كثر في الآونة الأخيرة النزاع والجدل حول مسببات الإرهاب وما يرافقه من فظائع وترويع حتى مضى البعض من المثقفين والذين نطلق عليهم (علمانيين ليبراليين) مضوا الى الإشارة بأصابع الاتهام والإدانة للإسلام باعتباره المسؤول الأول عن كل تلك الشعارات العصابية والمؤدية للعنف؛ ورحنا معهم نؤيد وبخطاب عال النبرة : أن العرب المسلمين ورثوا فعلاً عقلية التدمير والترهيب والتخريب عن أجدادهم الأوائل المتبنين لثقافة الموت والعنف والمنتقلة الى ما خلفوه من قصائد وإبداع على شاكلة : إذا بلغ الفطام لنا رضيعا؛ تخر له الجبابرة ساجدينا... أو: لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم؛ وما الى ذلك من خطاب يدعوا للعنف؛ وفي المقابل تمضي سياسة بلادنا الرشيدة على نهج يبدو متعقلاً حكيماً يسعى في كل مرة الى مد جسور التواصل مع( الأخر) عبر حوارات خالية من الاستعلاء والأنا المتضخمة؛ متفهمة الدور التاريخي؛ وواعية بقدر الأمة وما يقع عليها من عبء لمجابهة كل الصراعات الداخلية والخارجية؛ وإذا كان منتدى (أمريكا والعالم الإسلامي) آخر تلك اللقاءات والذي مضى وللمرة الثالثة في الانعقاد وبتشريف من صاحب السمو الشيخ حمد بن خليفة أل ثاني أمير البلاد المفدى فإنما هو خطوة كبيرة للتقريب بين وجهتي نظر خاصة بعدما لحق بنا من وزر الإشارة لنا باتهامات تطالنا في أعمق روحنا وفي هويتنا وعقيدتنا وما سنتحمله مستقبلاً من تلك الإدانة والتي ربما ستجني ثمارها الأجيال القادمة؛والتي يعتبر الإسلام تلك الديانة السمحاء القائمة على التسامح والسلام والعدل وكل القيم النبيلة براء منها؛ ولكن وحتى تأخذ الأمور نصابها الحقيقي؛ وحتى لا يتم تشويه الإسلام بعد خلط الأوراق وجدت أن من واجبي البحث بقدر الإمكان في التراث الهائل الذي خلفه لنا الأوائل وبعد طول عناء ودراسة لما نطلق عليه (أمهات الكتب) تأكدت أن ا المؤسسة التعليمية في بلادنا تتحمل جزءاً كبيراً من مسؤولية صياغةالخطاب المتطرف والذي يقود لحالات تغريب وتشتيت للشخصية العربية وبالتالي لا نستبعد أن يؤدي فعلاً لخلق خطاب متشدد وهو الذي ينهال علينا حتى اللحظة من جميع الجهات... والذي ينصب فيه كثيرون من (العامة) أنفسهم دعاة وحماة للدين رغم جهلهم الذي يتجاوز الكتابة بلغة سليمة خالية من الأخطاء؛ وقد يشط بعضهم فيمضي في تكفير محاوره وكأن الإسلام وجد لأجله هو فقط....أو أن مفاتيح الجنة ملكا له؛ وتصل المسألة لحد المزاودة على الإسلام... وحتى لا أمضي في تعميم الكلام سأعود للتأكيد على تضليل مناهج التعليم لنا وعبر عقود طويلة... خاصة (مادة التاريخ) تلك التي سلبتنا حقوقنا في تحريض الأسئلة والنقاش الحر.. والتفكير الحر... ومادة (العلوم الشرعية) المعتمدة على التكرار والحفظ ومصادرة الأسئلة على اعتبار أن كل تساؤل عصيان.. وهذا تحديدا ما عايشناه طيلة سنوات الدراسة السابقة... هنا في بلادنا.
فعلى مدى اثني عشر عاماُ أو تزيد يقضيها الطلبة في المدرسة ليمضوا في اجترار معلومات يومية لا تخلص الى اعتبار (الإسلام) واحة رطيبة...ووسيلة سلام وطمأنينة وسكينة؛ بل قبراُ مفتوحاُ على الرعب والترهيب؛ ونحن موتى يوخز خاصرتنا الشجاع الأقرع وما الى ذلك من إرهاب فكري؛ فنمضي محملين (بالمقدس) منصبين وصياُ بداخل أرواحنا يقينا من شر (الفكرة).. فالشمس في بلادنا العربية ليست (جريئة) بل وقحة تجلدنا بسياطها؛ مع هذا فلا يجوز التعدي عليها(استغفر الله) هكذا وببراءة متناهية وكأننا تطاولنا على المقدس؛ في سلسلة طويلة من مغالطات نكمل المرحلة الإبتدائية وحتى الجامعة ودون أن نعرف الفروق بين العصر الأموي والعباسي وبتشويش شديد يصير كل رجال مرحلة النبي وما بعدها : عليهم السلام ومنهم السلام واليهم السلام.. ورضي الله عنهم جميعا؛ ونكبر ليكبر معنا الإحساس بالذنب لأن (الله) خذلنا حين أشحنا بوجوهنا عنه؛ ونكبرولا تكبر معنا المعرفة؛فما ينمو بداخلنا رهاب وعصاب ديني؛ ولذا يخرج عليك في كل دقيقة من يغالطك ويحاججك ويكفرك..؛ فليس بالضرورة أن ندرك جميعنا تعسف الموروث دفعة واحدة؛ أو ما تراكم من دلالات ومؤشرات؛ أو بالأحرى ما راكموه هم (مؤسسة التعليم) من إرث معرفثقافي :( فكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار) لأن البدعة من الإبداع والأبداع طالما يمس المقدس فهو شيطنة وتشيطن... ولذا فالمدرسة توقفت عند اعتبار (السلفيين)على سبيل المثال: كمخلصين من البدع أو التشيطن؛ ولم يخبرونا أنهم( هجموا على مكة المكرمة واقتحموا الحجرة النبوية لينهبوا ما بها من حواهر وذخائر وحلي وسيوف مطعمة بالماس كما نهبوا الصرة الشريفة من الحج) وحاصروا المدينة المنورة لعام ونصف وفعلوا بأهلها كما فعلوا بمكة؛ كذلك لم يمرر لنا التاريخ المدرسي ولو بالإشارة أن الإسلام كدعوة دينية و حركة سياسية اجتماعية تحمل العدالة والخير والسلام وتحاول محو الفوارق الطبقية إنما عانى الرسول لأجلها الهوان والويلات فدعوته ثورة جديدة ضد ثقافة السائد الجاهلي ولذا تفجرت صراعات طبقية حادة بين قريش القوية والمستحوذة على المؤسسات السياسية والاقتصادية والسياسية ضد فرد واحد أعزل وأميّ ومع ذلك فقد أحدث انقلابا مدوياً برسالته المتسامحة كما قلب مفاهيم البشروحول خطاب الجاهليين لدرجة دجّن فيها حتى الموت؛ ونقل عرب قريش من التبادل المادي الى التبادل الرمزي؛ وجاء القرآن ليفتح للعرب آفاقاً جديدة من المعرفة منها معرفة الإنسان بالوجود (الدهر) ومستغلقاته؛ واعتقد النبي أنه خلّف فعلاً (خير أمة أخرجت للناس ) لذا لم يخلف خليفة له بل ترك نصوصاً قرآنية صريحة : (وشاورهم في الأمر ) و (أمرهم شورى بينهم) لكن العصبية القبيلة قوية وبقدر لم تستطع رسالة كبيرة كرسالة الإسلام من إزالتها... اختفت قليلا لتعود حتى قبل وفاة النبي بدليل أنه( أمر الحاضرين في داره الانصراف عنه بعدما لاحظ الاختلاف بينهم) ففي تلك المرحلة التي لا زال الإسلام فيها غضا طريا؛ خرجت (العصبيات القبلية) وبدأ تفكيرالأقوياء في البحث عن آليات السلطة مع أن الإسلام قد ناضل لتأسيس مفهوم( الأمة) ليحل بديلا عن القبيلة؛ لكن الصراعات التي بدأت بأول صراع في تاريخ الإسلام وتمثل بين المهاجرين والأنصارالذين ناصروا الرسول عند هجرته الأولى طمعا في في تعزيز عصبيتهم وطموحهم في السلطة كالآخرين... لينضج الصراع في (السقيفة) يلخصه لنا سعد بن عبادة بقوله : هذا أول الوهن فخلافة النبي حق للأنصار وحدهم ولا يجوز أن ينازعهم فيه أحد... مما دعى أبو بكر الصديق لمخاطبة القوم بالخطاب التالي : (أيريدون أن يختزلونا من أصلنا ويغصبونا الأمر ؟ ثم يكمل : من ذا ينازعنا سلطان محمد ونحن أولياؤه وعشيرته ؟ وهكذا بدأ ايضاً أول خروج على القرآن الذي يمثل صياغة حضارية للبشر؛ ولم يذكر لنا المقرر المدرسي أن اجتماع السقيفة انتهى بتأسيس (الدولة الجديدة) والتي كما نرى قامت على مفاهيم مثل :( لنا الدنيا ومن أضحى عليها؛ ونبطش حين نبطش قادرينا )أو:(نشرب إن وردنا الماء صفواً؛ ويشرب غيرنا كدراً وطينا ) كما لم يدرسونا الفروق بين (الإمامة) و(الخلافة) تلك الضربة القوية الموجهة للمجتمع الإسلامي؛ فمسألة القيادة وإنتاج النموذج القيادي لم يحسم بعد ولم يحل الشكل القيادي بشكل شرعي في التاريخ الإسلامي... لأن السلطة كانت زمنية موجهة؛ مما يبرر الحصول عليها بعد النبي بالقوة وليس بشكل شرعي أو قانوني فالخلفاء الراشدين انتخبوا من قبل المسلمين وعن طريق الشورى ولكن... لماذا امتعض الإمام علي من خلافة أبوبكر وعمر ؟ وليستسلم فيما بعد عثمان بن عفان لبطانته الفاسدة حتى فقد الثقة بهم فسلم بيت مال المسلمين لعائلته وليفجر أول فتنة في الإسلام جسدتها مقولة الخارجين عليه (أن يرد كل مظلمة ويعزل كل عامل كرهوه) كما ورد في الطبري... لكن السلطة لذيذة ومفسدة ولهذا يقول عثمان :( والله لأن أقدم فتضرب عنقي أحب إلي من أن أخلع قميصا قمصنيه الله ) ويقتل عثمان لتتجسد بمقتله أول انقسامات المسلمين في وحدتهم؛ كذلك وعند دراستنا لوقائع التاريخ الإسلامي نرى أن الصراعات القبلية عميقة الجذور في المجتمع الإسلامي ولذا تهيأت الظروف وأصبح المناخ ملائماُ لبروز أول حرب أهلية في الإسلام بالاختلاف بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان لتفتتح لنا (خدعة) رفع المصاحف على أسنة الرماح وتحكيم كتاب الله بتشكيل أول حزب معارض أو حركة دينية سياسية منظمة في الإسلام ولأنهم قبائل بدوية تشتعل دماؤهم بالعصبية القبلية؛ أو كما جاء عند ابن خلدون (إن الأعراب يكرهون العمران والخضرة والاستقرار ولا يعترفون بطاعة حاكم ينظم حياتهم) فقد مضوا بمعايير وقيم بدوية تحكمهم ويحتكمون إليها لذا أرسلوا (ابن ملجم المرادي) لقتل علياً أثناء صلاته بالمسجد في الكوفة؛ مما دعى معاوية بن أبي سفيان (الذي سن قانون الذبح )لاستخدام نفوذه وماله ومكره للاستحواذ على الحكم فبرزت حقبة جديدة في التاريخ الإسلامي تتمثل في : إرساء مفهوم (الملكية الوراثية) وتغييب مفهوم الأمة ليحل بدلا عنه حكما( ثيوقراطيا) أو حكم الفرد الواحد بعد أن كان الحكم مؤسسة خلافية؛ وليترك لنا التاريخ الحقيقي (الذي قرأناه لا ما درسونا) وصية معاوية لابنه يزيد وهو على فراش الموت :( وطأت لك الأمور وذللت لك الأعداء وأخضعت لك رقاب المسلمين وجمعت لك مالايجمعه أحد) لتنتقل تلك الوصية بالحكم الإسلامي من نظام الشورى أو الديمقراطية الى نظام الوراثة... ونتابع حروب الردة؛ والخوارج؛ ونحر الحسين الذي قال : (بأن السنة قد اميتت والنفاق قد نجم والحدود عطلت).... التي لم تذكر الكتب المدرسية عنها شيئاً ولم تخبرنا عن 25 رأساً فصلت عن أجسادها من بينها 18 رأساً من آل البيت؛ ولم يخبرنا المقرر المدرسي عن عمرو بن سعد بن أبي وقاص صاحب الرسول الذي يخرج بمعية خمسة ألآف رجل ليقاتل ابن بنت رسول الله وليوحي لسنان بن أنس أن : إنزل اليه فأرحه ونزل سنان واحتز رأس الحسين؛
ومضينا طيلة تاريخنا العربي والحكومات العربية تشرف على سياسة (تجهيل المثقف) وإنشاء (أميات ثقافية) والغدق بكرم على المثقف السلطاني أو (بوق الحاكم) الذي يقوم بدوره في تقبيح القبيح وتجميل الجميل تبعا لمصالح السياسة؛ وحامل خطاب : أبانا الذي في الأرض... وصار الخوف من الدمقرطة رغم تقادمها كمفردة لا لشيء الا لأنها ضد الحاكم وضد السلطة؛ فلجأت الحكومات لتخويف الشعب منها على اعتبارها بدعة وضلالة؛كما تم تقهير الشعب بالدين؛فامتزج الأمر واختلط التكفير السياسي بالتكفير الديني الذي لحق العلماء والمفكرين؛لنرى سفك دم ابي حيان التوحيدي؛ وتكفير الفارابي؛ وابن سينا والكندي والرازي وحرق كتب الإمام الغزالي وابن رشد والأصفهاني وابن حجر العسقلاني والنووي وتسميم الكواكبي وقتل المتنبي وابن المقفع؛ وذبح الجعد بن درهم صبيحة عيد الأضحى؛ وسفك دم بشار بن برد وإراقة دم الأشعري؛ وذبح ابن نصر وتعليق رأسه في الأزقة؛ وتكفير ابن الفارض وابن درهم وابن جنيد ورابعة العدوية.... لكن الحديث عن التاريخ الإسلامي ثم العربي ظل ملتبساً؛ وفي أحيان كثيرة هو الحق الذي لا يطاله الباطل؛ رغم أن الدماء التي أسالها العرب فيما بينهم أكثر بكثير من تلك التي أسالوها في الحروب والغزوات التي تعارفنا على تسميتها( بالفتوحات) وهكذا... وعلى الرغم من أن التاريخ سلسلة متواصلة من الأحداث الا أن المناهج التعليمية قدمت التاريخ الإسلامي لنا تقديما ساعد بشكل كبير على خلق الأوهام والتضليل ولا عجب إذ أن العرب بما عاشوه من فكر تنويري من بداية نزول الوحي وحتى النصف الأول من القرن الهجري الخامس قد جعل لديهم اعتقاداً قوياً وراسخاً بأنهم حملة المطلق وهم مركز الكون وتلك دون مراوغة أزمة الحضارة في نضجها وقوتها.
استخلص مما سبق أن المؤسسة المدرسية قدمت لنا طيلة عقود علفاً مسموماً لا نستطيع الفكاك منه لأنه صار جزءاً من مكونات شخصيتنا العربية وهويتنا وأن المدرسة لم تحاول مطلقاً تقديم تاريخنا العربي الا باعتباره امتدادا للنوستالوجياأو الحنين للماضي والذي عمق هذا بدوره احساس الفرد بالحسرة وضياع الأمل وفقدان الثقة بالحاضر؛ مما لا نستبعد أن يكون المنهج الدراسي : إحدى ماكينات تفريخ الإرهاب... سأحاول فيما بعد كتابة المزيد مما يطمح للالتفات لذلك التاريخ.

[email protected]