في هذه الفترة بالذات اي بعد زوال نظام العسف الديكتاتوري، برز سؤال جديد في الساحة العراقية عبر عنه بعض المثقفين العراقيين من المنتمين لاقليات دينية واثنية هنا وهناك، عن ازمة المثقف ومستقبل الثقافة العراقية، لتدور العديد من الاسئلة في حلقة من الغموض والفذلكة احيانا، والحيرة والتساؤل حينا اخر، في حلقة ستتسع افاقها وتتعدد محاورها وطروحاتها وتناقضاتها، في المستقبل القريب، وهي الحلقة الاوسع لمدار كلام قادم وجديد عن اجوبة لربما تحمل قناعة مبهمة وغير واضحة، او تحرك معارك كلامية خافية، لكل ما يتعلق من اسباب تلك الازمة التي يتنامي حضورها في الوقت الحاضر، حيث يشهد مجتمعنا العراقي انفجار كل التناقضات والانقسامات القديمة من طائفية ومذهبية وقومية، مجتمع ما يزال يخضع لعقائد وممارسات وتقاليد، لم تنل منها آثار التطور الحديث . ان مجمل الفئات الاجتماعية والطوائف الدينية التي تشكل نسيج المجتمع العراقي ليست متساوية من حيث الحقوق، وخصوصا حق الكلام الحر والتعبير عن نفسها وحقائقها وحقوقها، فعمليات القتل واغتيال حرية ورأي الاخر وتغييبه، التي جرت طيلة فترة الثلاثين عاما الاخيرة لمرحلة اطلق عليها بـ( التطهير) للجو الثقافي لم تكن كافية بنظر الحاكمين آنذاك لضمان اخضاع كل شكل من اشكال النشاط الثقافي للقوميات والطوائف الاخرى، فقام رجال النظام بتوجيه عملياتهم لمسخ ثقافة الاخر من خلال حفلات الاعدام والمقابر الجماعية وغرف التعذيب وغلق الافواه، فساد اختلاط مشوش وعدمية سياسية عجل النظام المنهار باستثمارها.

لقد استعاضت الحياة الثقافية عن حياة العديد من مثقفي الاقليات بالاوامر واصبحت وسطا ناقلا لعدوى الفكر الارهابي واساليب عمله وكان حال العديد من هؤلاء المثقفين حالهم حال العديد من المثقفين العراقيين من مختلف المذاهب والطوائف والقوميات الاخرى، في رفضهم الامتثال والتطابق مع نظام تمجيد ثقافة الموت والفرد الزائل، اثروا الترحال في بقاع شتى في العالم بعد ان اغلقت ابواب الوطن في وجهوههم.

دور مثقف الاقليات العراقية واين وجوده واين كان؟ فان من يطرح مثل هذا التساؤل العاجل والسريع والذي يحمل تشوش كبير في تسلسل الافكار وتنقصه القراءة الموضوعية، عليه التعرف عن قرب على التجربة التي خاضتها كل الفاشيات في العالم خلال سنوات حكمها، وعلى ما اصاب الحقل الثقافي فيها بوجه عام، وهذه مهمة تتطلب قراءة التجربة الفاشية العراقية بمنطق يخرج من منطقها الاعلامي الذي يسعى للكسب المرحلي، اذ لايمكن كما ذكرنا نسيان هذه التجربة عبر سيرورتها لخلق سجالات لانتفق على توقيت طرحها،ولا تستند على تشخيص حقيقي ودقيق لطبيعة الطرح من ناحية، نتيجة مااصاب عدد كبير من مثقفينا من ارهاب امتد الى دقائق حياتهم الصغيرة وجرهم حال مئات الالوف من البشر الى مطاحن الموت والتغييب والاغتراب في داخل الوطن وخارجه.
ان مثل هذه الاسئلة المستعجلة على مستقبل هذه الثقافة بكل انواعها الفكرية والادبية والمعرفية، كان الاجدر بها ان تفضح اولا الدور المخزي لبعض مثقفي الاقليات في عملية ارتمائهم في احضان الفاشية وانحيازهم لقوى الظلام والسلفية، هذا الدور الذي مارسته من تطلق على نفسها بكل وقاحة (النخبة) الذي اعطب مسيرتنا الثقافية، واوقفها في حدود لم تكن تتساير مع قدراتنا وطموحاتنا، ومارست الاقصاء والتهميش ضد الاخر من ابناء هذه الطائفة او تلك ومن هذه الاثنية او تلك بصفة مطلقة. كان من الاجدر بهذه الاسئلة اولا، ان تطلب من هؤلاء تقديم الاعتذار لابناء الطوائف والاثنيات العراقية ازاء مواقفهم وافعالهم التي سايرت وساندت افعال الطاغية المجرم، وحمل اصحابها المسدسات وانتفخت افواههم بالبذاءة والتهديد،وتمتع بعضهم بهبات ( الضرورة) بقصور وسفرات ومناصب كبيرة على حساب بؤس وفقر عوائلنا، وعلى حساب سجناء وسجينات الفكر الذين قدموا ارواحهم وارواح اولادهم فيما بعد من اجل حريتنا جميعا. ان الصمت خيار للبقاء خارج اللعبة، وكان على هؤلاء ان لم يكونوا قادرين على يصمتوا او ان يقدموا الاعتذار لنا اولا وللشعب العراقي. ان يصمتوا لا ان يكتبوا ويتباكوا حزنا على بغداد وما اصابها،فقد ساهموا هم انفسهم بهذا الخراب الذي نعيشه الان. ولا ان يطرقوا ابوابنا من جديد لايجاد مواقع( نخبوية) جديدة تقاس على احجامهم وافكارهم وطموحاتهم التي لاتنتهي، فاننا نخجل من مواقفهم، والادخنة الحالية لن تجعل احد يفلت من الفاجعة التي ساهم حشدهم باشعال حرائقها وساهمت اقلامهم وقصائدهم ومواقفهم المخزية لتنال من صمتنا وادانتنا التي سنظل مصرين عليها مدى الحياة .

لا ينكر ان بعض الاسئلة التي بدات تدور في الصحافة والمواقع العراقية، عن الدور القادم لمثقفي الاقليات تنطلق من موقف الحرص في احد جوانبها، الا انها لايمكن ان تكون مقتصرة على محاسبة افعال وهمية، وعلى براءة واخلاص ونقاء ونبل العديد منا في الداخل والخارج، وتبني نفسها على نيات وهمية لا تحمل اي تشخيص او برنامج يضع اية خطوة للنجاة مما اصاب هذه الثقافات العراقية المتعددة من اكتساح وشلل، وجعل من في الداخل يسعى فقط لحفظ سلامته واكل خبزه، ومن في الخارج يصمت حفظا على سلامة سلامته وسلامه اهله في الداخل من كواتم المسدسات، فمثل هذه المحاولات حفر في مواقع متصحرة اساسا، لاتنتج اي مردود سوى اعلاء الصوت، واذكاء واقع جديد يبني نفسه على الاستهلاك الكلامي والتبسيط النفعي والغائي للافكار والقيم والمفاهيم ومحاولة توظيفها بهذا الشكل او ذاك لخدمة اهداف صغيرة ذاتية لا تصطف مع ما يطمح اليه مثقفوا الاقليات العراقية حقا.

واقعنا العراقي اليوم، واقع لا زال يحمل سمات كثيرة من الفساد الذي خلفه النظام السابق، هناك اراء ومفاهيم متحكمة تحدرت اليه وتراكمت منذ بداية الانحطاط وفترات الجمود مرورا بالتحكم حزب الحاكم وثقافته . الواقع اليوم هو واقع سلبي، خنوع، ركوع، استسلامي تتحكم فيه التجزئة السياسية والطائفية كواقع مادي ملموس، لازال محاط بجدار لا يوجد مثيل له في العالم الغربي، فالدولة وقوانينها في ارضنا تنبع من كتاب القرآن الكريم، وخلافا لما يوجد في مجتمعات الغرب التي وجدت فيها القوانين والدولة قبل ظهور الاناجيل. ان هذه الثنائية التاريخية والثيولوجية في الغرب المسيحي اتاحت ظهور نقد خارجي للدين، بينما يجعل مبدأ الوحدة القرآنية هذا النقد كافرا. في بلدنا لا زال الدين الاسلامي جعل وضعه في مقام فوق النقد، فمن اين سنبدأ نحن؟ في واقع فقدت فيه حرية الاخرين. ان العلوم الاسلامية تسمح بالتعليق على الرسالة الربانية وبتأويلها بطرق متعددة، ولكن الحديث عن طبيعة غير آلهية للقران الكريم او عن التشكيك او التساؤل او طروحات الاخرين، هي صياغات ما زالت مستبعدة في الاسلام في وقتنا الحاضر. النقد اذن مستبعد في مجتمعنا الذي تهيمن عليه الثقافة الاسلامية، والتعليم كما نعلم جميعا في نظر الجميع يبدأ بحفظ القرآن الكريم، وآياته الكريمة عن ظهر قلب، ولم يكن لنا الحق في التعليم الخاص بنا وحفظ آياتنا الدينية التي تحفل بها كتبنا المركونة بتحفظ وخوف في صناديقنا الخفية، فاصبحنا بعيدين عن العقل النقدي، مما ادى الى انكفاء وتراجع ثقافات يمتد تاريخها الى آلاف السنين، وان العديد من ثقافاتنا الاثنية والدينية خاضعة حتى هذا اليوم لمبدأ الوحدة القومية والحزبية من جانب، والقرآنية المتوارثة وسلطة الملالي وقيودهم الدينية والتمسك بالفكر القومي العربي من جانب اخر، وبقينا كاقليات ثقافية دينية بعيدين عن ممارسة حقنا والمساهمة بالعطاء من خلال الواجهة التي اصبحت قاعدة يفرضها الاخ الكبير ومؤسساته المهيمنة. وهذا الابتعاد دام سنوات طويلة ترك آثاره في ظاهرة الخضوع للمبدأ السلطوي الابوي، فتم ابعادنا قسرا عن المنهج الثنائي النقدي والعلمي، واصبحنا غير محتفظين بذاكرتنا القديمة، متحصنون خلف التقاليد الدينية المتسيدة وطقوسها وثقافاتها الوحيدة المهيمنة. لم يسمحوا لنا بتعلم لغاتنا واساليب طقوسنا التي مرت عليها قسرا صبغة عادات وتقاليد الاخ الكبير، لتمارس تاثيرها الكبير الذي ننعم به الان، انه واقع يحتاج الى ثورة والتي هي في حقيقة امرها( الجوهر) و( الهدف) هي تغيير جذري للاراء الخاطئة والمفاهيم الفاسدة الموروثة وتصحيح الاوضاع وتمرد ايجابي على الكثير من العادات والتقاليد والمسلمات الضارة بالمجتمع بافراده.

ان خلق عقلية جديدة عصرية متماشية وروح العصر وظروفه، عقلية عراقية متحررة من قيود الفكر المتزمت الانهزامي والتحكم الانعزالي الاستسلامي واثارها السيئة تتطلب خلق رؤية جديدة اشبه بالثورة الثقافية التي تحتاجها كل القوميات والطوائف الدينية العراقية ذات الافق الوطني والنظرة الوحدوية الوطنية، فهي الوسيلة الرئيسية الاولى لتجذير الفكر العراقي وترسيخه في صفوف جماهيرنا العراقية، وهي الطريقة المنهجية السيلمة لبناء وخلق الانسان العراقي الجديد انسان العلم والتكنولوجيا فكريا وعقليا وماديا وذلك عن طريق تعميق ونشر المباديء الوطنية في وجدان الشعب العراقي ولن يتم هذا الا بتثوير المناهج الدراسية وجعلها وطنية اولا.

الثورة الثقافية اذن تبدأ كخطوة اولى بثورة راديكالية في المناهج والاساليب والادارة وبنية المدارسين والمعلمين السائدة في المدارس والمعاهد والجامعات. والثورة الثقافية يجب ان تجمع لتكون ثورة ضد الجهل والامية وسلطة الاخ الكبير ذات الصفات الاستبدادية بلغته وافكاره القومية المتفردة، واقامة الكثير من المؤسسات التعليمية وتشجيع الاتجاهات العلمية والحث على الخلق والابداع في جميع الميادين للقضاء على التراكم السلبي التاريخي الذي رسخ مشاعر هيمنة القومية الواحدة وثبت العصبية بشكل حاد وخلق التميز الشخصاني المزيف والتفرقة الوطنية والاستعلاء القومي مما ادى الى التباغض والتحاسد والشقاق. والثورة هذه تحتاج في اول مبادئها الى الاعتراف بالاخر وثقافته ولغته ومعتقدة وترسيخها في مسارات القيم والاخلاق العامة. فالزمن القادم لنا هو زمن الاضاءة، هو امتداد لزمن رواد منا اضاءوا في تاريخ العراق. الزمن القادم سيصنع المكان وينيره ويتجسد معه وبه، انه الزمن البدئي الذي ستنفجر من بين ثناياه المياه البدئية الجديدة، المياه التي ستشكل الولادة الجديدة للزمان والمكان والانسان العراقي سواء كان مسلما او مندائيا او مسيحيا او يزيديا او يهوديا او كرديا او تركمانيا اوم الشبك.