ماذا يعني اعادة تكليف السيد عمركرامي اعادة تشكيل حكومة لبنانية ساقطة سلفاً؟
قبل كل شيء، لا بد من الاشارة الى ان كرامي الذي ادرك منذ اللحظة الاولى معنى مقتل رفيق الحريري في وقت يتولى فيه شخصيا موقع رئيس مجلس الوزراء، حاول منذ البداية تقديم استقالته. لكنه ما لبث ان تراجع عن هذا الموقف تحت الضغط السوري نظرا الى ان حكومته كانت تشكل الخط الاول في الدفاع عن سياسة دمشق في لبنان.
اذاً، بدل ان يستقيل كرامي بعيد وقوع الجريمة في 14 شباط ـ فبراير الماضي، ارجأ الرجل الذي يتمتع بحد ادنى من الحس الوطني قراره اسبوعين. وكان ان سقطت حكومته في مجلس النواب تحت ضغط المعارضة من جهة والشارع اللبناني من جهة اخرى. حصل ذلك في 28 شباط ـ فبراير الماضي في جلسة تاريخية لمجلس النواب وفي وقت كان اللبنانيون من كل الطوائف والمذاهب والمناطق يطالبون بكشف الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة في شأن كل ما له علاقة باغتيال الرجل الذي اعاد بناء بيروت واعاد لبنان الى خريطة المنطقة والعالم في محاولة واضحة لتمكين البلد من استعادة استقلاله وسيادته وتكريس عروبته.
لم تكن جلسة اسقاط حكومة كرامي تاريخية بالمقاييس اللبنانية فحسب، بل في المقاييس الاقليمية ايضا. تبين ان هناك معارضة لبنانية قادرة على اسماع صوتها وقول كلمتها، معارضة ترفض ان تكون الجريمة التي ارتكبت مجرد حادث عابر، انها معارضة تمثل الشعب اللبناني كله وتريد في الوقت ذاته ان يكون استشهاد رفيق الحريري خطوة على طريق تأكيد ان المبادئ التي آمن بها الفقيد هي مبادئ يؤمن بها كل لبناني.
لهذا السبب، اي من اجل ان يكون اغتيال رفيق الحريري مجرد حادث عابر، نظمت السلطات السورية بواسطة "حزب الله" تظاهرة مضادة في بيروت. لم يتجرأ منظمو التظاهرة رفع علم آخر غير العلم اللبناني، لكن الواضح ان المطلوب كان تجييش اعداد كبيرة في تظاهرة "حزب الله" للقول ان هناك شرخا في البلد وان هناك طائفة كبيرة بأمها وابيها تؤيد السياسة السورية في لبنان، علما ان كل من واكب تظاهرات المعارضة واعتصاماتها عن كثب يدرك ان المشاركة الشيعية كانت لا بأس بها وان الذين كانوا في شوارع بيروت، كانوا من السنة والشيعة والدروز والمسيحيين وان هؤلاء نزلوا الى الشارع بعفوية من دون ان يدفعهم احد الى ذلك.
هذا الواقع يفرض على الرئيس عمر كرامي اعادة النظر في حساباته، وذلك من منطلق انه يعرف قبل غيره ان الاكثرية التي يتحدث عنها انطلاقا من تظاهرة "حزب الله" ليست اكثرية حقيقية، لا لشيء سوى لانها تتذرع بالمحافظة على سلاح المقاومة لخدمة قضية واحدة هي تجاوز جريمة اغتيال رفيق الحريري واعادة تشكيل حكومة تتصدى للشرعية الدولية المتمثلة بالقرار 1559 الذي لا يختلف في شيء عن اتفاق الطائف، فيما يجتمع الرئيسان السوري واللبناني ويقولان للعالم ان بلديهما مع الشرعية الدولية.
ما يستطيع رجل مثل عمر كرامي عمله هو الذهاب الى دمشق والقول لكل من يعنيه الامر ان منطق اللامنطق لا يمكن ان يستمر الى ما لا نهاية، وان هذا المنطق سيجر الخراب على لبنان، لكنه سيؤذي سورية ايضا، سورية التي تستطيع تدميرما بناه رفيق الحريري بواسطة "حزب الله" وغير "حزب الله" لكنها لن تستطيع البقاء في منأى عن الانعكاسات السلبية التي يمكن ان تترتب على اي تدهور في لبنان.
هل في استطاعة رجل مثل عمر كرامي الاقدام على مثل الخطوة التي تبدأ بالاعتراف بأن ليس في الامكان تغطية الجريمة وان على سورية تغيير سياستها في لبنان اذا كانت تريد بالفعل خدمة نفسها وخدمة جارها الصغير.
لا احد ينكر الخدمات التي قدمتها سورية للبنان، ولا احد ينكر ان سورية استفادت من لبنان كثيراً بما يفوق ما قدمته او ما لا يفوق ذلك. هذه صفحة من الماضي من الافضل تجاوزها لمصلحة مستقبل واعد للبلدين لا يذهب فيه دم رفيق الحريري هدرا. على الرئيس كرامي ان يطرح على نفسه سؤالاً في غاية البساطة: ما هي هذه الاكثرية التي تريد التصدي للقرار 1559 في لبنان فيما تعلن سورية انها ستتعامل معه بايجابية؟ بعض الشجاعة تبدو ضرورية هذه الايام من اجل الاعتراف بأن لعبة منطق اللامنطق لا يمكن ان تنطلي على العالم، بما في ذلك على الدول التي كانت الى ما قبل فترة قصيرة تدافع عن السياسة السورية وتسعى الى الحد من اضرارها على سورية نفسها. هل صدفة ان يخرج وزير الخارجية البريطاني جاك سترو الذي سعت بلاده الى افضل العلاقات مع دمشق عن تحفظه ويبدي عدم ارتياحه الى اعادة تكليف عمر كرامي تشكيل الحكومة اللبنانية؟ منذ متى تدخل بريطانيا في تفاصيل التفاصيل في ما يتعلق بالوضع اللبناني؟ أوليس ذلك سبباً كي يتوقف عمر كرامي عن مساعيه لتشكيل حكومة وان يفكر بطريقة اخرى من منطلق ان منطق اللامنطق لن يقود لبنان وحده الى الهاوية... وان لا مفر من كشف الحقيقة كل الحقيقة في شأن اغتيال رفيق الحريري؟