لم أكتب في هذه العجالة مقالاً أو بحثاً، بل كلمة أنقل عبرها مشهداً شاهدته وعشته اليوم (29 يناير 2005)، وأنا أرمي بورقة الانتخاب العراقية أول مرة في حياتي في صندوق الاقتراع، وهي لحظة هستيرية سالت فيها دموع الفرح بلا نحيب. في هذه اللحظات سمعت أصواتاً غاضبة وعبارات احتجاج قوية ضد "شيء ما". أسرعت برمي ورقة الانتخاب لأرى ما حدث. لم اشاهد غير انسحاب طاقم قناة الجزيرة من القاعة تطاردهم لعنات العراقيين من كل الأعمار. لا أخفي فرحتي بعاطفة العراقيين ودفاعهم عن يوم فرحهم، فقناة مثل الجزيرة ربما ستفسده عليهم، أو تذكرهم بصدى فتاوى القتل وأشباح الملثمين وهم يتخذون من شاشتها مسرحاً إعلامياً.
والقصة وما فيها، أن طاقم الجزيرة حضر لتغطية عملية الانتخاب بمركز ويمبلي شمال غرب لندن، فما أن شاهد العراقيون، من الناخبين وموظفي الدائرة، علامة الجزيرة على الكامرات ولاقطات الصوت حتى انتفضوا ضدها، وطالبوا باخراجها من المبنى. وقيل تكرر هذا المشهد بهولندا.
فهل ستعيد قناة الجزيرة حساباتها في دعم الإرهاب وما تسميه بالمقاومة العراقية بعد ما حصل لطاقمها في قاعة الانتخابات بلندن؟ تحاول قناة الجزيرة وكل وسائل الإعلام الساندة للإرهاب تقديم نفسها أنها تنقل الحقيقة، وحاجة العراقيين اليوم للحقيقة أكثر من أي وقت آخر، لكن هل المتاجرة بعمليات الذبح من من مهام الأمانة الإعلامية؟
وهل بث فتاوى القتل ضد العراقيين من مهام الأمانة الإعلامية؟ كانت العاطفة التي شحنت بها الجزيرة العراقيين من الكراهية أن يتظاهر الشباب العراقي ضدها، ولا يسمحون لها في التقاط صورهم. بدأت الانتفاضة ضد الجزيرة بكلمة عراقي "ماذا تعمل هنا قناة الإرهاب". سمعها الآخرون فأخذوا ينددون ويصفقون لاخراجها، حاول المسؤولون تهدئة الموقف لكنهم لم يتمكنوا.
الانتفاض ضد قناة الجزيرة لم يأت هذه المرة بقرار من الحكومة العراقية، ولا من حزب من أحزاب العراق، بل كان موقفاً عفوياً، أشترك فيه الشباب والشيوخ والنساء. وهذا الاحتجاج العام هو الذي دفع بالحكومة العراقية إلى طرد القناة من بغداد. فالاعترافات التي أدلى بها الإرهابيون العرب تؤكد تورط قناة الجزيرة في حشد الموت ضد العراقيين. بداية من تصوير عمليات الذبح والاغتيال والتفجير والاختطاف.
بات العراقيون بممارستهم هذه يميزون بين العدو المتربص والصديق المشفق، فالإيذاء الذي يبث من على شاشة الجزيرة لا يفسر بغير العداوة الكامنة، وإلا ما معنى أن تجمع القناة أطفالاً بسامراء وتوزع عليهم صور صدام حسين في يوم التحقيق معه، وتظهرهم كمؤيدين له؟ وما معنى حرصها على بث تهديدات الزرقاوي ورسائله، وبثها لفتاوى القتل ومنها فتاوى شيخها يوسف القرضاوي؟
لم تبق هذه القناة حيلة إلا واستفزت بها العراقيين، حتى شخصت منذ اليوم الأول لسقوط نظام البعث أنها عدوة إعلامية، لا يحبذ العراقيون التعامل معها، بل شخصوها بقناة الإرهاب؟
فهل جن جنون العراقيين أن يجمعوا على كراهة قناة إعلامية، وهم يشاهدون يومياً عشرات القنوات الفضائية؟ إذاً لماذا الجزيرة إذا لم تكن قد مستهم بإيذاء متعمد، وسببت لهم المهالك، وعرضت لحومهم وعظامهم لذئاب الإرهاب؟
يبدو موقف الجزيرة، حسب معطيات وثائقية شاهدناه من على قنوات أخرى وقرأناها في صحف عربية وعراقية، هو إمتداد لعلاقات قديمة مع النظام البعثي. فكانت تتوجه بتوجيهات عدي صدام حسين، وهذا ما سمعناه وشاهدناه بصوته وصورته، وقد وعده مديرها السابق بالمزيد والتقيد بالتعليمات.
انتفض العراقيون على مراسلي الجزيرة حفظاً لفرحتهم، لأنها لا توصل إليهم غير أخبار القتل والتدمير، وكأن ليس بالعراق غير البعثيين والسلفيين. أتذكر جيداً مشهداً قدمته الجزيرة لامرأة نائحة باكية تخدش خديها في أطراف الفلوجة، تظهر المرأة نفسها في قناة العربية بعد سويعات باسمة الوجه تلبسُ حليها وثيابهها الأنيقة وتركب سيارة العائلة. فكيف اختلف الموقف بين الكامرتين؟
عموماً، لتتوقع الجزيرة من العراقيين ردة فعل أكبر وأشد، تساوي فعل الحث على قتلهم وعرقلة بناء وطنهم. لقد طردوا الجزيرة لأنها، حسب تجربتهم معها، لا شأن لها بأفراحهم، بل تعودوا يرون مشاهد الدماء ومشاهد الملثمين من على شاشتها. لقد تخصصت هذه القناة بالإثارة وخلق العنف، سواء كان في أخبارها أو برامجها. لكن لتتأكد أن العراقيين سيفرزون أصوات الانتخاب بعدالة، لا على طريقة تصويت برنامجها "الاتجاه المعاكس".
على الحكومة العراقية الموقتة أوالمنتخبة، حرصاً على مشاعر العراقيين ضد أصوات الكراهية والؤم، أن تبقي قرارها المانع لوسائل الإيذاء الإعلامية ساري المفعول.