تتجلى السياسة الامريكية كما هو معروف في اعتماد وتحقيق مصالحها بالدرجة الاولى في أي قضية تحدث في العالم، المصالح الثابتة لا تتغير مثلما يحدث للسياسة ظاهرياً ولهذا تتطبع الاساليب السياسية وإن كان طابعها شمولي عام بجوهر تلك المصالح والتي يعمل النظام الرأسمالي الأمريكي على الدفاع عنها لا بل يتعدى الأمر إلى ايجاد طرق واساليب لتطوير عملية الدعم لكي تتحقق أكبر فائدة لهذه المصالح والوقوف بحزم وشدة ضد اية تأثيرات خارجية أو داخلية تحاول الاضرار بها، ومن هذا المنطلق شنت الحروب والتدخلات العسكرية وغير العسكرية خلال القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين، وكانت السياسة الأمريكية تنتهج طرقاً واساليباً تبدو لأول وهلة بتناقضاتها وتغيراتها غريبة على بعضها ولكن عندما تنجلي الحقيقة بعد ذلك تظهر ان هذه السياسة ما كانت تختلف في المبدأ والجوهر الحقيقي لمصالحها الاقتصادية بالدرجة الاولى، وعلى الرغم من الخسائر البشرية والاضرار المادية التي لحقتها أثناء حروبها واحتلالها العسكري للبلدان الاخرى وانحسار سمعتها بين الشعوب كدولة عظمى في اكثرية مناطق العالم نجدها تتابع طريقها للحصول على أكبر قدر من الفائدة لخدمة مصالحها باختيار طرقاً عديدة تؤمن لها نجاح مخططاتها واهدافها الاساسية، ومن الملفت للنظر أن الولايات المتحدة لم تتنازل يوماً من الايام عن اهدافها حتى لو انها خسرت أو انهزمت في العديد من المناطق في العالم مثل " كوبا وفيتنام " وغيرهما من الدول.. فبقدر الخسارة تحاول جهد الامكان التعويض في بقعة أخرى أو التأجيل لكي تعود مجدداً لتجدد محاولاتها المتنوعة من أجل تعويض خسارتها واعادة ترميم مواقعها عن طريق السياسة التي تحاول بها التمويه عن اهدافها الحقيقية، ولا يمكن ان تكون سياسة الولايات المتحدة الامريكية حيادية حتى 1% بالرغم من ادعاءاتها بالحيادية او من خلال طرح مسألة الحريات وحقوق الانسان فهي تكيل بمكيالين ولا تستقر الا في حالة ان تخدم هذه السياسة في آخر الامر تقوية الركائز التي تعود بالفائدة لمصالحها المعروفة على نطاق واسع، ويتراءى لكل ثاقب نظر في العالم وبخاصة منطقة الشرق الاوسط إذا ما تطلع الى هذه السياسة فيما يخص الصراع الفلسطيني الاسرائيلي و الصراع العربي الاسرائيلي منذ نشوئهما وحتى الوقت الحالي فسوف يجدها تتغير وفق الظروف والمستجدات التي تحدث على الساحة الدولية والعربية لكنها في جوهرها لم تكن يوماً من الايام ضد المصالح الثابتة الامريكية والاسرائيلية في العالم وفي المنطقة بالذات بل العكس من ذلك فكل مجريات الامور والاوضاع وبالرغم من المشاريع التي طرحتها الادارات الامريكية المتعاقبة ما بين الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري نجد ان التغيرات لم تجري على المشروع الاسرائيلي المطروح منذ البداية ولا على الموقف الامريكي المؤيد والمناصر له بل ومع شديد الأسف جرى التغير ليس في السياسة الفلسطينية والعربية فحسب وانما حتى تخلخل المصالح الثابتة عندهم فبدأت مصالحهم التي عنوا يوماً بها كل فلسطين ولم يفهموا واقع الامر والظروف الدولية حتى أصبحت التنازلات في الحدود الوسطية إذا لم نقل دونها وهام يلهثون من أجل ان توافق اسرائيل فقط على الدخول في مفوضات علنية معهم وهي ترفض وتضع الشروط والعراقيل بينما كانوا يستنكفونها ويعتبروها عاراً عليهم وضد مصالحهم القومية التي ضيعوها هم بذاتهم من خلال سياساتهم والتنازل عن المصالح التي ادعوا يوماً من الأيام أنها ثابتة لا يمكن التجاوز علييها.
يضطر الباحث أو الكاتب احياناً لكي يوضح افكاره ويطرح استنتاجاته في المرور على عدداً من القضايا كي يربط فكرته الخاصة بما هو عام ولهذا وجدت ان الدخول الى الوضع في العراق كحالة خاصة لكنها في الوقت ذاته ترتبط بسلوكيات الادارة الامريكية من خلال تصريحاتها ولكي نعيد البحث بشكل أدق في جملة المقولات التي شيعتها هذه الادارة ضد النظام البعثفاشي لا لكونه ارهابياً او نظام قتلة يضطهد االشعب العراقي ولا من أجل حقوق الإنسان وحريته ولا لكونه استعمل السلاح الكيمياوي ضد الشعب الكردي او اشعل حرب الخليج الاولى التي راح ضحيتها عشرات الآلاف غير الدمار والخراب الذي عم البلدين بل لأنه أصبح خطراً على مصالحها وبخاصة في سياسته التوسعية التي انتهجها في حرب الخليج الثانية واحتلاله لدولة الكويت الغنية بالنفط وتهديد السعودية وأبار النفط ثم اطلاق الصواريخ على اسرائيل وهو الشعرة التي قصمت ظهر البعير .. لقد اعتمدت الإدارة الامريكية خطابها للدخول في حرب خليجية ثالثة على وجود اسلحة الدمار الشامل لدى النظام العراقي وهو ما يهدد المنطقة " اسرائيل بالذات " ومصالحها الحيوية في المنطقة هذا الخطاب الذي اعتمد على الارث الذي تركه النظام الشمولي في مدينة حلبجة والانفال ضد الشعب الكردي والمعلومات الاستخباراتية التي تلقتها من حلفائها ومن مؤسساتها الأمنية وفي مقدمتها " C I A" وعلى الرغم من علاقاتها الحميمية مع بعض اطراف المعارضة ودعمها المادي والمعنوي لهم فانها كانت تخطط الى ما بعد الحرب والإحتلال بطريقة لا تعتمد فيها على حلفائها العراقيين بل العكس فقد ظهر منذ البداية ان الادارة الامريكية كان لها مخطط غير معلن فيما يخص الاحتلال وبالتالي كانت مشكلة ما يسمى بالمجلس الاستشاري وابعاد مقترح انبثاق " الحكومة المؤقتة " وما تبعه من صراع مع الادارة الامريكية والحاكم بريمر وحتى انبثاق " مجلس الحكم المؤقت " وبعض الصلاحيات التي اوكلت له والمتابع لحقبة الحاكم بريمر يجد ان الصراع ما بين مجلس الحكم المؤقت وبخاصة القوى التي كانت تجاهد من أجل ان يكون المجلس هو الجهة القيادية في هذه المرحلة وحتى مجيء الحكومة المؤقتة..
منذ البداية كان يهدف الاحتلال الأمريكي للعراق الى خلق حالة من الفوضى وعدم الاستقرار وقد ظهر ذلك جلياً عندما منح الفرصة في نهب مؤسسات الدولة وهو يعرف جيداً أنها ملك الشعب العراقي لا بل حتى تاريخ العراق القديم لم يسلم من السرقة والتخريب وتعرض للنهب والسلب امام انظار الجنود الامريكيين مع رفع علامة النصر وكأن هناك انتصاراً على مؤسسات القطاع العام والمختلط والؤسسات والوزارات والمتاحف وتاريخ العراق الحضاري والمكتبات والبنوك بينما اكتفى الجنود الامريكين بحماية وزارة النفط ومحتوياتها للتأكد أنه " أي النفط " هو الوحيد الذي يحظي باهتمامها لأنه يخدم مصالحها المعروفة، وبكل صلافة وقذارة تم أهمال مئات المخازن العسكرية المنتشرة في البلاد التي كانت تمتلئ بآلاف الاطنان من الاسلحة المختلفة بما فيها الدبابات والمدرعات والمدافع الثقيلة والصواريخ وغيرها عرضة للسرقة والنهب مع العلم كان بامكانها حماية هذه الاسلحة الفتاكة التي استعملت وما زالت تستعمل ضد الشعب العراقي ومنشآته ومرافقه الاقتصادية والخدمية.. واكبر جريمة اقترفتها الولايات المتحدة هي حل الجيش العراقي برمته دون دراسة نتائجه الكارثية وخلطت ما بينه وبين الحرس الجمهوري الخاص الذي كان بالامكان حله لوحده ثم تسريح اكثرية عمال وموظفي الدولة والقطاعات المشتركة بدون الشعور ان مئات الآلاف من العوائل سيحكمها الفقر والجوع والحاجة بعدما قطع مورد رزقها ومعيشتها بينما في الجانب الثاني راحت تعيد العديد من رجالات وازلام النظام الى الوظائف بحجة استخدام تجربتهم لتمشية امور المؤسسات الحكومية هؤلاء الذين استغلوا مواقعهم ومسؤولياتهم في هذه المؤسسات او في الشرطة والدفاع المدني ليزودوا الارهابين وفلول النظام بالمعلومات وفي الوقت نفسه ليمارسوا سياسة معادية للناس من اجل خلق استياء بين الجماهير ودفعها للعمل ضد الحكومة المؤقتة ليتم تخريب العملية السياسية بعد ذلك،
وبسبب تراجع الادارة الامريكية عن خطابها التحرري المزعوم بعد احتلال العراق الذي عززه قرار مجلس الامن القاضي باعتبار الولايات المتحدة وبريطانيا دولتا احتلال فقد سهل هذا القرار وذلك التراجع في خلق حالة من الشعور العام المعادي الرافض للاحتلال مما جعل المناخ الملائم لنشاط وعودة فلول النظام البعثفاشي وقوى الارهاب وقوى الجريمة المنظمة للعمل المسلح والسياسيي على حد سواء تحت شعار اخراج القوات المحتلة والعمل من أجل استعادة الاستقلال الوطني للبلاد، وهما شعاران موضوعيان يلهمان الكثير من جماهير الشعب بدون التحقيق من جوهر الدعوة هذه وما يختفي وراء مسوغاتها من أخطار خروج القوات الاجنبية واستقلال العراق، بل العكس من الامر برمته، ولم تكتف الامور بالوقوف عند هذا الحد بل امتدت لتشمل دول الجوار وغيرها من الدول التي طالبت الولايات المتحدة الامريكية بالوفاء بالتزاماتها التي اخذتها على نفسها لتحرير العراق وليس احتلاله وبقرار دولي وبخاصة بعدما عجز الاحتلال من العثور على اسلحة الدمار الشامل الذي كان يتعكز عليها لاسقاط نظام البعثفاشي في العراق.. واستغلت هذه الدول " أيران وسوريا " التورط الامريكي من أجل التخلص من الضغوطات التي تمارس ضدها من قبل الادارة الامريكية والبعض من الدول الاوربية.
اليوم وبعد مرور أكثر من عام ونصف نجد ان الاوضاع في العراق بقيت على حالها اقتصادياً وأمنياً وبقى مسلسل الارهاب والتفجيرات وتدمير المنشآت النفطية وغيرها يزداد يوما بعد آخر ويبدو ان لا حلول قريبة لهذه الظاهرة على الرغم من اعتماد البعض على خطاب نجاح العملية الانتخابية وهي الى حد معين صحيحة وايجابية، فهل كانت وما زالت السياسة الامريكية غبية لم تقدر ما سوف تؤول اليها الاوضاع بعدما حصل الانفلات ايام الاحتلال ؟ وهل انها كانت الى هذه الدرجة من الغباء عندما تركت عشرات الالاف من الاسلحة والاعتدة دون المحافظة عليها ومنع سرقتها ؟ هل انها كانت لا تعرف مدى الاضرار الاقتصادية التي ستلحق بالبلاد عندما تركت مؤسسات الدولة الانتاجية والخدمية والاقتصادية تنهب وتخرب وتحرق وهي واقفة لا بل تشجع المجرمين والسارقين على اقتحامها ونهبها وحرقها ؟ ألم تفكر بأن حل الجيش بشكل اعتباطي غير مدروس يدفع الكثيرين منهم لحمل السلاح ضدها وبخاصة بعدما أصبحت دولة احتلال؟
قد نخالف آراء البعض من المحللين والكتاب فما امضوا اليه ان الامريكان أغبياء لم يفهموا طبيعة الشعب العراقي ولم يستمعوا للنصائح التي قدمتها القوى المتحالفة لهم قبل الحرب واثناء الاحتلال، فكل من يعرف استراتيجية الدول الرأسمالية الكبرى وبالذات الولايات المتحدة الامريكية يدرك ظلم اتهامهم بالغباء وعندما يدقق بشكل جيد سيجدهم اذكياء جداً أكثر مما يتصور لا سيما إذا تطلب الامر الدفاع عن مصالحهم الثابتة لكن هذا لا يعني عدم ارتكاب الأخطاء او التصرف بشكل غبي لخداع الآخرين في بعض الآحيان، لقد اعلن الامريكان منذ أمد أنهم لم يجدوا اسلحة للدمار الشامل ( وهذا لا يعني تبرئة النظام من استعمال هذه الاسلحة في السابق).
كما تبين وخلال فترة الاحتلال وفترة الانتقال الى الحكومة المؤقتة ازدادت الاوضاع تعقيداً غير ان الامر لم ينته عند هذه النقطة فقد جلبت الولايات المتحدة آلافاً من الجنود وهناك اصوات قوية في الادارة الامريكية وفي البنتاغون يطالبون تحديث اسلحة ومعدات جديدة تحافظ على حياة الجنود الامريكان ثم اصوات تطالب ببقاء هذه القوات فترات غير محددة للقضاء على الارهاب ومحاربته في اراضي الغير بدلاً من الانتقال الى اراضي الولايات المتحدة الامريكية..
كيف يمكن ان نرى الصورة ؟ لو كانت اكثرية الفئات والتجمعات والقوى السياسية قد دخلت في العملية السياسية بهدف انتخاب الحكومة الدائمة وقيام الدولة ومؤسساتها الضرورية والمباشرة في اعادة بناء العراق هل ستزيد الولايات المتحدة قواتها ؟ أم سنقلص من تواجدها الى حد انسحابها من البلاد ! .. ايهما يخدم استقلال العراق ، عدم الاستقرار والفوضى والتفجيرات والسيارات المفخخة والاغتيالات أو انجاح العملية السياسية بتكاتف القوى الوطنية والديمقراطية والقومية والدينية الشريفة؟ الجواب واضح وغير معقد .. فهل الولايات المتحدة الامريكية دولة غبية لا تدرك مصالحها ولا تعرف من أين تأكل لحمة الكتف ؟ فليشرب من يعتقد ذلك ماء البحر الميت كله.

[email protected]