لقد افتقدناه بعد ان تجّلى رائعا وبكيناه مذ مات صامتا مغتربا..

" لقد كان العراق وسيبقى بيتا لعمالقة الشعر.. ". (جلال)

رحل عنّا قبل أيام الدكتور جلال أيوب صبري الخياط والذي كان يقيم في المملكة المتحدة منذ سنوات خلت اذ قضت عليه انتكاسة صحية مفاجئة لم تمهله طويلا. وقد دفن جثمانه في مقبرة (غرينفورد) غرب العاصمة لندن. وكنت قد سمعت برحيله مباشرة بواسطة عدد من الاصدقاء، بل وقام الاخ الدكتور ابراهيم العاتي عميد الدراسات العليا في الجامعة العالمية للعلوم الاسلامية بارسال تعزية لي بالمناسبة. كان هذا الراحل القدير من أبرز الكتاب والنقاد العراقيين المحدثين الذين ساهموا مساهمات جادة في اغناء الثقافة العربية المعاصرة بعديد من مؤلفاته العلمية واطروحاته في النقد الأدبي والتي ساهم بها على امتداد اكثر من ثلاثين سنة، لا سيما في الشعر الحديث، حيث كانت له اسهاماته الاكاديمية الرصينة المشهودة التي تجاوزت حقل التدريس والاشراف العلمي على رسائل الدراسات العليا الى التأليف والنشر وإعداد البحوث في العديد من الجامعات العربية والبريطانية.
عرفت جلال الخياط معرفة حقيقية باعتباره ابن مدينتي الموصل برغم فارق العمر بينه وبيني، وكانت لوالده الاديب والشاعر ايوب صبري الخياط عضو الندوة العمرية ابان الاربعينيات من القرن الماضي، سمعة في الاوساط الادبية المحلية، وطالما كان يذكره والدي والده بطيب الذكر رحمهما الله اذ كان أبوه الاديب المذكور من رواد مجلس والدي مساء كل يوم اثنين بالموصل برفقة مثقفين بارزين في مدينة الموصل الحدباء ام الربيعين، اذكر منهم: ذو النون الشهاب وعبد العزيز الخياط وعبد المجيد عبيد اغا وسامي باش عالم وحازم الصابونجي ومحمد علي السلمان وعبد القادر الشيخ اسماعيل وعبد المحسن عقراوي وسعيد الديوه جي وسالم جلميران وجرجيس سرسم ومحمد طاهر النقشبندي وبشير احمد السلمان وعبد الرزاق حديد ومحي الدين العشائري وعبد الوهاب الدباغ وعبد الباسط يونس وغيرهم..

سيرته ومسلسل حياته
ولد الدكتور جلال الخياط في مدينة الموصل في العام 1932 وابوه مدرّس وأديب معروف في الاوساط الثقافية الموصلية، وهو من آل الخياط المعروفين في المدينة.. وبعد انتقال عائلته الى العاصمة بغداد، دخل جلال دار المعلمين العالية (كلية التربية حاليا) التي تخرج فيها بامتياز في العام 1955 ليعّين مدرسا لمادة اللغة العربية وآدابها في الثانويات العراقية، ويعتبر اغلب خريجي تلك الدار العالية من ابرز المبدعين العراقيين في عقدي الاربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين اذ كان ابرز شعراء الحداثة العراقية واهم كتاب العراق المعروفين قد تخّرجوا في تلك الدار الرصينة. وفي عام 1961 منحت وزارة التربية هذا المدرس الشاب بعثة دراسية لنيل شهادة الدكتوراه في النقد الأدبي من جامعة كيمبرج البريطانية. فسافر اليها وهناك تتلمذ على أيدي كبار المستشرقين البريطانيين من أمثال: هوبكنز وسارجنت وآربري وغيرهم. وتعالج الأطروحة التي تقدّم بها لنيل الدكتوراه (مفهوم الحداثة في الشعر العراقي). وبعد عودته من كيمبرج، انضم جلال الى قسم اللغة العربية العريق في كلية الآداب بجامعة بغداد حيث شرع يدرس الأدب العربي الحديث والنقد الادبي الى جانب اعلام العراق من الاساتذة المرموقين في عالم اللغة والأدب، ومنهم الدكاترة: علي جواد الطاهر وابراهيم السامرائي ومهدي المخزومي وعناد غزوان ويوسف عز الدين وغيرهم كثير.

اصداراته واعماله:
اصدر جلال الخياط مجموعة متنوعة من الكتب النقدية والتحقيقات العلمية التي كان من ابرزها: الشعر العراقي الحر: مرحلة وتطور (1970)، والتكسّب بالشعر (1970)، والشعر والزمن (1975)، والمثال والتحّول في شعر المتنبي وحياته (1977)، والأصول الدرامية في الشعر العربي (1982)، واحمد الصافي النجفي: عالم حر (1987).. الى جانب العشرات من المقالات والبحوث التي نشرها في (الدوريات الأدبية التي تصدر في العالم العربي). وقد نشر اثناء اقامته في بريطانيا في السنوات الأخيرة عددا من المقالات النقدية في الصحف العربية منها: جريدة «الشرق الأوسط» واتسمّت بكونها مادة جادة في الأدب الحديث. وقد خلّف الرجل عددا من المخطوطات المكتوبة بخط يده والتي كان ينوي نشرها مستقبلا من بينها - كما حدّثني قبل اشهر - مسودة كتاب ضخم يعالج ظاهرة نادرة في تاريخ الشعر، وكان سيحمل عنوان «الجنون في الشعر»، وهو الذي يمثّل كما قال معتّزا به: ثمرة جهود مضنية بذلها على مدى سنوات طوال، ولكنه لم ينشره ويحقق امنياته. وبهذه المناسبة، اتمنى على أحد مقربّيه او طلبته ان يعتني عناية فائقة بهذا العمل من اجل ان يرى النور.

\جلال كما عرفته
لقد التقيت بالرجل في آخر لقاء معه في شهر اكتوبر الماضي 2004 اثناء زيارتي لندن وبعد سنوات طوال من لقاءات لي معه في بغداد واندهشت لاحواله اذ لا يمكن ان يعرفه حتى اصدقاءه لما كان قد اصابه من الوهن والمرض ولكنني لم اشعره بذلك ابدا، وقد جلسنا طويلا معا خصوصا وانه كان يقّدم بعض المحاضرات في الجامعة العالمية للعلوم الاسلامية في لندن والتي اشرف انا ايضا على بعض اطروحات الدراسات العليا فيها، وقد تبادلنا الحديث معا وكان فيه ذكريات مكان اصابنا فيه الشقاء فخرجنا منه اسوة بغيرنا من المثقفين العراقيين نحو عالم من نوع آخر ربما يكون ملاذا واكثر أمنا ولكنه قاسيا واكثر توحشّا.. وها قد مضت اربعينية من الايام على رحيل جلال الخياط لابد ان نذكر بعض ما في ذاكرتي عنه خصوصا واننا تحادثنا عن اغتراب المثقفين وهجرة العلماء والادباء من العراق، وانها ظاهرة غريبة النوع، وبالاخص عندما يموت اولئك الناس واحدا بعد الاخر في الشتات ويدفنون في غير ترابهم.. وها هو اجده كما كان جالسا ينظر في الفراغ وهو يعدّد اسماء العراقيين الذين لفهم تراب الشتات بكل قسوة !
ان رحيل جلال الخياط (ابو الليث)، الناقد العراقي المعروف لم يكن مفاجئا لي حسب، بل كان مفاجئا لكل الذين عرفوه وصادقوه او قرأوا مقالاته الطريفة التي كان ينشرها في لندن بعد خروجه من العراق اثناء الحكم السابق. وكانت الطريقة التي دفن فيها في لندن بعيدا عن اصدقائه الكثر تثير الالم كالعادة في اغتراب اللامعين العراقيين عن ترابهم حتى في موتهم، وهم كثر من شعراء وادباء وعلماء ونقاد.. ان كلّ من عرف جلال الخياط لم يزل يذكر جانبا من جوانبه اللامعة، فهو صاحب مجالسة غنية بالحكايات والطرائف والاشعار التي كان يحفظها على ظهر قلب، فهو موسوعة أدبية متنقلة وطبعا لا يمكن ان يعيش اي مبدع عراقي من دون خصوم، فهو يعرف لماذا يخاصمونه ولكنهم لا يعرفون لماذا يخاصمونه، فقط لشعورهم بالنقص ازائه ! وهذا ما رددّته على مسامعه، فقال: صدقت. ولكن ما الذي ابقاه جلال الخياط بعد ان رحل ؟

جلال والعراق
لقد ترك جلال في قلوب معارفه واصدقائه وطلبته ذكريات جميلة لا يمكنها ان تنمحي ابدا ! كان من اجمل عاداته انه يعيد قراءة الاشعار بجمالية مختلفة وبصوته الخفيض الذي يشكّل هرمونية صوتية جاذبة. كان مثقفا حقيقيا يقرأ كثيرا وله تفكير تقدمي لا يمكنه ان يتفق أبدا مع السائد من البلادة الجرباء والتقاليد العمياء وخصوصا اذا اتت من اناس يدّعون الثقافة وليسوا من الدهماء.. وكان جلال – كما عرفته - يعمل بدأب ونشاط على الرغم من الصعاب التي واجهها في سنواته الاخيرة في لندن، كان منذ نشأته يتميز بصبر واناة في معالجة الامور. كان يشعر بالاضطهاد دوما عندما كان يعيش في العراق اذ يرى بأن امكاناته تستحق اعترافا كبيرا خصوصا وانه قد انتج عشرات الكتب والدراسات الرصينة وهذا النوع من البشر يتألم بصمت قاتل من دون ان يعرب عن خفاياه الا للمقربين منه.. وهو يدرك – كما اعتقد – بأن المبدعين العراقيين كانوا محاربين دوما.. لكنه كان انسانا حساسا تعتمل عاطفته الى ابلغ الحدود وله عنفوانه الداخلي الذي باستطاعته ان يكبت اضطهاده في اعماقه !
كان رجلا مليئا بالاسرار ولا يريد ان يبوح بها أو ان يطلع احدا عليها، اذ تميز بأنه كان كتوما، ولا يريد الافصاح عما يريد. لقد هجر العراق الى بريطانيا لأنه لم يعد – كما قال لي – ان يتقبل الاختناق على مهل ليس لأن راتبه لم يعد يكفيه وليست له القدرة كمثقف عالي المستوى ان يمد يده الى احد وهو عزيز القوم وقد ترّدى الوضع الاكاديمي في العراق وقت ذاك، لكنه لم يعد يطيق تحّمل اوزار العهد السابق بعد خنق الحريات والاستهانة بالمثقفين وتهميش الاكاديميين، ولم يعد يتّقبل المشاركة في تخريج علماء مزّورين لهم ارتباطاتهم بالسلطة او بالحزب وما اكثر اولئك الذين منحوا درجات علمية عالية في الجامعات العراقية وقد نالوا المراتب العلمية زيفا وبهتانا بسبب ارتباطاتهم السياسية ومواقعهم ورتبهم الحزبية في حزب السلطة ! وكان يفّكر دوما بمستقبل ولده الوحيد في العراق. كان يريد ان يرجع الى العراق ليرى عائلته الصغيرة التي تركها وكان المرض قد اخذ يمتد في جسمه المنهك وهو ينتقل من مستشفى الى آخر. كان يرى ان الجنون قد ضرب اطنابه في كل مرفق من مرافق الحياة العراقية !

جلال الانسان: تراجيدية مثقف
لقد كان جلال انسانا يدرك قيمة الكلمة، وهو منفتح علي الثقافات الانسانية.. وله حسه الانساني الجميل، وله تمسكه بالأمل العريض، وقد جعله اعتزازه بنفسه جعله يقيم حول نفسه سياجا لا يسمح لاحد بالاقتراب منه الا بحدود، وكان يحمل في وحدته الصعبة تاريخه الطويل كله منذ ولادته وحتى دراسته وفعالياته وانشطته وكتبه ودراساته النقدية.. عاش اعوامه الخمسة الاخيرة في لندن صامتا كابي الهول لا يلوذ الا بكتاباته، ولم يعلن عن آلامه ومرضه وعذاباته كان يكظمها في اعماقه علما بأن كل من يراه يدرك بأن الرجل على ابواب الرحيل.. ومما زاد في تراجيدية جلال انه مات صامتا مغتربا.. مات وحيدا بعد معاناة غريبة جدا.. مات والقلم بين اصبعيه من دون ان نسمع بتأوهاته ولا بضجره ولا بأي بكائية او نواح او عويل.. مات وكان صادقا حتى النهاية مع نفسه.. مات لوحده في عزلته وهو يرتل شعرا ساخرا من هذه الحياة البليدة التي لا تعرف كيف تعدل بين الخلق جميعا ! مات وهو يعشق العراق الذي كان في الماضي لا العراق الذي تحّطم حجرا فوق حجر وكانت هويته عراقية لا يلتفت الى انتماء محلي ضئيل ولا الى تقسيم طائفي سقيم، ولا الى تخّلف بعض التقاليد العقيمة.
وقد تحدث الراحل جلال عن ضياع حقوقه الكثيرة جراء الكتب التي نشرها، وقصص من ضاعت حقوقهم وكتبهم في دور النشر كثيرة. لقد ذكرني رحيله بكل صورته الهادئة وباحاسيسه المرهفة وكم كان يستكشف تجليات الرحلة، وغربة العراقي وحزنه ! ويبدو ان قدر العراقي في العصر الجديد، ايا كانت اوصافه ان يموت غريبا، مات جلال مثل كثير من المثقفين العراقيين بعيدا عن ترابه وبيته وحلمه، كان يأمل ان يعود الى بغداد ليرى من يحب.. ولكنه بقي هناك في مقبرة غرينفورد الجميلة وحيدا غريبا وسوف لن يزوره احد كبقية جيرانه من الموتى الذين يتحفهم محبيهم كل اسبوع بباقات الزهور !! ستنمو فوق قبره اعشاب وطحالب خضراء تعلن للزائرين انها قد أتت من وادي الرافدين.. ولتغدو غريفورد محطة ازلية واخيرة له، في رحلة مثيرة بين التعب والشوق، بين الروح الشعرية التي استعصت علي العذاب، وهناك اشباه كثيرة لغربة المثقف المتوّحد، في حياته وموته، خاصة اولئك الشعراء الذين كتب عنهم جلال الخياط: المتنبي في سفرياته الموحشة وقتله غدرا في اعماق الصحراء، والشاعر عبد المحسن الكاظمي الذي مات في القاهرة مهاجرا منذ عهد بعيد، او احمد الصافي النجفي في غربته البيروتية، والسياب العائد وحيدا من الكويت ومتلبسا غربته الاخيرة في البصرة، او الجواهري في عشق براغ الجميلة، او البياتي في اضطجاعه عند ضريح ابن عربي بدمشق او بلند الحيدري الذي وجد ملاذه عند النهاية في لندن او نازك الملائكة التي لم تزل تطل على النيل في القاهرة كل صباح تنتظر يوما بعيدا سيأتي، او لميعة عباس عماره التي لم تزل تعشق فوضى الالوان في الطرف الاخر من الاطلنطي، او اللغوي ابراهيم السامرائي الذي انتهى كئيبا في اليمن بعد عذاب في الاردن، او الشاعر جان دمو الذي مات صعلوكا مشرّدا في شوارع استراليا، او العلامة علي الوردي الذي مات مع آلامه المبرحة في الاردن. وهناك الكثير ممن لا يحصى عددهم من المبدعين العراقيين الذين كانت نهاياتهم بعيدة عن ترابهم.. ولفّتهم محطات ليس لهم معها اية صلات !

وأخيرا.. انها رحلة مؤلمة
ان رحلة جلال مؤلمة حقا لكل من عرفه وعرف ما يمتلكه الرجل من رهفة ومشاعر وعواطف ربما لم يكن يعلنها على الملأ، ولكنه رحيل غريب بلا اسئلة او وداع حقيقي، وسنكتفي بكتابة مرثية عنه كي تقرأها الاجيال القادمة لتحتفي بذكراه يوم ودّع كل العراق، فماذا قال عنه من رثاه ؟
" اما هو فسيحيا غربته الجديدة
غريب بأرض..
سيبكي عليه منبر وسرير
وفي حالته،
سيبكيه القلم والشعر الذي تذوقه
رحمه الله "
هكذا هو جلال الخياط كما قال احد الذين رثوه.

[email protected]