لان تضحي بارواحها من اجل ان يبقى ملك الرئيس.
وحين كان البكر رئيساً هتف له وعاظ السلاطين بالروح بالدم نفديك ابو هيثم، وحين نتامل عمق الهتاف سنجد ليس فقط الاستعداد النفسي والقسري للتضحية والفداء في سبيل سلطة الحاكم، بل استعادة لفكرة التضحية من اجل ابن الاله المنقذ والمتسلط والموهوب والممنوح سلطة من الله والمحفوظ برعايته رغم ظلمه وكراهيته للشعب،.ولم يمهلوه زمناً ليحرر فلسطين بل هتفوا انه غداً بالقدس سيخطب ابو هيثم، وبدلاً من القدس تمت احالته على التقاعد قسراً وأنقلب عليه صدام ليموت كمداً وحزناً على الملك الذي ضاع.منه، ولربما مات بسبب عدم جدية الهتاف في خطابه بالقدس فنفق من حنقه وحقده.
وبالنظر للأستعداد الجماعي للتضحية من اجل الزعيم والحاكم فقد تم تطوير فكرة التضحية لتسويقها مغلفة بفكرة التضحية والدفاع عن العراق العظيم لتصير دولة المخابرات، ويتم تطويع الشباب لعمليات الأغتيال والتصفية من اجل العراق ومن اجل الرئيس المفدى.
وحين صار صدام رئيساً للعراق طرح لقب القائد الضرورة وعبد الله المؤمن وقائد النصر والسيد الرئيس وحفظة الله ورعاه وبطل السلام وبطل الامة.حتى صارت القابه تضاهي أسماء الله الحسنى، ولاغرابه فهو جزء من الألهة يطرح نفسه متلبساً بمسوح ربانية وبأساطير تشبه الخرافات لينشر أفكاراً تفيد انه محمي من الله فلا مؤامرة تنال منه ولاحركة تستطيع اسقاطه ، وانه مرسل من الله الى هذا المجتمع ليقوده من نصر الى نصر ومن سعادة الى أخرى لينتصر على أعداء الله أولاًوسيشيع العدل الموعود في المستقبل ، ومن ثم يحقق المجتمع السعيد البهيج والمدينة الفاضلة وهو يصك على السلطة بأسنانه وأذرعه العنكبوتية وأرجله الأخطبوطية وأجهزته المخابراتية. التي زرعها في مفاصل الجسد البشري في العراق.
وبقي رجال الدين يرددون بأصوات عالية متوسلين الى الله أن يحفظ الطاغية الجبار وأن يمد بعمره ليحكم العراق في كل صلاة جمعة أو في المناسبات الدينية حتى صار الدعاء جزء من المناقب الدينية، ولم تبخل الناس أن ترسل أفرادها لتفتديه كدروع بشرية كتعبير لحالة التضحية الجمعية للحاكم الظالم الذي كان يتقبل التضحيات برضا وسرور .
وليس دون سبب ان يبق حتى اليوم من يهتف في العراق لصدام حسين أن بالروح وبالدم وبالمال وبالأولاد نفديك ياصدام، فهذا الهتاف ترديد لما سبقه من هتافات أبتداءاً من سلطة كلكامش ومروراً بحمورابي ونبوخذ نصر.والأمويين والعباسيين. وولاة المدن والحكام الفرس والرومان والترك والسلاجقة والبويهيين والصفويين والعثمانيين والأنكليز والملوك الحجازيين، وسلاطين الجمهوريات التي تعاقبت على العراق، وصولاً الى الأمبراطورية.الصدامية.التي أسقطها الأمريكان بعد أن نفضوا تحالفهم الطويل مع رائدها وقائدها وعمود بيتها.

وهذا الهتاف وعلى ندرته يمثل حنيناً جارفاً لسطوة الحاكم، وشوقاً لأن يكون بعض الأفراد تحت خيمة الظالم والطاغية، حيث يبدو أن حياتهم لن تستقيم دون أرتجاف مفاصلهم ورعبهم وخوفهم الذي أدمنوا عليه.
وبقي لغز تقبل التضحية في سبيل السلطان الظالم مع تحسس مكامن الظلم والشعور بالرعب والخوف.يكتنفه الغموض، بين معرفة الشخصية العراقية التي فككها وحللها الدكتور علي الوردي، والتي أسهب في دراسة مفاصلها وحركتها التاريخية المفكر العراقي.الدكتور سيار الجميل، الا أن طقس التضحية الجماعية للناس قرباناً لبقاء الحاكم والسلطان في السلطة.لم يكن وليد الأحداث المعاصرة الحديثة، بل كان له أمتداد عبر التاريخ الطويل الممتليء بالنكبات والفجائع والمآسي.والتي غالباً مايكون سببها السلطان الحاكم الفرد، والتي قد تأخذ اشكال مختلفة ومتنوعة جميعها بالضرورة تعبر عن القربان البشري للحاكم الذي يمثل لها امتداد سطوة الالهة أو جبروت السلطة الخارق.
وأذا كان الحاكم والسلطان على امتداد التاريخ لايشكل سوى قيادة الفرد للجماعة في لحظة تاريخية وهو بشر من ضمن المجموع ، ويمكن استبداله ببشر غيره، غير أن الأصرار على أن تكون للحاكم مهمة أبدية خلقه الله من اجلها في بقاءه على رأس السلطة ، لذا يتوجب ابقاءه أن لم يسلط فكرة ضرورته في البقاء في أذهان الذين يقعون تحت تأثير الفكرة أو من ضمن الدهماء من خلال فكرة الضرورة.
وقد يبدو ان تأليه الحاكم في العراق القديم له الأنعكاس الواضح في أستمرار الأضاحي والقرابين من اجل ديمومة الحاكم وأستمرار سلطته، وليس أدل على هذا من رضوخ الجماعة لقرارات الحاكم بقتل الرجال وأبادة المجموعات التي ترافق تقبل الجميع دون ململ أو رفض بل يصل الأمر الى أظهار معالم الرضا والتأييد لمثل هذه القرارات بتعبير قد يبدو متناقضاً مع طقس الذبح والقتل، فلايعقل أن يقوم الرجال بالقفز والأبتهاج والرقص.لمقتل أولادهم، ولايعقل ان تفرح امرأة وتزغرد لرؤية جثة ابنها مذبوحاً بسكين الحاكم، ولايعقل منطقياً ان يتبادل أب التهاني لمقتل ابنه من قبل أجهزة السلطان ، وتبدو أكثرها طرافة حين تتقبل عائلة الرجل الذي تم تنفيذ حكم الأعدام به رمياً بالرصاص في زمن صدام، بأن تدفع ثمن الرصاصات التي تمت بها قتل أبنهم، وأيضاً عدم تسليم جثث المعدومين أو المتوفين تحت التعذيب الى أهلهم وعدم معرفة قبور لهم حتى الوقت الحاضر.
ويقينا أن السلطان الظالم لو طلب من الناس أن تقدم له من يفديه بروحه لتقدم له العشرات أن لم نقل المئات، هذا القبول بالتضحية من اجل الحاكم يثير أسئلة عميقة في عدم تقبل الفرد بالتضحية من اجل العشيرة أو القبيلة أو الأهل مقابل قبول التضحية من اجل الحاكم.
وأزاء الأسماء التي ينتقيها الحاكم التي يطلقها على نفسه.فأنه يتعمد أن يختارها من بين الأسماء التي يفتقر اليها أو يتناقض مع فعلها، وهذا.الأمر يرتبط في مسألة تطويع الذهن الفردي في الأستمرار بالأعتقاد الخاطيء بحقيقة الأسماء المسبوغة على الحاكم.
ومن شبيه بزمن الحاكم صدام تنعدم فيه أية فرصة من فرص الديمقراطية يكون النظام مدعياً الديمقراطية ، وزمن مثل هذا الزمن الذي يستعبد فيه الأنسان وتنسحق الكرامة الأنسانية يصير الحلم الذي يرواد النفس العربية، والأنكسارات العسكرية المريرة تصير أنتصارات يتم الأحتفال بها، وزمن مثل هذا يكون الموت والقتل مسامات الحياة فيه يكون الفرح والرقص تعبيراً عن المسرة، وزمن تنتهي به قيم خلاقة وأصيلة وموروثة لتحل بدلها قيم هجينة وبذيئة يصير الزمن الضرورة والجميل الموعود، وهرولة للعودة الى الوراء والتخلف والفقر والأنحطاط يصير زمن.الخطوات التي توصل الى السعادة والأشتراكية، وزمن يشيع الخراب والفرقة والهزال يصير زمن الوحدة والتوحد، وزمن تنتشر فيه دوائر المخابرات والأمن في زوايا البيوت والحارات.وتحسب أنفاس الناس وعطاسها يصير زمن الحرية.
وليس اكثر من العراق من بلدان الأرض من صار تحت حكم الدكتاتوريات ، فقد تعاقب عليه الطغاة منذ بدء الخليقة ولم يزل يتقاطرون مهما أختلفت ملابسهم وأشكال وجوههم، وأزاء ظاهرة الدكتاتورية يجد العديد من الناس خلاصهم وحياتهم في وجود مثل النمط الحاكم، بالرغم من مشاهد الذبح والدنس والظلم التي تجتاح الحياة في المجتمع المحكوم.
وليس بالضرورة ان يكون السلطان او الحاكم سياسياً متسلطاً على البلاد، أذ تنتشر ظاهرة السلطان والحاكم في قيادات العشيرة والحزب والبيت وربما المدرسة.
والالقاب التي يحظى بها الحاكم والسلطان لاتقتصر على ماذكرناه اعلاه، اذ تتخصص نخبة من المثقفين والشعراء في استحداث القاب وصفات تزيد على ما قامت به الوعاظ من اطلاق القابها، ولربما استندت القاب الشعراء والمثقفين على نمط من الخيال الذي يتجاوز حدود العقل والمنطق لتجاوز حالة المعقول والمقبول من الالقاب المغايرة للحقيقة لدى السلطان.
وتيمنا بالسلطان تتسمى مواليد حقبة زمنية بأسمه، غير ان الغريب في الامر ان لااحداً سمى الحاكم الدكتاتور بالطاغية أمامه، ولااحد ايضاص سمى ولده بالطاغية او الاسماء التي تسمى بها الحاكم، لربما حتى لاينافسه احد بها، ولربما لتفرده في استحقاق هذه الأسماء دون غيره من البشر.
وربما تكون التضحيات التي يقدمها عدد من الأنتحاريين والمقاتلين في العراق نوعا من التضحية وأفتداء الحاكم تجسيداً لمعاني القرابين البشرية التي تفتدي الحاكم في العراق.