ابتلي العراق بحكم سلطة نهجت أسلوباً قمعياً متفرداً في المنطقة بدأت منذ بواكير أنقلابها في تموز 1986 ، هذا النهج يقوم على قتل المواطن المشكوك في ولاءه ومحاولة تطويعه وخنوعه لها ن ومجرد الشك يدفع بها لأنهاء حياة المواطن ، فأذا تبين انه حقاً معارضاً او متعارضاً مع خط السلطة فقد نال جزاءه ولقي حتفه وتخلصت السلطة منه وأرتاحت الأجهزة الأمنية منه ومن متابعته وتم شطب أسمه من سجلات الأمن، وأن كان بريئاً لاوجود لأدلة أو اسانيد ضده فأن السلطة تعتذر من اهله وربما تعتبره شهيداً مات أثناء الواجب وتمنح ورثته الراتب التقاعدي، وفي العديد من الأحيان تنكر معرفتها بقضيته أو بالأسباب التي أدت الى قتله وكفى المؤمنين شر القتال.
العديد من المواطنين أقتيد الى ساحات الاعدام دون محاكمة أو تحقيق وتم أعدامه على الظن والشبهة، وقد بدأت السلطة باكورة حماماتها الدموية بعد أنقلابها الثاني في تموز 68 بحملة من الاعدامات بزعم كشف شبكات للتجسس، جمعت فيها العديد من ابناء العراق الأبرياء منهم حيث شكلت لهم محكمة صورية لاتتوفر فيها ابسط مستلزمات العدالة والقانون، لتصدر حكمها الفوري بأعدامهم شنقا حتى الموت، ومن ثم التمثيل بجثثهم بتعليقها وسط أكبر ساحات بغداد والبصرة، ليس بقصد أن يتعرف الناس على هذه النماذج من الأسماء التي تم اعدامها، انما كان الفعل بقصد الترويع وتطويع المواطن العراقي لقبول ماتقوله السلطة دون نقاش. ثم اكملت مسلسل الدم بأقتياد نخبة من العراقيين السياسيين والوجوه الجتماعية والعشائرية التي لايربطها رابط، وجمعتهم في قصر النهاية، حيث كان المحقق والقاضي والمنفذ طه الجزراوي الذي اباد منهم عدداً أرعب العراق حقاً في لحظات قليلة من الزمن.
ثم أخذت السلطة تسلك سلكاً مشيناً يدل على خستها وأنحطاطها الأخلاقي والفكري في أعتماد منهج الإغتيالات والتصفية الجسدية للسياسيين من القوى والأحزاب الأخرى، ولصق تهمة مخلة بالشرف والسلوك بالضحايا، بالنظر لمعرفتها حساسية قضية الأخلاق وقيم الشرف لدى المواطن العراقي واستغلالها الأمكانيات المادية والمعنوية التي توفرها من خلال سيطرتها على ميزانية البلد وموارده ، اي أن السلطة عادت لتمارس أفعال العصابات المنحطة في سلوكها ضمن المجتمع العراقي. ولهذا فقد عززت وقويت من شوكة المؤسسة الأمنية التي كانت متمثلة بمديرية الامن العام وفروعها، قبل أن تنشطر الى جهاز المخابرات والأمن القومي والأمن الخاص، والتي كانت العمود الفقري في قوة السلطة حتى تم تشكيل جهاز الأمن الخاص الذي كان يقود المؤسسات الأمنية في العراق والأشراف عليه من قبل أبن الطاغية المقبور قصي صدام.
أن عمل المؤسسات الأمنية في العراق بحاجة الى دراسة دقيقة والدخول في تفاصيل العمل الامني وتصفح الملفات ومعرفة الحقائق ومتابعة أعداد الضحايا الذين قضوا تحت التعذيب من الذين لم يتم التعرف على قبورهم وجثثهم لحد اللحظة. ومنذ اللحظات الأولى للأنقلاب بقيت السلطة تستثمر امكانياتها في انهاء الخصم أو المشكوك في ولاءة بأية صورة كانت ومهما كان موقعه السياسي او الأجتماعي ، وفي أي مكان في العالم.
ولذا تم تشكيل فرق الإغتيالات التابعة لجهازي الأمن العام والمخابرات، قامت هذه الاجهزة بتصفية العديد من الأسماء العراقية في عدة أماكن من العالم ومن ضمنها العراق ، وبأساليب الذبح والتسميم أو الأغتيال بالرصاص الكاتم، والتي بقيت مستمرة خططها وتنفيذها لهذه المخططات حتى لحظة سقوط النظام الصدامي. ولم يكن غريباً على سلطة مثل هذه أن تسلك سلوكا غير مسبوق لدى عصابات الاجرام، يكمن في أعدام الضحية وأستيفاء ثمن رصاصات الأعدام من اهل الضحية، وتبليغهم بمنعهم من الحزن والبكاء عليه، واستحصال مضابط خطية تتبرء العائلة بها من أبنها، كل هذا بقصد الأيغال في أذلال الشخصية العراقية وترويعها وتطويعها على الخذلان والخنوع والقبول بما تقرره السلطات التي أصبحت تحصي نسمات الهواء على المواطن العراقي.
لم يكن يعتقد صدام حسين أن الشعب العراقي يمكن أن ينتفض ضده، فهو لكونه قاصراً عن فهم حركة الشعوب وأرادتها أعتقد أن الأرادة العراقية توفيت ودفنت منذ زمن أو انها ماتت في صدور العراقيين ، ولم يعد بأستطاعة كائن من يكون أن يتململ قيد شعره، ولهذا فقد كان يقوم بأعدام حتى الضباط والسياسيين الذين يتفانون في خدمته شخصياً، بقصد ارعاب وأخافة غيرهم بالقضاء عليهم.
لم يكن يعتقد أن المؤسسة العسكرية الرهيبة التي بناها وفق خطة تجعلها لاتعي غير خدمة صدام وعائلتة أن تتحرك قاعدتها الأساسية السفلى ضده. وبالرغم من التنكيل الكبير الذي مارسه صدام ضدها خلال الحروب التي أدخلها للقوات المسلحة العراقية، سواء في الحرب العراقية – الآيرانية التي دامت أكثر من ثمان سنين أو حرب أحتلال وتحرير الكويت، حيث راح من الشعب العراقي الضحايا التي تفوق الخيال، بالأضافة الى خسارة العراق العديد من ابناءه في حملات الأعدام التي طالت المدنيين المتخلفين والهاربين من الخدمة العسكرية أو ممن اتهموا بالتراجع والتقهقر في القتال في المواقع الخلفية للحرب.
وحين انتهت معركة تحرير الكويت والتي كانت نتائجها محسومة سلفاً، والتي عرف بها العالم ولم تهز شعره في ضمير الحاكم العراقي المتحجر، أذ ابيدت قطعات كاملة وأنتهت المؤسسة العسكرية العراقية العريقة نهاية بائسة، وراح من الضحايا بالقتال والأسلحة غير المتكافئة العدد الذي لايصدقه العقل.
وحين أنكسر الجيش العراقي كان الطاغية صدام قد استسلم للقوات الأمريكية وأرسل وفده المتشكل من الضباط الأذناب التابعين لشخصه ليوقعوا معاهدة الذل في صفوان 1991.
وحين عادت الناس مع ماتوفر لها من انهزام السلطة وأنكسار القوات المسلحة والخيبة التي عمت البلد بالأضافة الى انقطاع الكهرباء والماء والهاتف وكل الخدمات الحكومية.
اندلعت الأنتفاضة الشعبية في آذار 1991 وعمت مدن الجنوب والفرات الأوسط أذ انتشرت كالهشيم في العراق، وقد تعرض العديد من الكتاب والباحثين الى الأسباب والنتائج لهذه الانتفاضة العفوية الشعبية العارمة.
ودون أن نستعيد الأسباب التي أدت الى نكوص الانتفاضة التي كانت بحاجة الى قيادة حقيقية والى وقفة سياسية ووطنية موحدة، أستعمل صدام القوات العسكرية الباقية لحماية بغداد للزحف على المدن الثائرة، وأستطاعت قوات الحرس الجمهوري بمصاحبة قوات الأمن الخاص أن تزحف على مدينة المحاويل والحلة ومن ثم تسيطر على اغلب مدن الفرات الاوسط بالنظر للمقاومة غير المتكافئة وغير المنطقية من قبل المقاومين للقوات العسكرية. وفي كل مدينة تقوم القوات المسلحة بالسيطرة عليها كانت تحصد ارواح العراقيين المدنيين الذين تلتقيهم اثناء سيرها لشك الضباط والمسؤولين كونهم من ( الغوغاء ) كما أسماها الطاغية أول الأمر ثم ابدلها الى ( صفحة الغدر والخيانة ). وعند تمركز أية وحدة عسكرية في القصبات والمدن العراقية تعلن هذه الوحدات الى الناس بضرورة ان يقوم العسكري المتخلف عن الخدمة العسكرية او الهارب او ممن قام بالمشاركة في أعمال الأنتفاضة بتسليم نفسه الى هذه السلطات لشموله بالعفو الصادر من الطاغية.
قام العديد من الناس بتسليم اولادهم واهاليهم الى هذه الوحدات، كما كانت المفارز العسكرية تلقي القبض وفق المزاج على اي مواطن لتقوم بتسليمه الى هذه الوحدات، بالأضافة الى تنفيذ قرارات صادرة عن قيادة السلــطة في القاء القبض على أهل كل من شارك بالأنتفاضة العراقية. وفي مواقع المدن قامت القيادات العسكرية والبعثية بأعطاء الأوامر بأعدام مئات الشباب ودفنهم في مواقع وجود تلك الوحدات دون أجراء تحقيق أو تدقيق أو محاكمة، ودون أن يتعرف العديد من المغدورين بالأتهامات الموجهة لهم أو الأ‘مال التي زعم انهم ارتكبوها.
وكانت اعداد الشباب تتكدس في مواقع مفتوحة ضمن سيطرة الوحدات العسكرية، فتم تنفيذ الأمر الصادر عن قيادة الدكتاتور بتنفيذ حكم الاعدام بمن تجد القيادات العسكرية أن لافائدة منه، وعليه تم أعدام مئات الالاف من الشباب من كل الأصناف، وبالنظر لكثرة عدد الذين تم تنفيذ حكم الأعدام بهم، صار الأمر الى دفنهم بشكل جماعي في مقابر جماعية تقوم الشفلات بحفرها ومن ثم طمرها بالتراب. وأقتيد الالاف من ابناء الجنوب والفرات الأوسط الى بغداد حيث تم توزيعهم على سجن ابي غريب ومنطقة الرضوانية وبعض المواقع العسكرية.
والمتابع للمناطق الجغرافية العراقية يجد أن الأمتداد للمقابر الجماعية يبدأ من منناطق البصرة متوزعاً بين الأبلة والمعقل والشعيبة وخمسة ميل والهارثة والدير والقرنة والزبير وصفوان ليمتد الى مناطق الصحراء بين البصرة والناصرية، التي أستغلت الأراضي التي انحسر عنها الماء في الأهوار لدفن مئات الجثث بالأضافة الى مناطق الاقضية والنواحي بأمتداد البطحاء والخضر، وصولاً الى مناطق السماوة وصحراء السلمان والمملحة التي تم دفن مئات المبعدين من الأكراد الفيلية والبارزانيين فيها.
أما في مناطق الديوانية فقد استغلت المنطقــة بين الشافعية والشامية لتمتد الى صحراء الشنافية، وشملت منطقة الأ‘دامات في النجف قرب الفندق السياحي ومناطق خان النص وخان الربع والعباسية وطريق كربلاء، وكذلك في مناطق كربلاء والحلة وميجاورها من الأقضية والنواحي، حيث أكتضت منطقة المحاويل بالنظر لكونها قاعدة ومركز لتجمع القوات العسكرية الحكومية التي استعادت السيطرة على معسكر المحاويل، من جعلها مدافن ومقابر جماعية تم فيها دفن المدنيين مهما كانت أعمارهم وأجناسهم وهم أحياء.
وفي منطقة الرزازة في منطقة كربلاء اقيم معسكر تحقيقي يشرف عليه المقبورين حسين وصدام ولدي كامل المجيد، كانت حفلات الأعدام تجري مع دقائق الزمن، وكان الموقوفين ينامون في العراء تحت ظرف طقسي قاسي ونظام تغذية بائس ولايليق بالأنسان وتحرسهم البنادق والموت التي تحصد منهم كل حين. كما كان معسكر الفضيلية بأشراف من المقبور قصي الذي كان يتلذذ بتنفيذ الأعدامات بيده أو يشارك بها، حيث تم اعتماد منطقة البو منيصير ومحمد السكران لدفن المعدومين أو من يلفظ أنفاسه أثناء التحقيق.
كما استعمل قصي اسلوب الأذابة بالمواد الكيمياوية للعديد من الذين يعترفون بمشاركتهم في الأنتفاضة ضد صدام، ومن الغريب أن يتم أستعمال ارضية قصور الرئاسة في الرضوانية مقابر جماعية لدفن العراقيين فيها، كدليل على سيطرة النزعات الحيوانية على عقل رئيس السلطة الدكتاتورية وولديه المقبورين وأذنابه.
أن السلطة أصدرت قراراً رسمياً بالعفو عن جميع التبعات القانونية لجميع المواطنين وأسقطت عنهم في حال تسليم أنفسهم كل التبعات القانونية، الا انها غدرت بالناس ومارست بحقهم اسلوباً خسيساً ورخيصاً في النكول عن قرارها وخداعهم وعدم الألتزام بقرار العفو. ثم باشرت السلطة بالأيعاز الى مؤسساتها الأمنية والمخابراتية بملاحقة عوائل من تتهمه بالأشتراك بهذه الانتفاضة وأقدمت على تهديم البيوت بالشفلات وحرق محتوياتها واشعال النار بالسيارات العائدة للمواطنين، ومتابعة اسماء الناس وتحديد ومنع تنقل المواطنين من منطقة الى أخرى بغية حصر المناطق والسيطرة عليهم أمنياً. كما لجأت مديرية الامن العامة وجهاز المخابرات على التخلص من الجثث بدفنها في أماكن لم يتم أكتشافها لحد الان، مما يوجب أن يتم التدقيق والتحري عن أماكن الدفن التي تعتمدها هذه الأجهزة، كما أن وجود معتقلات وزنازين لم يتم التعرف على طرق الوصول اليها وبالتأكيد أن العناصر المشرفة عليها تعرف ابوابها، كما تعرف أماكن قبور من كان يموت فيها.
أن عدداً من المقابر الجماعية بلغ عددها اثنا عشر مقبرة تم اكتشافها في مناطق الحضر غرب الموصل تم التعرف على طريقة قتل الأطفال والنساء والرجال بالأسلحة الأوتماتيكية في مؤخرة الرأس وتم دفنهم بملابسهم. وتكاثرت المقابر الجماعية التي يحاول الأعلام العربي الأعور أن يتجاوزها ويخفف من هول صدمتها ووحشيتها نكاية بشعب العراق وحتى لاتستفز مشاعر الأنسانية الغافية على أحلام العروبة والشعارات الطنانة، وحاولت بعض الأصوات أن تتهم القتلى في هذه المقابر الجماعية بالخيانة الوطنية مرة، ومرات بصفحة الغدر والخيانة كما كان يرددها القائد الضرورة ، ومرات على انهم قتلى الحرب العراقية الآيرانية، وفي مرات كانوا ضحيايا الحرب الأهلية بين الشيعة والسنة، وفي أحيان كانوا موتى ماتوا بشكل طبيعي ودفنوا في هذه المقابر في زمن الحصار الجائر، كما نقروا على دف كون هذه المقابر لاوجود لها وهي فلم من افلام هوليود انتجتها الأدارة الأمريكية في العراق.
المحزن ليس الصمت العربي والتجاهل اللافت للنظر في أمر المقابر الجماعية، المحزن هو الكذب الصراخ في محاولة التغطية والتستر على الجرائم الأنسانية البشعة المرتكبة في هذه المقابر، فقد وجد الأطفال الرضع والنساء الحوامل والشيوخ الذين بلغوا من العمر عتياً ضمن أعداد القتلى في هذه المقابر، ووجد المئات منهم من تم تصفيته وهو لم يزل حياً بدفنه في التراب، كما وجد القتلى بملابسهم مع حاجياتهم واوراقهم الشخصية، بالأضافة الى ان جميع الضحايا في جميع المقابر الجماعية كانوا من أهل الجنوب والفرات الأوسط أو من الأكراد حصراً، ويفند كل هذا أن الحرب العراقية الايرانية التي توقفت عام 1988 لم تكن السلطة تتستر على القتلى الذين تسلم جثثهم الى ذويهم مع شهادات الوفاة، في حين تفتقد هذه الالاف الى أي اثبات يثبت دخولهم في مراحل التحقيق او اجراء محاكمة لأتهامهم بقضية معينة، ولسبب بسيط انهم لم يتم اجراء أي تحقيق أو اية محاكمة لمحاكمتهم، فقد تقرر جز رؤوسهم ودفنهم بالتراب على الهوية. المحزن في محاربة هذه الجهات للضحايا ومحاولة خلط دمائهم والتنكر لمظلوميتهم وحقهم في الحياة والمحاكمات الأصولية ودفنهم وفق مايليق بكرامة الانسان، المحزن في التهافت الرخيص لنقي الجريمة وألصاقها بتخريجات بائسة بعيدة عن الواقع والمنطق والعقل.
الجرح العراقي العميق في ضحايا المقابر الجماعية لم تمر به أمة من الأمم ولاخبرته السلطات التي حكمت شعوبها بالحديد والنار، فقد كانت سلطة الطاغية تلتهم كل مافوق الأرض في نظرة سوداء ومنحطة من ان كل شعب العراق خونة لعائلة الطاغية ويريد بها الشر، وكان رأس العائلة العفنة يعرف أن جميع اهل العراق ينتظر لحظة الأنقضاض عليه والتخلص من سلطته، وهو الذي يردد دائماً انه حين تحين تلك اللحظة لن يكن بمقدور أحد ان ينتقم من صدام حسين ويحاسبة لأن العراقيين سيمزقون صدام قبل ذلك، وهو يعرف حقاً ان وقوعه بيد القوات الأمريكية خلصه من انتقام اهالي الضحايا والمحرومين والجياع والذين اضاعوا اعمارهم وتشتت عوائلهم، خلصه من المظلومين والمنكوبين والمعوقين، خلصه من المعارضين واهالي المعدومين والذين اغتالتهم السلطة الصدامية، خلصه من اليتامى والأرامل وفقراء العراق الذين ازداد فقرهم مع ازدياد ثروة النفط، خلصه من قبضة كل عراقي أعتاد ان ينتقم بيده لنفسه.
المقابر الجماعية في العراق لم تكن مقابر مثل مقابر البشر والمجتمعات ولم تكن عليها أشارات تدل على وجود جثث وعظام للموتى، ومن الغريب أن تجد الناس مقبرة جماعية لمجموعة من العراقيين تم قتلهم ودفنهم فيها، الغرابة تكمن في المكان الذي تم دفنهم فيه، وهو حديقة أحد القصور الصدامية، أذ كان الطاغية وأولاده يجدون لذه عارمة في أستذكار مشاهد القتل والالم والعذاب التي تنتاب العراقيين.
ولهذا كان الطاغية حريصاً على متابعة ومشاهدة جميع افلام التعذيب والأعدام التي تقوم بها جماعة الأمن الخاص والمخابرات والأمن العام على العراقيين، حيث كان يجري تصويرها من قبل مصور خاص يضعها امامه لغرض الأطلاع عليها والتلذذ بلحظاتها السادية والدموية المرعبة. وإذا كانت المنظمات التي تهتم بقضايا حقوق الأنسان قد هالها أن يتم اكتشاف اربعة مقابر جماعية في منطقة المحاويل فقد، فقد اوردت هذه المنظمات تقول : "وقد تم اكتشاف مقبرتين جماعيتين هامتين قرب قاعدة المحاويل العسكرية، التي تقع على بعد حوالي 20 كيلومترا إلى الشمال من الحلة، وتقع إحداهما في حقل مكشوف وتتضمن رفات أكثر من ألفي شخص (مقبرة المحاويل الجماعية)، وتبعد الثانية عنها بحوالي خمسة كيلومترات وتقع خلف مصنع مهجور للطوب وتتضمن رفات عدة مئات من الأشخاص (مقبرة مصنع طوب المحاويل الجماعية). ويظن أن مقبرة جماعية ثالثة توجد على أرض القاعدة العسكرية نفسها. وهناك مقبرة جماعية أخرى واحدة على الأقل إلى الجنوب من الحلة في قرية الإمام بكر وتتضمن 40 جثة أخرى ترجع إلى الفترة نفسها. وكانت الجثث في تلك المواقع كلها قد دفنت دفعة واحدة، وهي متلامسة، لا في حفر منفصلة لكل جثة. والمعروف أن المقابر الجماعية من هذا النوع تعتبر غير عادية، حيث تشير في كل الأحوال تقريبا إلى أن الوفيات جاءت نتيجة فظائع جماعية أو كوارث طبيعية. وقد أدت الطريقة العشوائية وغير المنهجية التي حفرت بها المقابر الجماعية حول الحلة والمحاويل إلى استحالة تعرف الكثيرين من أهالي المفقودين على رفات ذويهم بصورة مؤكدة، أو حتى الاحتفاظ بالرفات الآدمية في حالة سليمة ومنفصلة عن غيرها لكل جثة. ففي غياب المساعدات الدولية لجأ العراقيون إلى استخدام المجارف لحفر المقابر الجماعية، الأمر الذي أدى إلى تمزيق عدد لا حصر له من الجثث تمزيقا فعليا وخلط الرفات بعضها ببعض في أثناء هذه العملية، وفي النهاية أعيد دفن أكثر من ألف جثة في مواقع مقابر المحاويل مرة أخرى دون التعرف على أصحابها. وبالإضافة إلى ذلك، ونظرا لعدم وجود أخصائيي الطب الشرعي في الموقع، لم يتم مطلقا جمع الأدلة الحاسمة اللازمة لمحاكمة المسؤولين عن عمليات الإعدام الجماعية مستقبلا، بل لعل هذه الأدلة قد تلفت إلى غير رجعة."
يقول الكاتب حازم صاغية في مقالة له بجريدة الحياة اللندنية عن أسلوب البعث في المقابر الجماعية : "إلى أي حد يمكن القول إن المقابر الجماعية هو الشكل الأشد ملاءمة لنظام الحكم البعثي في العراق؟ لنلاحظ، نسجاً على منوال أرنت، الجوانب التالية:
أولاً، أننا حيال مقابر "جماعية"، تشارك معسكرات الموت "جماعيتها" (غير العابئة بأفعال الأفراد وآرائهم)، وإن قصّرت عنها تقنياً (تبعاً للفارق في درجة التطور التقني).
ثانياً، أننا، مع صدام، حيال حالة إيديولوجية في مواقفها الجاهزة من شعوب هي أعداء "موضوعيون" (الفرس، اليهود)، وفي استعدادها لتطوير مواقف ضمنية من إثنيات (الأكراد) وطوائف (الشيعة).
ثالثاً، أن النفع كان معدوماً كلياً: فالكوارث الاقتصادية هي وحدها ما نجم عن مذابح صدام، تلك التي ارتُكبت حيال جماعات هاجرت كفاءاتها وفعالياتها وتجارها، أو تلك التي اتخذت شكل حروب خارجية ضد إيران فالكويت.
رابعاً، أن سيرة التقدم من مذبحة إلى أخرى سيرة صدامية بامتياز (راجع تصفياته للجماعات ثم حروبه، وحركة تتاليها). إنها مسألة تستحق أن يُفكّر فيها، مثلها مثل كل ما يتصل بالمقابر الجماعية التي يُراد دفعها، وهي بالكاد عُرفت، إلى خانة النسيان. ".
والمتمعن لحالة المقابر الجماعية في العراق يدرك حجم الكارثة التي حلت بالعراق، فلم تكن هذه المقابر ردة فعل السلطة ضد الانتفاضة الشعبية التي عمت اغلب المدن العراقية، بقدر ماتعني السياق النمطي لفعل السلطة الذي يظهر على شكل تصفيات جسدية سواء منها بالأغتيالات أو بالأعدامات أو بالتغييب أو بالموت اثناء التحقيق، او بالموت وفق قرارات المحاكم الخاصة الكارتونية، او بهذه المقابر الجماعية.
وشكل الأعدام الجماعي أخذ شكلة الأكثر وضوحاً خلال عمليات الأنفال، حيث كانت تتم تصفية مجموعات من البشر بوقت واحد والتخلص منها بدفنها بالطرق العشوائية، ودون وضع اشارات على اماكن الدفن، وهو نفس الٍلوب الذي استعملته السلطة في مقابر العراقيين بعد الأنتفاضة 1991.
ومنذ سقوط النظام البائد في ابريل (نيســــان)عام 2003 وصلت عدد المقابر الجماعية الى 283 موقعا والتي احصيت في الجنوب وفي وسطه بعد شماله، حسب تأكيد السيد وزير حقوق الانسان بختيار امين، مقدرا عدد المفقودين في العراق خلال فترة حكم صدام بنحو (مليون شخص!)..
أن عدد 283 مقبرة متوزعة من مدينة البصرة وحتى مناطق كردستان ومناطق غرب الموصل، والتي تم اكتشافها تعني رقماً كبيراً، هذا بالأضافة الى أعداد من المقابر الجماعية سيكتشفها التحقيق والمتابعة بعد زمن من أستقرار الوضع الامني في العراق، حيث يحتمل أن يصل عدد المقبورين من المعدومين في المقابر الجماعية الى مليون ونصف أنسان عراقي، علماً أن بين المقتولين وجدت رفات لمواطنين عرب من السودان ومصر وفلسطين تم اعدامهم دون تدقيق هوياتهم ومعرفة جنسياتهم.
ويذكر الكاتب الكبير الدكتور خالد يونس خالد في مقالة له بعنوان البحث عن الارواح : "إكتشاف المقابر الجماعية في المدن العراقية، في البصرة وبغداد وكربلاء والموصل وكركوك والحلة والمحاويل شواهد ثابتة ودامغة على النفسية المريضة والعقلية السادية التي كان في أحشاء الحاكم وأبنائه ونظامه المنهار. كيف كان الطاغية يأكل لحوم كل هؤلاء الأدميين من الأبرياء دون أن يشبع؟ أي أحشاء هذه التي لا تتمزق؟ وأي قلب هذا الذي لا يموت من هذه الممارسات التي تقشعر لها الأبدان؟ أين ذهب الذئب وترك ورائه كل هذا الخراب والدمار والحيرة والعظام والرفات البشرية؟
إنه لظلم كبير أن نصنف القادة من العهد البعثي الصدامي عراقيين وقد قتلوا مئات الآلاف من العراقيين الأبرياء. وإنه إساءة للشعب العراقي أن نصف رئيس النظام البعثي المقبور وأبنائه من العراقيين وقد إغتصبوا مئات الفتيات العراقيات. وإنه إجحاف بحق كرامة الشعب العراقي أن نجعل المجرمين في كفة ميزان مع الوطنيين. يا مَن تدعون بالإنسانية والحرية لا تعتدوا على الشعب العراقي بدفاعكم عن ظلم صدام! أيها الرؤساء من العرب والكرد والأقليات لا تدافعوا عن الجرائم ولا تبيعوا العار بالدولار! إنه زمن اليأس العربي والكردي حين يقف بعض الفضائيات العربية والأنظمة العربية والمسلمة مع الإعتداءات البعثية الصدامية التي لم تشهد البشرية مثلها منذ الحرب العالمية الثانية. قولوا الحقيقة! واتركوا العراق للعراقيين ودعوهم أحرارا! ولا تظلموا الشعب العراقي! واذهبوا أنتم الذين لا زلتم تقتادون بقايا عظام الشهداء العراقيين، إلى البحار العميقة واغسلوا آثامكم!
كيف يمكن للأم العراقية أن تنسى المرارة التي لا تغيب عن شفتيها، وتعجز كل عسل الشرق وحلاوة الطبيعة أن تزيل العلقم من فمها وهي تبقى تبحث عن إبنها؟ كيف يمكن للأم العراقية والأم الكويتية التي تريد أن تدفن وليدها، وقد ظلت تنتظر سنين طويلة يوم التحرير، فإذا هي تبحث عن الروح الطاهرة، ولا تفكر إلا أن تلتقي بإبنها أو برفاته حتى تحتضنها، وتسكب كثير من الدموع على تلك النفس الأبية البريئة التي لم تعتد على عراقي، ثم يقول عُمى البصيرة والقلوب، وجنون العقل، بأن الأم العراقية والكويتية لا تملكان الحق أن تحاربا نظام صدام؟ )".
كما أن بين رفات القتلى في المقابر الجماعية العديد من القتلى الكويتيين والسعوديين ومن الأسرى المدنيين الذين قرر صدام تصفيتهم ضمن حملات التصفية التي قام بها لاهل العراق
وقد اعلن فريق البحث عن الاسرى والمفقودين الكويتيين في العراق عن العثور على رفات 12 اسيرا منهم واحد سعودي, وذلك بعد ان اثبتت الفحوصات المخبرية في الادارة العامة للادلة الجنائية تطابق جيناتهم الوراثية مع بعض الرفات الذي تم العثور عليه في مقابر العراق الجماعية. وقال المتحدث باسم لجنة البحث عن الأسرى والمفقودين في العراق فايز العنزي ان كوكبة جديدة من الاسرى الذين صفاهم النظام العراقي السابق تقدر بـ 12 شخصا تم التعرف عليهم، وذلك بعد ان تمت مطابقة الجينات الوراثية الخاصة بهم بعدما ثم العثور على رفاتهم في مقابر جماعية داخل العراق. وان مجموع ما تم العثور على رفاتهم في العراق حتى الان 147 من اصل 605 أسرى فقدوا اثناء احتلال نظام صدام حسين للكويت في اغسطس 1990. واضاف ان الرفات وجدت في مقابر جماعية تتوزع ما بين السماوة وكربلاء والعمارة والرمادي فيما عثر على رفاة شخص في الكويت.
ستبقى جثث الأطفال المطمورة بالتراث مع العابهم البريئة وصمة عار في جبين من يحاول ان يشوه حقيقة الجرائم الصدامية البشعة، وأنحياز خسيسللدفاع عن قاتل لايجد له من المنطق والقبول سوى الكراهية المقيتة والدفينة لشعب العراق.
ستبقى الضحايا تصرخ مطالبة بثأرها، وستبلقى صرخات المظلومين في العراق تريد من العدالة التي كانت غائبة في الزمن الصدامي البغيض ان تقول قراراها وكلمتها، وستبقى عوائل الشهداء في هذه المقابر تلاحق القاتل واذنابه، وستبقى قضية المقابر الجماعية التي اغمض الأعلام الرسمي العربي عينه عنها، واستخف بها بعض الأعلاميين معدومي الضمائر والأحساس، وشمت بها أصحاب الضمائــر المعروضة للأيجار في كل زمان ومكان، ولم يعطها الاعلام العراقي ولاالمثقفين العراقيين حقها في نشرها على الدنيا، بالرغم من هول فجيعتها وسعة البشاعة الأنسانية المرتكبة فيها، وعدد الضحايا الذين انهى حياتهم الطاغية بواسطة أدواته القذرة دون ان يرف له جفن أو يندم أو يعدل على الأقل من خط سيره الأجرامي وظلمه لشعب العراق وسرقته قوت اليتامى والأطفال والمعوزين وبناء القصور والتمتع بالمال السحت الحرام من قبل عائلته ومن يكون بخدمتها.

ملحمة المقابر الجماعية في العراق شاهداً من شواهد العصر على الطغيان والتجبر والظلم الذي عاشه اهل العراق تحت سيف الجلاد، وملحمة المقابر الجماعية وحدها تكفي لأن نرفع أصواتنا عالياً نطالب بالعقاب الشرعي والقانوني الذي تقرره أعرافنا وتقاليدنا وقيمنا ونصوصنا القانونية بحق القتلة.