فوّهة سيّد فاخر:
في سنتي الأخيرة بجامعة البصرة عام 1982 صادف أن اشتركَ معي في حصّة البلاغة، التي كان يدرّسنا فيها المرحوم د. خليل العطية، تلميذٌ من المرحلة الثانية لا تفارقه مسبحته طوال الدرس إسمه فاخر الياسريّ، أما نحن فكنا نسمّيه "سيّد فاخر" تحبباً واحتراماً، وسيد فاخر لمن لا يعرفه من طبقة "السادة" في العراق المنتسبين الى سلالة النبيّ، وهم قوم معروفون بدماثة الخلق وطيب المعشر، إضافة الى تبحّر خواصّهم بالعربية والتراث، وسيد فاخر من هؤلاء الخاصّة، فكان مرجعاً حيّاً لنا وللأساتذة في إشكالات اللغة والصرف والعروض، إلاّ أنه كان كثيراً ما يشكو لي من أن تبحّره بالعربية قد صار وبالاً نفسياً عليه وأنه يخشى على نفسه من أن يُصاب بداء "القُلاب"، والقُلاب حسب تفسير السيد فاخر مرضٌ يصيب النحويين بشكل خاص، فيحدث لهم ما يحدث لمن يُنكأ جرحه، ويحسّ المصاب به بألمٍ على صورة "نغزة" في القلب مع كلّ خطأ لغويّ تبصره عيناه أو لحنٍ في الكلام تسمعه أذناه. كان أوّل مالفت نظري عبوس السيد فاخر كلّ مرّة يقول لنا د. خليل العطية قبيل إنتهاء وقت الدرس:"أعطيكم الآن فُرصة"، ويقصد الإستراحة التي تلي الدرس، فكان السيد فاخر يمسك بمسبحته بشكل يجعلها تنتصب متشنجة ويدير وجهه بإتجاه النافذة عابساً كعلامةٍ لعدم الرضى، وحين سألته عن سرّ ذلك قال:(المفروض به ألاّ يقول لنا ذلك، خصوصاً وأنّ بيننا بنات، لأنّ "الفرصة" بالفتح والجرّ والكسر، هي الخرقة التي تمسح المرأة بها فرْجَها أثناء الحيض، والمفروض يقول:"فُسحة"!). وهكذا بدأت صحبتي مع السيد فاخر فكانت لغوياته مادة لا تنضب للتندّر وكثيراً ما كادت تلك اللغويات أن تتسبب بمشاكل لنا معاً حين أسرّ لي بعد درس "الثقافة القومية" الإجباري الذي تدرّس فيه أفكار ميشيل عفلق، بأنّ "العفلق" في اللغة هو "الفرْج الواسع" على ذمّة الفيروزآباديّ، فكان من الصعب عليّ أن أكتم قهقهة قد تودي بي حين يتطلع إليّ السيد فاخر بنظرة ذات مغزى كلما ذُكِر إسم "عفلق" في الدرس وتخيّلتُ فمه الواسع الشبيه بالفرْج.
كانت الحرب في تلك السنة على أوجها بين إيران والعراق، وفيها إستدعيَ طلاب المراحل غير المنتهية للتدريب في الجيش الشعبي. أما نحن، أصحاب المراحل المنتهية، فقد تمّ غضّ النظر عنّا على أعتبار أننا ذاهبون للجبهة قريباً. شاء حظّ، أو سوء حظّ سيد فاخر أن يكون فصيله تحت أمرة أحد المرتزقة الفلسطينيين الذين كان يعجّ بهم العراق كالطفيليات آنذاك، وكان هذا الضابط مهووساً بتزحيف الطلاب في الأوحال أو جعلهم يتدحرجون على الأشواك، وكأنّ الحرب كانت تدور مع الزاوحف. فكان سيد فاخر يأتي مباشرة من التدريب الى حصّة الدرس، ببذلته الكاكية الملوثة بالطين والتراب، أشعث الشعر وذراعاه مليئتان بالخدوش، صامتاً ولا يطيق الكلام. مرّ يومان وهو على هذه الحال حتى تجرأتُ فسألته:(كيف حالكم مع هذا الضابط، سمعتُ أنه يؤذيكم جداً؟)، فهبّ سيد فاخر من مقعده كمن لسعته أفعى وهتف بي:(يا أخي دمّرني هذا الضابط، كل ساعة يقول "فَوْهة البندقيّة"، والمفروض يقول "فُوّهة"، بتشديد الواو!!)، حينها عرفتُ أنّ صاحبي قد خرج عن صوابه فعلاً وأصابه القُلاب..

الوسواس الخنّاس:
عانى الدكتور علي الوردي كثيراً ممن أصيبوا بهذا الداء، وكان يسمّيهم "المتحذلقون"، ورغم أنهم لم يكونوا بعلم السيد فاخر ولا تبحّره، فقد كانوا يترصدون أغلاط الورديّ النحوية لتسفيه أفكاره الكبيرة. ويشبّه الدكتور الوردي تلك الحالة بالعقدة النفسية أو "الوسواس" الذي يدفع المصابين به لتركيز عنايتهم على تتبع الحركات الإعرابية للمتكلم أو الكاتب، وليس على ما يقوله أو يكتبه، عسى أن يعثروا فيه على لحنٍ، ليهزّوا رؤوسهم آسفين كأنّ الكلام لا يحتوي إلاّ على الفتح والضمّ والكسر والسكون! فالنحو، أضحى عند العرب، عنوان الثقافة وليس عرَضَاً لها، لذلك فالعربيّ حين يخطب، تأخذ عقدة النحو بخناقه وتجعله يتلجلج في الكلام، فيركّز على نهايات الحروف وإعرابها أكثر مما يركّز جهده الذهنيّ على سلسلة الأفكار وتناغمها، حتى تشعر بأنك، حين تستمع إليه، أنه يقصد الحذلقة والتنطّع في كلامه وليس التفهيم والإيضاح.
ولتحليل هذه الظاهرة يأخذ الدكتور الوردي بفرضية أحد علماء الإجتماع البريطانيين التي تقول بأن "الإعراب هو تصوير لعقليةٍ بدائية ساذجة، وكلّما تقدّم الانسان في حضارته استغنى عن الإعراب في لغته، فتخلّص اللغات الحديثة من ظاهرة الإعراب يشبه الى حدّ بعيد إكتشاف الحروف الهجائية، فكما أنّ استعمال الحروف الهجائية نابَ عن الطريقة الصوتية، فكذلك تنوب المرونة في تركيب الجملة من الإعراب".
ويحيل الوردي أسباب هذه الظاهرة الى ثقافة "التشاعر" التي انهمك فيها العرب ـ وما يزالون ـ إنهماكاً عجيباً، فهم كانوا أقلّ الناس استعمالاً للكتابة وأكثرهم اندفاعاً في الحماس والعاطفة، ولذلك فإن الشعر قد مثّل نتيجةً سيكلوجية لإنفلات العربان العاطفيّ وتطليقهم للعقل. فالشاعر الجاهليّ، بفعل عاطفته الجيّاشة، لا يستطيع أن يحتفظ بنظام ثابت في الجملة، لأنّ الضرورة الشعرية والعاطفية تدفعانه للتلاعب بهذا النظام، فهو قد يأتي بالمفعول به في أوّل البيت ويأتي بالفاعل في آخره، ثم يحشر ما بينهما من كلمات. ولذلك فإن الشاعر سيكون مضطرّاً الى استعمال الحركات الإعرابية ليفرّق بها ما بين الفاعل والمفعول والمفعول به، فبدونها يلتبس المعنى على السامع ويضيع القصد. ومن الأمثلة على واحدة من تلك الإشكالات العويصة في العربية هي قضية "المُنادى"، فالمُنادى مثلاً يجب أن يُبنى على ما يُرفع به إذا كان نكرةً مقصودة، أو يُنصب إذا كان نكرةً غير مقصودة. فالذي يُنادي، عليه أن يعرف التمييز بين النكرة المقصودة وغير المقصودة قبل أن ينادي، وإلاّ فأن نداءه سيكون ملحوناً. وهذا الأمر لا فائدة فيه ولا نفع، فلن يمتنع أحد من الإستجابه لندائك إذا وجد فيه خطأً لغوياًً، فبرأي الورديّ حتى الحمار كثيراً ما يسمع النداء ويستجيب له.

أصل الإعراب:
يرجّح إبن خلدون في مقدمته فرضية نشوء النحو عند العرب وتركيب قواعده الى مفارقة العرب للحجاز طلباً للمُلك الذي كان في أيدي الأمم والدول التي غزوها، فتغيّرت مَلكتهم اللغوية وفسدت سليقتهم، فخشي أهلُ العلوم منهم أن يطول العهد بهذا الإفساد فينغلق عليهم فهمُ القرآن والحديث "فاستنبطوا من مجاري كلامهم قوانين لتلك المَلكة واصطلحوا على تسميته إعراباً".
ويقال أن أبا الأسود الدؤلي هو الذي وضع أسس النحو، رغم أن الشيعة ينسبونه لعلي بن أبي طالب، فقد كان الدؤلي معلماً لأولاد زياد بن أبيه الذي كان متزوجاً من جارية فارسية مجوسية إسمها "مرجانة" حين كان والياً على البصرة آنذاك، فكان أولادها يلحنون لحناً مستهجنا،ً حتى أشار عليه معاوية أن يقوّم ألسنتهم فاستعان بأبي الاسود الدؤلي. فقام الدؤلي بوضع أولى الحركات الأعرابية على أواخر كلمات القرآن (الفتحة والضمة والكسرة)، لكنها لم تك مثلما نعرفها اليوم، بل كانت عبارة عن نقاط توضع فوق الحروف، ويقال أنه أمرَ أحذق تلاميذه أن يأتيه بمداد أحمر وقال له:" إذا رأيتني فتحتُ فمي فانقطْ نقطةً فوق الحرف، وإنْ ضممتُ فمي فانقطْ وسطَ الحرف، وإن كسرتُ فاجعل النقطة تحت"، فأصل الحركات إذن، هي "الفتح" عند فتح الشفتين، و"الضمّ" عند ضمّ الشفتين على شكل دائرة، و"الكسر" أصله كسر الشفة السفلى الى الأسفل. ومع أن أبناء زياد قد تعلما الأعراب على يد الدؤلي فقد بقيت في ألسنتهم لكنة فارسية مستحكمة، ويقال أن إبنه "عُبيد الله بن زياد" كان يقول للحروريّ "هروريّ"، ولقد ظلّ الخميني في العراق 15 عاماً يلفظ الحاءُ هاءاً في "بسم الرحمن الرحيم"، فعوّضها بقولهِ "بسمهِ تعالى" لتفادي الحاءات وما زال بعضُ أصحابنا يقلّدونه فيها لتحذلقٍ أو لقلّة دراية.

لزوم ما لا يلزم:
إذن، فالنحو الذي نعرفه اليوم وضع أصلاً لتوضيح القرآن، فالقرآن، باعتباره الكتاب الأوّل عند العرب، كان أصلاً لكل العلوم اللغوية والفكرية والأدبية التي انبثقت فيما بعد، فلأجله وضعت البلاغة والنحو والصرف والتفسير وعلوم التنزيل والكلام والناسخ والمنسوخ ..الخ. ومع ذلك ظلّ القرآن عصيّاً على تلك القوالب التي وضعها النحاة له، فقد وردت في العديد من السور صياغات لا تلتزم بنحو الأعراب ولا بإعراب النحاة، ومنها ما يلي :
ـ رفع إسم "إنّ" كما في سورة التوبة (إنّ "هذان" لساحران)، والمفروض: إنّ هذين لساحران. وكذلك في سورة المائدة (إنّ الذين آمنوا والذي هادوا و"الصابئون" والنصارى)، والمفروض: والصابئين.
ـ نصب الفاعل كما في سورة البقرة (قال لا ينال عهدي "الظالمين")، والمفروض: الظالمون.
ـ نصب المعطوف على المرفوع كما في سورة النساء (والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك، و"المقيمين" الصلاة، والمؤتون الزكاة)، والمفروض: والمقيمون الصلاة. ومثلها في سورة البقرة (والموفون بعهدهم إذا عاهدوا، و"الصابرين" في البأساءِ)، والمفروض: والصابرون في البأساء.
ـ جزم الفعل المعطوف على المنصوب كما في سورة المنافقين (ربّ لولا أخّرتني الى أجلٍ قريب فأصدّقَ "وأكنْ" من الصالحين)، والصواب: وأكونُ من الصالحين.
ـ تذكير خبر الإسم المؤنّث كما في سورة الأعراف (إنّ رحمةَ الله "قريبٌ" من المحسنين)، والمفروض: قريبة.
ـ إحلال إسم الجمع محلّ المثنّى، كما في سورة المائدة (والسارق والسارقة فاقطعوا "أيديهما")، والمفروض: يديهما. ومثله في سورة التحريم (إنْ تتوبا الى الله فقد صغتْ "قلوبكما")، ويعني: قلباكما، حيث أن الخطاب هنا موجّه لزوجتي النبيّ حفصة وعائشة.
ـ جمع الضمير العائد على المثنّى كما في سورة الحج (هذان خصمان "اختصموا" في "ربهم|)، والصحيح: اختصما في ربّهما.
ـ نصب المضاف إليه الذي يستوجب الجرّ كما في سورة هود (ولئن أذقناهُ نعماءَ بعد ضرّاءَ)، والصحيح: بعد ضرّاءِ.
ـ وضع جمع الكثرة محلّ جمع القلّة كما في سورة البقرة (لن تمسسنا النارُ إلا أياماً "معدودة")، وكان يجب أن تكون "أياماً معدوادات"، لأنها جمع قلّة. وعكسها جاء في السورة ذاتها، فقد جيء بجمع القلّة حيث أُريد الكثرة، كما في قوله (كُتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياماً "معدودات")، ومن المفترض أن يقال "أياماً معدودة"، لأنّ المراد هنا جمع كثرة عدته 30 يوماً.
ـ تأنيث العدد وجمع المعدود كما في سورة الأعراف (وقطّعناهم إثنتي عشرة أسباطاً)، وصوابه: إثني عشر سبطاً.
ـ إحلال "لا النافية" بدلَ "لام القَسَم" في سورة البلد (لا أقسمُ بهذا البلد) وصحيحه: لأُقسمُ!، لأنّ استخدام "لا" النافية تستوجب نفي القسم.
ـ وأحيانا يأتي القرآنُ بـ "لمّا" ولا يأتي بجوابها كقوله في سورة يوسف (فلمّا ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجبّ وأوحينا إليه لتنبئنّهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون).
ومثل ذلك كثير لمن أراد تتبع آيَ القرآن، ومرادنا هنا هو أنه إذا كان الكتاب الذي صيغت هذه القواعد من أجله، لا يحترمها ولا يلتزم بها، بل ويشتمل على كثير من المخالفات للقواعد التي جاء بها النحاة، فلِمَ نرغم أنفسنا على الإلتزام بها إذا أمِنّا اللبس واستقامة المعنى!؟ فحتى اللغويّ الأندلسيّ محمد بن مالك (ت 1274 م) صاحب الألفية الشهيرة المعروفة بإسم "ألفية إبن مالك" يبيح في أرجوزته نصبَ الفاعل ورفعَ المفعول به في قوله:
ورفعُ مفعولٍ به، لا يلتبسْونصبُ فاعلٍ، أجزْ ولا تقسْ
أي أنه يجوّز لنا رفعَ المفعول به ونصبَ الفاعل في حال أن يأمنَ الكاتبُ أو القائلُ الإلتباسَ في المعنى وسوء الفهم، وقس على ذلك في طريقتنا لكتابة الهمزة والتفريق بين الضاد والظاء.

خاتمة مع الماغوط:
في مسرحية "المهرج " لمحمد الماغوط، يحتجّ أحد المدرسين على ممثلٍ قال "طالما الموضوع معلقاً بيننا"، على اعتبار أنّ "طالما" لا تدخل على الإسم، وحين يسأله الممثل "وإذا دخلتْ، ماذا يحدث!؟"، فيردّ عليه المدرس "تنهار قواعد اللغة"، حينها يهجم عليه الممثل ويصيح به "الى جهنم وبئس المصير! وهل هي قواعد صواريخ!؟، هناك أناس يدخلون السجون والمستشفيات كلّ يوم وكلّ دقيقة، فهل تهتزّ منك شعرة؟ طبعاً لن تهتزّ. أمّا من أجل إدخال كلمةٍ على كلمة تقيم الدنيا وتقعدها. أيها المحنّط..أيها المومياء!".
حمانا الله وإيّاكم من التحنيط والتمأمؤ وداء القُلاب...

جامعة كوبنهاغن ـ قسم اللغات الساميّة
[email protected]