"قال الخليفة المنتصر: لذة العفو أطيب من لذة التشفي، لأن لذة العفو يتبعها الحمد، ولذة التشفي يعقبها الندم."
من كتاب "الأغاني" لأبي الفرج الأصبهاني

قد يتفق المرء مع ما قاله الكاتب والصحافي رياض نجيب الريس حول الصحافة مهنة ودورا ورسالة وما للمناخ المحيط بها من تأثير على أداءها. فهي، بهذا المعنى، تغدو صحافة حرة إذا أحاطت بها الحرية، وتصبح صحافة ديمقراطية إذا أحاطت بها الديمقراطية، وتكون صحافة خنوعة إذا أحاط بها الإستبداد، وتمسي صحافة جبانة إذا أحاط بها الإرهاب، وتنقلب إلى صحافة سيئة إذا أحاط بها السوء. وهذا، من بين أمور أخرى، ما ينطبق على ما تحدثت عنه الصحافية والإعلامية إنتصار العزيزي في مقالة مطولة لها(حوالي 2261 كلمة)، نشرت بتاريخ 3 يناير/كانون الثاني الجاري في موقع إيلاف (الجزيرة الإرهابية و الحرة الليبرالية!). وقد يكون للسيدة إنتصار العزيزي ما يبرر خلافها مع إدارة "راديو سوا" أو "قناة الحرة" أو مع كليهما. وهذا أمر عادي يحدث يوميا ضمن أي مؤسسة إعلامية أو فكرية كالجامعات ومراكز البحوث، أو إقتصادية كالشركات والمصانع وغيرها . هنا، يتم الرجوع -عند الإختلاف- إلى القانون الداخلي للمؤسسة أولا، وإلى بنود عقد العمل ثانيا، بإعتباره وثيقة موقعة إراديا وبالتراضي من كلا الطرفين تنظم العلاقة التعاقدية بينهما عبر ما ورد بها من أحكام وشروط إرتضت بها السيدة إنتصار العزيزي من جهة و إدارة "راديو سوا" من جهة أخرى. من هذه الزاوية، أو غيرها، يمكن النظر إلى أي خلاف أو إختلاف في وجهات النظر أو في طريقة التعاطي مع بعض القضايا المطروحة بين السيدة إنتصارالعزيزي وإدارة "راديو سوا"، على أنه خلاف عادي سواء من حيث طبيعته أو أسبابه، شأنه في ذلك شأن أي خلاف قد ينشأ بين طرفين متعاقدين في معرض تنفيذهما لإلتزاماتهما تجاه بعضهما.

لنستعرض معا، ولو بعجالة، حيثيات هذا الاختلاف. تبدأ السيدة إنتصار العزيزي مقالتها بما يلي:" ما يزال القائمون على الإعلام الأميركي الناطق باللغة العربية (وأعني بالتحديد " راديو سوا " وشقيقته " فضائية الحرة ") ينظرون إلى الشارع العربي على أنه معاق عقليا، أو أنه ليس أكثر من قطيع من الخراف الضالة التي تحتاج إلى الإرشاد والتوجيه صوب الطريق القويم، حيث يتعاطون معه إخباريا بأسلوب التهريج الذي يسود الساحة الاعلامية العربية حاليا" (1) . سيدتي، لنتذكر جميعا ما يعلمه القاصي والداني بدرجة الإستقلالية التي يتمتع بها الإعلام الأميركي سواء المسموع أو المرئي أو المقروء مؤسساتا وأفرادا. مما يعني أن الحكومة الأميركية لا تملك، ولا تستطيع أن تملك، أي نفوذ أو سلطة فيما يخص هذا "الإعلام الأميركي". فهو، كسلطة رابعة، مستقل عن أي سلطة سياسية تماما كما وصفه بارون دو مونتسكيوBaron de Montesquieu (1689-1755). فإلى جانب خضوع مؤسسات هذا الإعلام المستقل إلى قانون العرض والطلب، فهو أيضا يعكس مصالح القائمون عليه وتوجهاتهم الفلسفية والفكرية والعقائدية. أما الحديث عن الطريقة التي ينظر (بضم الياء وتسكين النون) بها إلى الشارع العربي، لنتفق فرضا، على الطبيعة الإستعلائية التحقيرية التشويهية لآلام وآمال وأفراح وأتراح وواقع هذا الشارع العربي إياه، هنا أيضا، لنتذكر فقط كيف يتعامل إعلامنا "الوطني" مع هذا الكائن الهلامي العجيب الغريب المدعو الشارع العربي دون سواه مع أنه لا مقاسة بين الأخطاء كما يقال.

وعليه، قد يتساءل المرء، مع إفتراض حسن النية دائما، عن السبب حتى لا نقول السر، وراء هذا التأخير الواضح البين الظاهر في عدم كشف هذه "الحقائق" خاصة إن كانت هذه هي سمة الإعلام الأمريكي الناطق باللغة العربية، هل الوقوف على حقيقته وحقيقة القائمون عليه يستدعي من السيدة إنتصار العزيزي كل هذه السنوات التي قضتها في خدمته وخدمتهم؟ ترى، هل يعود كل هذا البطء في استيعاب الأمور أم تضارب أو إنتفاء مصالح شخصية بحتة كزيادة في الراتب مثلا؟ هل كانت كاتبة المقال تجهل، حتى لا نقول تتجاهل، أن إدارة "راديو سوا" ممولة من قبل الحكومة (الفيدرالية)الأميركية. بمعنى أن كل من المحطة الإذاعية "سوا" والقناة التلفزية "الحرة" تتبعان إداريا مكتب البث الدولي the International Broadcasting Bureau (IBB) بموجب مرسوم البث الدولي International Broadcasting Act لسنة 1994، بعد أن وقع إلغاء وكالة الإستعلامات الأميركية أو ما كان يعرف ب US Information Agency (USIA) في أكتوبر/ تشرين الأول 1999. ولماذا لم تشر كاتبة المقال إلى حقيقة كون القائمين الفعليين على قناة "الحرة" و راديو"سوا" هم أعضاء مجلس إدارة ال(IBB) التسعة، ينتمون مناصفة بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري بالإضافة إلى وزير الخارجية؟ إذا، هل أن كاتبة المقال تجهل(حتى لا نقول تتجاهل) بعض هذه الحقائق أم كلها؟ ربما. هل أنها بحثت ونقبت (بتشديد القاف)- كأي صحافي جاد- كي تعلم وتتعرف على من هم أصحاب القرار في المؤسسة التي ستعمل لحسابها، أم أنها تراخت وتجاهلت ولم تعر الأمر أي أهمية تذكر مما تسبب لها في صدمة ولو متأخرة، أم أنها كانت تعلم وتدرك تماما كل ذلك بشكل مسبق (مما يستدعي حذف عنصر حسن النية)، أم أن كل الإفتراضات السابقة تنطبق عليها مجتمعة؟ ربما.


تستمر السيدة إنتصار العزيزي في كلامها وتقول:" إلا أن الشارع العربي، وطبقا للعديد من استطلاعات الرأي والأبحاث التي أجريت (وبعضها من قبل الإدارة الأميركية نفسها) لا يرى فيهما إلا أداة لتجهيله والقضاء على باقي ما تبقى من مبادئه و إيمانه. ويسوّق المؤيدون لـ" لحرة " فكرة ساذجة مفادها أن القناة فسحة الحرية المفقودة في العالم العربي. أما معارضوها فلا يرون فيها أكثر من وكر للخونة وعملاء السي اي ايه والموساد الراكضين وراء المال والغرين كارد Green Card!!"(2)

كلام جميل لولا أنه لم يذكر القارىء بطباق وسجع التعليقات الإخبارية في وسائل إعلامنا "الوطنية" التي تحترم أيما إحترام ذكاء وحس وسلامة فهم شارعنا العربي دون سواه. كلام يذكرنا بتلك الأدبيات والبيانات "الثورية" المهيبة التي ما إنفك يرددها على مسامعنا منظمو المؤتمرات الحزبية. وإلا، بماذا نفسر هذا العزف على وتر الخيانة والعمالة سواء للسي اي ايه أوالموساد ووصف كل العاملين في "الحرة" و"سوا" بالراكضين وراء المال وبطاقة الإقامة الدائمة Green Card ؟ وعليه، لنستعرض معا إستطلاعات الرأي والبحوث التي أشارت إليها كاتبة المقال، علنا نجد ما يؤيد إدعائها. أولى هذه البحوث دراسة نشرتها مؤسسة الزغبي سنة 2002 تحت عنوان" إنطباعات عشر دول حول أميركا"(3) ، استطلعت فيها آراء مواطنين في كل من مصر وإيران وأندونيسيا والكويت ولبنان والعربية السعودية. ثم هناك إستطلاع "مركز بيو للبحوث" The Pew Research Center، صدر في 3 يونيو/حزيران 2003، تحت عنوان "رؤى عالم متغير"(4) ، تناولت أزمة العلاقات العامة التي تواجه الولايات المتحدة ليس في العالم الإسلامي فحسب بل وفي بعض الدول الأعضاء في حلف الأطلسي.

وبعد ذلك تقدم ادوارد دجيريجيان، Djerejian Edward السفير السابق لدى كل من سوريا وإسرائيل، والدكتور المحاضر حاليا في جامعة رايس ورئيس قسم إستشاري حول العالم العربي والإسلامي، أتقدم دجيريجيان بدراسته التي وردت في الحقيقة في شكل تقرير عنوانه " تغيير الآراء وربح السلم: توجه إستراتيجي جديد للديبلوماسية الأميركية في العالمين العربي والإسلامي"(5) حين أدلى بشهادته أمام لجنة المخصصات Committee on Appropriations التابعة للكونغرس الأميركي في شهر أكتوبر/ تشرين الأول سنة 2003، متحدثا عن طبيعة التحديات التي ستواجه أي نشاط إعلامي أميركي في العالم العربي الذي، على حد تعبيره، يتمتع بقدر عال من الشك والريبة من نوايا الولايات المتحدة. يختتم دجيريجيان تقريره ذاك مطالبا الحكومة الأميركية وبقية المؤسسات غير الحكومية المعنية بإجراء المزيد من البحوث والدراسات فيما يتعلق بهذا الأمر، كما أنه لم يخف قناعته بقدرة "راديو سوا" على إحداث التغيير المطلوب والتمتع "بشيء من التأثير"(ص30). والأمر نفسه ينطبق على الدراسة التي كتبها غريغوري جوهنسون، ونشرتها مجلة كريستيان ساينس مونيتور(6) في عددها الصادر بتاريخ 30 أبريل/نيسان2004، شارحا، حسب رأيه طبعا، أسباب عزوف المشاهد العربي لبرامج قناة "الحرة" برغم الإقبال الشديد على مشاهدة برامج القنوات الفضائية الأخرى. من بين هذه الأسباب بحسب الخبير والباحث كيم اندرو اليوت Kim Andrew Elliott، هي قدرة كل من قناتي الجزيرة والعربية على الوصول إلى المشاهدين بالتعبير عن قضاياهم اليومية وكذلك إلى إنتشار إستعمال الإنترنيت كأداة للحصول على المعلومات.

وحتى لا يبدو الحديث عرضا لما قيل أو كتب عن راديو "سوا" وقناة "الحرة" أولا، وحتى لا يبدو الأمر وكأنه دفاع عن أداء هاتين المؤسستين لا تلميحا ولا تصريحا ثانيا، وأيضا حتى لا يبدو وكأنة تبرئة لهما مما أرتكب من أخطاء وهفوات وقعت ماضيا وستقع مستقبلا شأنهم في ذلك شأن أي ممارسة لعمل جديد حيث يكون لثنائية التجربة والخطأ الحظ الأوفر وذلك بقطع النظر عن درجة التخطيط المسبق.

يصعب إن لم نقل يستحيل على القارىء أن يعثر على أي إشارة في أي من الدراسات والبحوث والآراء المختلفة والمصادر المشار إليها أعلاه تقول لا من باب التلميح ولا من باب التصريح "بعمالة" و لا "بخيانة" و لا بركض العاملين الحاليين أو السابقين في كل من "سوا" و"الحرة" وراء المال أوبطاقة الإقامة أو كليهما معا. كم يود المرء لو أن كاتبة المقال أرفقت إدعائها بأي سند ولو ضعيف، أو على الأقل أحالت القراء إلى مصادر معلوماتها لكانت أراحتهم من مشقة التخمين وتعب الإفتراض والتساؤل عن المصدر أو المصادر التي إستقت منها السيدة العزيزي معلوماتها التي جعلتها وبسبب خلاف إداري على مستحقات مالية تصف زملاء لها في العمل، سابقين، بما تكرمت عليهم به من ألقاب وأوصاف ونعوت لا يطلقها بهذا السخاء إلا من تشبع بأخلاقية المهنة وجلالة رسالتها. أليس في بعض الظن إثم؟

ما قامت به السيدة إنتصار العزيزي من تشويه جماعي لزملاء لها في العمل يصل إلى حد التشويه والثلب بغير وجه حق، أو ما يعرف بالإنغليزية بCharacter Assassination إزاء كل من الزميلين دانيال ناصيف وموفق حرب، يعد في الحقيقة إيذاء بليغا يطالنا جميعا وبدون إستثناء. من الأحرى أن تتذكر السيدة إنتصار العزيزي، أو تحاول أن تتذكر على الأقل، أنه سبق لزوجها أن إتهم الزميل دانيال ناصيف دون سواه بالعمالة لأجهزة المخابرات السورية ولكنه وبقدرة قادر أصبح عميلا للسي اي ايه وللموساد معا ومتتلمذا على يد يوري لوبراني !

هنا، أيضا، تجدر الإشارة مرة أخرى إلى أنه من حق السيدة العزيزي أن تختلف مع أي كان ومن حقها أن تغازل قناة الجزيرة أو أي قناة أخرى، كما أنه من حقها أن تختلف مع إدارة "راديو سوا"، ومن حقها أن تبدي رأيها ومن حقها أيضا أن تطالب بترقية مهنية وزيادة في الراتب. هذه كلها مطالب مشروعة من حق الجميع، لكن تحقيقها يتطلب، فيما يتطلبه، شرط الكفاءة أولا، والنزاهة ثانيا، والقدرة على الخلق والإضافة البناءة ثالثا، حتى تصبح صاحبة حق، أو لنقل ذات أحقية سواء بالمطالبة بالترقية (باشرت عملها في المدة الأولى كمذيعة، لكن وبحكم عدم توافر الشروط التقنية لصوتها- يهمس بعض أصحاب السوء بأنه أجش- تم نقلها إلى قسم التحرير) وقد قوبلت جميع محاولاتها بالعودة كمذيعة بالرفض. أو بالمطالبة بتشغيل زوجها معها في إذاعة "راديو سوا" دون غيرها! وقد قوبل طلبها ذاك بالرفض أيضا، أو بالمطالبة بتشغيل صديقها بيار عطاء الله، أحد مراسلي جريدة النهار البيروتية في باريس، وقد قوبل طلبها ذاك بالرفض كذلك.إن كان المقصود بما كتبته السيدة إنتصار العزيزي هو التشويه عبر إطلاق تهم باطلة زائفة كالعمالة والخيانة والجشع وما إلى ذلك، فلتعلم أن هكذا صنيع لا يسيء إلا لصاحبه دون سواه. صنيع مصدره الغيض، ودافعه النقمة، ومآله الحسرة. وفي هذا السياق بالذات تحدث ابن عبد ربه في "العقد الفريد" فقال:
" قال معاوية يوما وعنده الضحاك بن قيس، وسعيد بن العاص، وعمرو بن العاص: ما أعجب الأشياء؟
قال الضحاك بن قيس: إكداء العاقل وإجداء الجاهل.
وقال سعيد بن العاص: أعجب الأشياء ما لم ير(بضم الراء) مثله.
وقال عمرو بن العاص: أعجب الأشياء غلبة من لا حق له ذا الحق على حقه.
وقال معاوية[غامزا من قناة عمرو بن العاص]: أعجب من هذا أن تعطي من لا حق له ما ليس له بحق من غير غلبة." ولاحول ولاقوة إلا بالله.

هوامش:

[1] - http://www.elaph.com/ElaphWriter/2005/1/31484.htm

[2] - ibid.

[3] - Zogby International (2002). The Ten Nation Impressions of American Poll, March 2002

[4] - The Pew Research Center for the People and the Press (2003). Views of Changing World,
Pew Global Attitudes Project, June 3, 2003.

Retrieved from

http://people- press.org/reports/display.php3?ReportID=185

[5] - Djerejian, Edward P. (2003). Changing Minds, Winning Peace: A New Strategic Direction for US
Public Diplomacy in the Arab and Muslim World. Report of the Advisory Group on Public
Diplomacy for the Arab and Muslim World.

[6]- Johnsen, Gregory D. (2004). "Arabs Glued to TV News - But Not to US-sponsored Alhurra" in The Christian Science Monitor, April 30, 2004.

هارون كنعان، واشنطن

[email protected]