كنت أسير هذا الصباح تحت المطر وعنف الريح، قاصدا مركزنا الانتخابي في باريس.كنت أسير، وأنا شاعر بلذة ونشوة خاصتين ومثيرتين؛ فرغم كل ما مررت به من تجارب سياسية وما مر به العراق من أحداث خلال عمري المتقدم، لم يسبق لي أن أشترك في انتخابات عامة حرة، لأنها لم تكن موجودة أصلا. صحيح أنه كانت تجري انتخابات للمجلس النيابي في العهد الملكي، ولكنها كانت ملوثة بالتدخل الحكومي والفساد، واستخدام القهر والرشوة وشراء الأصوات؛ هذا دون أن انفي أن في تلك المجالس الانتخابية كانت ترتفع أحيانا أصوات وطنية جريئة تجد صدى خطبها في الصحافة اليومية، وكان لذلك تأثير معنوي وسياسي على الشارع العراقي.

سرت طويلا لأنني ضللت الطريق، واضطررت للسؤال عن العنوان مرات من المارة و البوليس، ولكن ذلك لم يمس تلك النشوة التي كانت تشعرني بقوة الشباب. إن ما كان يعكر علي رغم نشوتي ويهزني وأنا أسير، خبر خطف كبير أساقفة الكنيسة السريانية في الموصل، القس باسيل جورج، الخطف الذي أعاد لي شريط العدوان المتكرر على مسيحيي العراق وكنائسهم في الموصل وبغداد. كنت أشعر بالغضب والاشمئزاز لهذه العملية الجبانة الخسيسة الجديدة، وبالقلق على حياة القس الجليل، وأعيد التساؤل عن حقيقة أسباب وموقف الحكومة والقضاء العراقيين من عصابات الإجرام الفاشية، البعثية الصدامية، المتحالفة مع غلاة الأصوليين العرب والعراقيين، ومع قطاع الطرق الذين أطلق صدام سراحهم. لقد تساءلت كما تساءل كتابنا الأحرار عشرات المرات عن أسباب عدم معاقبة المعتقلين من أفراد هذه العصابات الدموية التي تنشر الموت، وتبيح الحرمات، وتعتدي على الصغير والكبير.

لم يصب من يقول إننا لسنا في حرب يشنها علينا جيش الإرهاب، وما يجب على الحكومة والقضاء وقانون السلامة اتخاذه لحالتنا، التي هي حالة حرب شاملة بمواجهة الإرهاب الذي يقوده وينظمه ويموله البعث الصدامي، الذي يبث من وقت لآخر بيانات بتوقيعه، يعترف فيها بما يدعوه "المقاومة"، والعزم على مواصلتها. ولو كانت هذه الفئة العنصرية والطائفية الحاقدة تريد ذرة خير للعراق، ولو كانت لها برامج سياسية لصالحه، وتتمتع بشعبية ما، لما لجأت لسفك الدم، وتفجير البشر، والعمل لمنع الانتخابات.
كان خبر آخر قد هزني في الصباح، وتداعت معه خواطري وأنا أحث السير، وأعني اغتيال المرشح الصابئي المندائي، الشهيد رياض راضي في البصرة. ونعرف أن الهجمة على الطائفة المندائية تستمر منذ أكثر من عام، وان البصرة والجنوب عموما هما مركز هذه الحملة. ونعلم أيضا أن الأحزاب الشيعية هي المهيمنة على الشارع البصري، وان في المدينة تدخلا إيرانيا واسعا، وذلك بالعكس من كل ما صار يردده الدكتور أحمد الجلبي مع الأسف في تبرئة إيران.

إن الحملة السلفية والأصولية على المسيحيين في بغداد قد دشنها أنصار السيد مقتدى الصدر، وبينهم المئات من البعثيين الصداميين، وانتقلت للبصرة مع حملة موازية على طائفة الصابئة المندائيين. وتوسعت الهجمة بضرب الكنائس في بغداد والموصل، لتدل على أن الأمر ليس فقط أمر تعصب ديني مقيت، من الأصولية السنية والشيعية، بل له أهداف سياسية لشق الوحدة العراقية، وبأمل إشعال الحرب الدينية، وحرب طائفية موازية بين الشيعة والسنة. ونرى أن المخطط الحقيقي والأول لهذه الخطط الدموية هو البعث صدام، الذي تسلل لجيش المهدي والمسخر لهيئة علماء السنة، والذي اخترع العديد من العناوين الإسلامية للتوقيع على جرائمه ونسبها جميعا للزرقاويين، مع أن هؤلاء القادمين من وراء الحدود هم في حلف "مقدس" مع الصداميين وتحت قيادتهم، ولولا الصداميون ومن يدعمونهم داخل العراق وخاصة في بعض المدن، لما استطاع القاعديون العرب البقاء طويلا للقتل والخطف وقطع الرؤوس في العراق.

وصلت أخيرا المركز، ودخلت بعد تفتيش دقيق من البوليس الفرنسي، وفرحت لهذه التدابير، وأنا أفكر في المواطن العراقي داخل الوطن، وكيف يعيش الناخبون صعوبات استثنائية جدا، وكيف يعرض الناخب الذي يذهب للمراكز الانتخابية، حياته للخطر ونحن هنافي أمان لأن الحكومات الغربية، ومهما كانت لبراليتها، تتخذ إجراءات حازمة لحفظ الأمن، وتعاقب بمنتهى الشدة من يعتدون على حياة الآخرين. قلناها عشرات المرات مع غيرنا، أن هذه الانتخابات لن تبني بحد ذاتها الديمقراطية، لأن طريق الديمقراطية في العراق طويل جدا، ولكن مجرد وقوع الانتخابات هو بحد ذاته سيكون حدثا تاريخيا وضربة لقوى الإرهاب.

رجعت ومشاعري مختلطة في مزيج من القلق، والغضب، والأمل. ووجدت في الأخبار خبرا مفرحا عن إطلاق سراح القس الكبير. ولكن دم الشهيد الراضي يذكرنا بأن المجرمين في عراق اليوم هم في أمان!