سأقبل.. لأنني من دون وطن.. علي عبد العال سأقبل المشي غريبا في شوارع اسكندنافية جميلة.. لا أعرفها ولا تعرفني.. بالرغم من أنني صرتُ، من زمان، "مواطنا جديدا".. يحمل جنسية هذه البلاد.. سأقبل فرِحاً بهذا "الحق الدستوري البشري العظيم" الذي، بالرغم من نبلهِ، يشطر عالمي الروحي كلاجئ في كل لحظة إلى نصفين.. سأقبلُ رجلاً أبيض جدا، له بشرة كالحليب، ينظر لي ساخراً حين أتعثر على الجليد وأهمّ بالسقوط على ركبتي أو نحو الهاوية.. سأقبل رجلاً أبيض جدا، له معانٍ صافية، ينظر لي بعطفٍ وكرمٍ على رصيف خُصص له ولعربة أطفاله وزوجه.. سأقبل امرأة تقول لي نظراتها أن أبتعد عن كلبها الماشي على الرصيف.. :"كي لا يعضك".. سأقبل التحيات الودودة التي يحييني بها كبار السن من أهل هذه البلاد بشفقةٍ تقرب للحكمة، وتقرب من الأسفٍ الإنساني الشديد حين يقول: "ماذا يفعل هنا هذا الرجل الغريب المسكين؟".. سأقبل النظرات التي تغفلني.. والأجساد الرائعة التي تتحاشى الاحتكاك بالهواء الذي يخلقه وجودي في الأماكن العامة أو على الرصيف.. سأقبل رؤية براز الكلاب المدللة على أرصفة الشوارع .. بالقرب من جذوع الأشجار السامقة، وبولهم المترع بلون اليوريا الأصفر يلطخ أكوام الثلج البيضاء، ويترك بصماته الجنسية على بعض الصخور المرتفعة قليلا كخرائط مبهمة لممالك مجهولة.. حيث الكلاب الجميلة المدللة، الخسيسة في الواقع، تحب البول دوما على الأرفع منزلة.. سأقبل التجوال وحيدا في غابات من شجرٍ بري عملاق؛ بنته أشعة الشمس الفاترة، تلك الشمس القطبية الشحيحة دوما في أعالي كرة الأرض.. ثمة مياه عذبة وفيرة تشفعها كما في الجنة التي أخبرنا عنها الأنبياء.. تغدقها الثلوج والأبخرة المحملة بالندى.. غيوم سوداء كريهة ومخيفة، ملبدة بالأسرار الغامضة والأعاصير، سرعان ما تتحول إلى أمطارٍ غزيرة.. أشجار ضخمة، باسقة، لا تعنيها هوية الكائنات المتجولة تحتها.. لاهوت كانت أم ناسوت..

***

سأقبل مرغما بالقرار اليومي الذي يتخذه مديري في العمل حول جهدي الكبير طوال سنين لإثبات شخصيتي الحقيقية ومهاراتي الكثيرة من دون طائل.. سأقبل بما يمكن أن يقوله عني المدير العام بجدٍ أو بهزءٍ أمام الآخرين.. سأقبل كل تقييم يقوله عني صباح كل يوم أثنين من مطلع كل أسبوع وفي تمام الساعة الثامنة صباحاً، حين يلتئم شمل جميع الموظفين السويديين في ساحة الوغى، وعندما يحين الوقت الجيد لكيل الطعنات الجميلة في معمعة صراع الغرباء من أجل البقاء.. الطعنات الخبيثة المشهورة بالنبل البلاغي الجميل.. الذي يتفوق به علينا أبناء أوروبا الحاليين.. والأفكار الاجتماعية العلمية الموضوعية المتطورة التي لا يتقن حذافيرها المهاجر الغريب.. الموضوع له أصل بروح اللغات.. إذ أن السامع ليس كالناطق.. الناطق يقول ويفهم.. السامع يفهم ولا يقول.. سأقبل بحيزٍ ضيقٍ من الممشى على رصيف ليس من حقي المشي فيه إلا في القانون.. سأقبل بنظرات سكيرٍ معتوهٍ من أهل البلد يرى من حقه الطبيعي أن يتفحص وجهي بكل معانيه كأنني كائن قادم من المريخ.. يحوم حولي مثل رخمة تتطلع بفطيسة.. أنتظر وصول الباص على أحر من الجمر كي أعود إلى بيتي سالماً.. أترك السكير يتابعني بجدح نظراته وقد غمرتهُ نوبة مقززة من العبث والفضول.. سأقبل أنني لا أردعه بغضبٍ أو عنف.. ولا أفكر أبداً بمجرد البصق وسط وجهه الوقح، ولحيته الرثة الكريهة.. سأقبلُ أنني أتكفى فضوله الزائد، وربما شرّه ورائحته النتنة لمجرد أنني غريب.. سأقبل أن أجلس في بيتي بقية النهار القصير بعد فترة العمل الطويلة خشية التعرض لسوء الفهم مع الآخرين.. سأقبل أن لا أزعج الآخرين لمجرد حضوري بينهم بمحض المصادفة.. موظفون سويديون يدردشون بينهم.. موظفون حقيقيون أهل هذه البلاد يتناولون وجبة الغداء مع بعضهم.. موظفون راسخون يدعون بعضهم البعض إلى سهرات ليلية.. موظفون طيبون، بيضٌ كالجبنة العربية، لا يلقون التحية السهلة عليك أيها المهاجر في الكثير من الصباحات الجديدة وأوقات النهار الأقل ضراوة، حين تتصادم نظرات العيون بوضع إجباري مخجل في أروقة العمل الواضحة، الضيقة جدا بوضوحها القريب من المكاشفة.. موظفون رسميون يتمتعون بالمسؤولية، بالرغم من ذلك، تسمعهم يقولون: "هذا المهاجر لا يجلس معنا ولا يشاركنا الحديث".. سأقبل حضور الندوات والأمسيات وبرامج تطوير اندماج المهاجرين مع سكان البلد الأصليين.. سأقبل كل المعلومات البسيطة التي تعلمتها من زمان.. وسأقبل بتلك النظريات الاجتماعية الحديثة المعقدة بعلوم التربية كبدوي "خام" قادم من الصحراء.. سأقبل الجلوس في طريق العودة إلى البيت وحيدا.. على مقعد في وسيلة للنقل الداخلي دون أن يشاركني آخر.. بالرغم من الإحساس الداخلي العفوي بالاحتقار حين يرتكبه الآخر.. أو الشعور الأجوف العميق بكرامة مزيفة لا محل لها في هذا النظام الجدي المتكامل العنيد.. نظام يهمل الأفراد من مثلي.. سأقبل وضع زميلة تسألني صدفةً بعد أربعة أعوام من العمل سويا في نفس المكان: من أي بلاد أنت قادم؟ سأقبل عندما لا يرفع المدير مرتبي الشهري كما الآخرين من المواطنين من أهل البلاد.. سأقبل وضع أطفالي وهم يتحولون إلى بشرٍ آخرين.. سأقبل أنهم لا يقرؤون ما أكتب لأنهم فقدوا المعرفة بلغتهم الأم.. ولا يعرفون بماذا أفكر.. وهم مجرد وقت ضائع ينتظر الحظ أو الشهرة كأي فنانٍ بشري هجين.. سأقبل بشرب القهوة في مقهى لا أعرف فيها أحداً.. وبمحطة قطار.. أو مطار ينظر لي فيه المسؤولون المدججون بالأجهزة المتطورة نظرات مختلفة بقدر اختلاف لون بشرتي عنهم.. سأقبل بصحف أقرأها صباح كل يوم تتوج عناوينها الأولى بأخبار الجريمة.. سأقبل أن يكون المجرم مهاجرا مثلي.. لمجرد الإشارة إلى سوء السلوك عند المهاجرين.. سأقبل أن يأتي التلفزيون السويدي إلى بيتي ليسألني: ما هو رأيك بصدام حسين وأسامة بن لادن؟ سأقبل أن يمنعوا مقالا أكتبه لا يتفق مع سياسة الصحيفة المحافظة العريقة ذات اللون الأزرق البهي.. سأقبل العيش مرفها في هذه البرية الثلجية الرائعة.. سأقبل العيش في بيت دافئ لا يمكن للثلج أن يقتلني فيه.. سأقبل العيش على مضضٍ في وطنٍ رائعٍ هو ليس طني.. بينما أتوق للعيش في وطنٍ قبيحٍ هو وطني الحقيقي.. سأقبل العيش في طرقات مليئة بالثلج الأبيض الناصع الجميل.. أسحقه بحذاءٍ غير محترفٍ.. أتزحلق عليه.. تنكسر رجلي.. يتهشم ضلعي.. يتحطم رأسي.. سأقبل بكل ذلك.. سأقبل بنادلةٍ لا تسرق مني النقود دون أن أعرف.. سأقبل بابتسامتها فقط.. سأقبل بمن يغشني بشكل بسيط.. ويضحك عليّ بشكل بسيط ويجاملني بشكل بسيط.. سأقبل بأنني أعتقد أنني أعرف كل شيء.. سأقبل بحكم أخوتي وأهلي وأصدقائي بالعراق بأنني "مليونير".. هم لا يعرفون جيدا أنني لست مليونيرا.. سأقبل أن يصابون بالخيبة أكثر عندما يعرفون أنني أشتري الخمر الرخيص في أوروبا من السوق السوداء.. سأقبل العمل تسع ساعات في اليوم في مكتبة رسمية لديّ فيها أربعة كتب ولا يعرفني مديرها.. سأقبل العمل في هذا المكان مهما كان.. سأقبل أن أرى ابني الصغير لا يفهم جيدا ما أقول.. سأقبل أن اللغة بيني وبينه اختلفت كثيرا وعميقا.. سأقبل أن ابنتي تحب فتى بعمرها.. سأقبل أنني لا أتدخل أكثر في شؤونها الخاصة وحريتها المكفولة بالقانون.. سأقبل أنني أصحو منذ الفجر كي أرى ظلام الكون.. وأعود للبيت وسط ظلام الكون.. سأقبل أن الوقت المنصرم في حياتي كان يجري تحت أضواء مزيفة من النينون الناصع.. سأقبل بمن يقرأ كلماتي.. سأقبل بمن لا يقرأ كلماتي.. سأقبل بمن يعاتبني.. سأقبل بمن لا يعاتبني.. سأقبل بمن يحبني.. سأقبل بمن لا يحبني.. سأقبل مَنْ يضع شرط المحبة.. وشرط المعرفة.. وشرط المزاج المبهم.. سأقبل مَنْ لا يضع شرط المحبة.. ولا شرط المعرفة.. ولا شرط المزاج المبهم.. سأقبل بوحدتي في هذا البرد والخواء.. سأقبل بالليل الغريب وبالصبح الجديد غدا.. سأقبل بروتين العذاب الذي تفرضه علينا الحياة في الأعماق.. سأقبل حالة الانتظار.. سأقبل أني قوس مشدود إلى النهاية.. لكن النّشاب المُتعب لن يُصيب غير هدفٍ واحد: قلب أحلامي.. يجب القول هنا "أحلامي المقتولة" من الآن فصاعدا.. سأقبل سقوط الأسلحة من على كتفي.. سأقبل خسارة سني عمري.. سأقبل أني لم اعد جميلا ولم أعد قويا ولم أعد طائشا.. سأقبل أنني يجب أن لا أخرف أكثر بضمائر الفتيان الرائعين الذين أحبوني.. ولا أعبث مع الحشرات السامة والديدان القميئة التي تحب نهش جثتي.. سأقبل أنني جذع عملاق قديم.. يتهاوى أخيرا من دون مجدٍ على جرفيّ نهرٍ صغير، يجري بانتظام على الدوام.. لأقل مجازا: إنه جسر مجهول على مجرى الحياة.. سأقبل أن يمر عليّ المارة.. وتدوسني أقدام الأطفال الصغار في النزهات.. سأقبل أنني لا أعرف مكان قبري لأنني لست في وطني.. سأقبل أن أكتب في وصيتي التي لا أرى ضرورة لكتابتها ـ لمجرد أني لا أملك شيئا في هذا الكون ـ : أحرقوا جسدي ثم ارموا الرماد في مجرى أقرب نهر للمحرقة.. سأقبل أني لم أكن أحكي بلغتي العربية ولا بلهجتي العراقية في الحياة العامة طيلة ربع قرن.. سأقبل أن الأمر يقتصر على الحديث مع أفراد الأسرة المعدودين، والأصدقاء الأقل عددا.. سأقبل هذا لأن هناك الأكثر مني حيرة.. وربما أكثر ألماً، حيث لا أسرة لهم فيها بعض الأنفار، ولا أصدقاء دائمين يمكن الحديث معهم بلغة الأجداد.. سأقبل أني في موضع فكري وذهني ووجودي ملتبس.. سأقبل أني "لاجئ سياسي".. لكنني لم أعد لاجئا سياسيا بالمعنى القانوني.. فقد زال الظلام عن وطني.. لكن الشمس التي أنتظرها لم تبزغ بعد.. سأقبل إذاً البقاء لاجئاً إلى يوم يبعثون.. سأقبل الدخول عبر الحدود إلى وطني بجواز أجنبي.. هويتي روحي وملامح وجهي وكبرياء الألم الممض في الجبين.. سأقبل بالعودة مجددا إلى الجحيم المحقق ـ النعيم المرقع.. حيث لا دار صغيرة تؤويني كما يؤويني مسكني الصغير هنا في بلاد الثلج والصقيع والحريات العظيمة.. ولم يكن نصيبي في الحياة كنز المال أو مراعاة الأحوال.. سأقبل إذاً بحقي الطبيعي الأخير: أن أقبل العيش غريباً بقية الأيام، أو الأشهر، أو السنين..