يشكل ما ابدته أغلب القوى السياسية والمدنية من وقوف صلب وراء تطوير عملية التغيير السياسي لعراق ما بعد نظام الاستبداد تحولا نوعيا في تاريخ في هذه البلاد. فللمرة الاولى يرى الناس كيف أجتمع بسلام معا الاسلاميون والاكراد والقوميون العرب والشيوعيون وشيوخ العشائر وقادة الاقليات القومية واللغوية فضلا على اللبراليين. وللمرة الاولى سمع الناس كيف ان هؤلاء جميعا ما برحوا يعلنون- منذ سقوط نظام الشمولية الطائفية حتى اعلان نتائج الانتخابات- عن رغبتهم جميعا في التوحد حول عراق جديد، تعدديا وشفافا وقانونيا.
هكذا تكلم ابراهيم الجعفري وعبد العزيز الحكيم وبرهم صالح واياد علاوي وهوشيار زيباري وغازي الياور واحمد الجلبي وحميد مجيد ومحسن عبد الحميد. وهكذا اعلن حسين الشهرستاني وهناء ادور وتوفيق الياسري ومشعان الجبوري واياد جمال الدين والقادة التركمان والفيلية واليزيدين والصابئة والشبك.
ليس من المبالغة اعتبار هذا الالتزام السياسي المتين الذي رفع وحدة الهدف الاكبر الى مصاف النجمة الهادية واحدا من بضعة تحولات فادحة الاهمية نشأت في عراق ما بعد الطغيان. سلوك يدعو للفخار، حقا. بيد ان هذا التوحد في الهدف المعلن يتعرض الان الى اقسى الاختبارات ارتباطا بتشكيل الحكومة الانتقالية وكتابة القانون الاساسي الذي ستحكم بموجبه البلاد.
فمن امثلة هذه الاختبارات التي تتعلق بشكل العملية السياسية ثمة: انسيابية تشكيل الحكومة على امتن ما يمكن من الاجماع الوطني؛ زج اوسع مايمكن من القوى السياسية والمدنية في عملية كتابة الدستور؛ خلق اوسع مايمكن من الاجماع الشعبي على الدستور الجديد وتحفيز اكبر مايمكن من الطبقات والفئات الاجتماعية للمشاركة في انتاج العراق الجديد ودستوره.
ومن التحديات الكبرى التي تتعلق بمضمون العملية السياسية ولحظاتها الاستراتيجية هناك: الموقف من ضمان الحريات المدنية والحقوق السياسية للمواطنين ومدى تعارض الدين معها في حال اعتباره مصدرا وحيدا للتشريع؛ الموقف الملموس من توزيع الصلاحيات والسلطات والموارد الخاصة بالنظام الاتحادي (الفدرالي) بين المركز والمناطق الاخرى في حال قيامه على اساس قومي جغرافي؛ الموقف من كركوك وفيما اذا كانت مدينة عربية او كردية؛ الموقف من الحكومة الاسلامية اذا باتت خيارا حاسما لدى فصائل اسلامية معينة، حتى وان كان في الكمون.
وفضلا على هذه التحديات فان تلك النجمة الهادية يمكن ان تتضبب رؤياها بعنف وقد تختفي بفعل هزات التكتيك او شطحات الخطاب السياسي. يدرك الناس ان جل سياسات التكتيك السياسي يكمن وراها سعي لتعظيم المصالح الفئوية او القومية او المذهبية او ما شاكل على حساب مصلحة مستقبل العراق تعدديا وحرا واتحاديا.
لعل بعض القادة الاكراد في طريقهم الى ان يتميزوا في خلق هذه الهزات. ويأمل كثيرون ان ياتي يوم احسن من الامس ولا تظهر فيه هذه الهزات. يقول زعيم كردي بارز، مثلا "الحقيقة أن في العراق أمتين مختلفتين؛ عربا وأكرادا. وإذا قبل الأكراد بالبقاء ضمن إطار العراق بهذا الشكل الفيدرالي أو ذاك فإن الشعب الآخر يجب أن يكون ممتنا لهم". تلك هزات لامعنى لها. وهو خطاب لا يترك ( في احسن الاحوال) إلا المرارة في القلب ووخز الاسى. ويمكن ان تستتبع هذه الهزات (في اسوأ الاحوال) ردات فعل عكسية تماما ليس من قادة الفكر واقطاب السياسة الآخرين فحسب بل ومن الناس، ايضا. لاسيما من اصدقاء الكرد.
فالجميع يعرف ان بين العرب مئات الالاف من الذين وقفوا بمبدأية ثابتة ضد محاولات سحق الكرد وآمنوا بحقهم في وطن آمن. والجميع يعرف ان ثمة التزاما ثابتا ابدته جل القوى السياسية والمدنية في العراق لمضمون الفدرالية. وباتت الاتحادية وحق القوميات والاقليات بديهيات مبدأية في الخطاب السياسي السائد. والكل يلهج بذكرى حلبجة والانفال وضحايا الشعب الكردي.
اذا اراد الكرد ان يستقلوا واعتقدوا ان شروط الدولة الكردستانية متوفرة لهم الآن فمرحى بذلك ولتنفتح له الصدور وتقبل به الضمائر. واذا اعتقدوا ان حدود القوة الكردية لا يناسبها الانتماء للعراق بل لا تتناسب إلا مع دولة كردية فاهلا بذلك. ومن الممكن، نظريا، الدخول في مفاوضات الانفصال ورسم الحدود وتقسيم الموارد وربما ترحيل الناس من كلا الطرفين وما الى ذلك. ومن الممكن ان تفض مسالة كركوك بطريقة وآخرى- قسمة عادلة بين اهل البلاد من كل اطيافهم. ولتكن الامم المتحدة حكما. للكرد حقهم القومي المشروع في دولتهم ولتكن اليوم قبل غد. لتتأسس دولة كردستان اذا اراد الناس ذلك ودخل القادة في حوار حقيقي حول ذلك. واذ ما رفض الآخرون (وهو رفض لا معنى له في منطق تقرير المصير قوميا ومنغلق على نفسه في منطق التجربة التاريخية المعاصرة للعراق) فان قبولهم بالفدرالية والتعددية والاختلاف ليس إلا نفاقا. وستكون المحصلة، بلا شك، عود على بدء: شمولية طائفية من نوع آخر او شوفينية قومية او احتلال، حتى.
ولكن وفي كل الاحوال، ليس هناك منّة لاحد على أحد في العيش معا في بلاد الاحرار. أنا لا أمنّ على اهلي في العيش بين ظهرانيهم. وأنا لا امنّ على غير اهلي في العيش سوية. الكل احرار في الخروج من الاطار واحرار في الدخول اليه. وفي الحقيقة ان ضمان حرية الدخول والخروج وحدها هي التي تؤسس لعراق موحد توحيدا صلبا لا تخذله مكوناته.
ولكن، ايضا، اذا راى الكرد ان مصلحتهم في العيش في ظل عراق موحد ديمقراطيا فان هناك شرطا اساسيا واحدا لا غير: قبول الانتماء لهذا الوطن وفق مبدأي العدل والمساواة السياسية قبولا حاسما. قبول الانتماء (بلا منّة). قبوله في كل الجسد، في القلب والضمير مع العقل والمنطق. قبوله بكليته، وان كان مع تبني منطق التفاوض المستمر على آليات توزيع الموارد الاقتصادية والسياسية والقيمية.
القبول في ألانتماء للوطن العراقي ولاء لهويته الكبرى، الهوية العراقية التي تتكون الآن ارضية ثابتة حاوية لكل الولاءات الاصغر و الصغرى. اذاك يصبح قبول الهوية العراقية التزاما سياسيا ثابتا بدولة القانون التي هي روح الامة العراقية الجديدة وصلبها. الامة العراقية ككل انساني جديد قائم على وحدة التنوع. واذاك تضحى الهوية العراقية مبايعة مطلقة لمكونات البلاد المختلفة لمنطق العدل في اطار الامة.
فهل سيتوحد القلب الكردي مع العقل في تبني منطق الهوية العراقية الجديدة ام سيبقى التارجح السياسي قائما في الافق سائرا ابدا وفق سياسات تكتيك المصالح؟
التعليقات