بالرغم من مظاهر الحيوية والتفتح التي أظهرتها النخب الثقافية والسياسية السورية منذ خطاب القسم الرئاسي في العام 2000، فإنّ التوقعات المستقبلية للتغيير الديمقراطي في سورية تتقاسمها نزعات الأمل والقلق في آن واحد. وقد يكون من الصعب أن نقول أنّ الديمقراطية تملك حلولا سحرية لكل مشاكلنا، ولكن من السهل الاستنتاج، على ضوء تجربة شعبنا مع النظام الشمولي - الاستبدادي، أنها الطريق الأصوب للتعاطي المجدي مع التحديات المفروضة علينا، حين تقدم لنا إمكانية لإيجاد الحلول، خاصة إذا ساد الفهم المسؤول لمعانيها والإدراك الواعي لمتطلباتها ونقاط القوة والضعف فيها.
إنّ سورية تواجه فرصة تاريخية تمكّن من إجراء التغيير الديمقراطي المنشود، بالاعتماد على تضافر جهود جميع النخب الفكرية والسياسية دون استثناء، فلا يجوز تفويت هذه الفرصة، بل الحرص على الانتقال الديمقراطي الهادئ والممأسس، الذي يفتح الآفاق أمام إعادة صياغة مستقبل سورية على أسس جديدة.

(1)
إنّ التغيير أضحى حاجة موضوعية في بلادنا، إذ تؤكد كل المعطيات المتوفرة الحاجة السورية الماسة إلى الإصلاح الشامل، فالنمو الديمغرافي هو من النسب الأعلى في العالم (يتراوح بين 2.4 إلى 2.5 %)، بينما النمو الاقتصادي مازال منخفضا، وأكثر من 600 ألف عاطل عن العمل، و250 ألف فائض عن العمل في دوائر ومؤسسات الدولة، وما بين 200 إلى 250 ألف طالب عمل سنويا. يضاف إلى ذلك أنّ متوسط الدخل الفردي يقل عن مثيله في الدول المجاورة، ويزداد أثر ذلك بسوء التوزيع، إذ تشير المعطيات المتوفرة أنّ 5% من السكان يتمتعون بـ 50% من الدخل الوطني. وتشير معطيات هيئة الأمم المتحدة عن التقدم البشري في العالم أنّ 60 % من المواطنين السوريين يعيشون في حدود خط الفقر( أي من دولار واحد إلى دولارين في اليوم )، وأنّ 25 - 27 % يعيشون تحت خط الفقر ( أي بأقل من دولار في اليوم )، كما أنّ أغلب المؤسسات السورية تعاني من الترهل والتسيّب والركود.
لقد ورثت سورية، عهد جديد ونخب ثقافية وسياسية، تركة ثقيلة : دولة متأخرة، ونفوذ جماعات تتسلط على مصالح البلاد والعباد، وحزب ومنظمات شعبية وأحزاب مشاركة مترهلة تبحث قياداتها عن مصالحها الذاتية، وإدارة اقتصادية غير حكيمة في إدارة الموارد الاقتصادية والبشرية بشكل عقلاني لإنتاج عناصر تطوير وتعظيم لها، وسجل حافل بانتهاكات حقوق الإنسان... الخ.
وإذا أضفنا عمق التحولات في العلاقات الدولية، والتغيّرات الجيوبولوتيكية في العراق ولبنان، فإنّ الوضعية لم تعد تحتمل تأجيل إعادة بناء الدولة الوطنية السورية الحديثة، تحت أي شعار، إذا ما أريد لتيار التغيير الديمقراطي أن يأخذ مداه. فلاشك أنّ تحديات الحاضر والمستقبل أكثر تعقيدا من تحديات الماضي، فلم يعد في عالم اليوم ممكن البقاء بعيدا عن ثورة العلم والتكنولوجيا والاتصال والمعلوماتية والديمقراطية وحقوق الإنسان، فالعولمة الزاحفة لن تترك أحدا خارجها إلا للتهميش.

(2)
تغرق المعارضة السورية في إشكالية داخل/خارج متناسية جدل التاريخ بينهما، ومتجاوزة طبيعة التحولات العميقة في النظام الدولي الجديد قيد التشكل. كما أنّ السلطة السورية لم تستوعب بعمق طبيعة ومنحى هذه التغيّرات الإقليمية والدولية، والخشية أن يسدد وطننا فاتورة عدم فهمنا وإدراكنا لهذه المعطيات الجديدة.
لقد أضحى النظام الدولي، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، قوة تغييرية في داخل الأوطان بعد أن انخفضت مرتبة سيادة دول المنطقة جميعا. ففي الرؤية الأمريكية اليوم أنّ الاستبداد العربي الذي حمته ودعمته الإدارات الأمريكية المتعاقبة، طوال عقود، قد أفرز الكثير من الغضب والكثير من الكراهية للغرب وحضارته، لذلك فقد أصبح التخلص من أنظمة الاستبداد أحد أهم أهداف استراتيجية الأمن القومي الأمريكي.
وقد يشوش دعم المجتمع الدولي المعلن لقوى التغيير الديمقراطي على البعض رؤية مصلحة حقيقية في خروجنا من هيمنة نظام الاستبداد إلى أفق ديموقراطي.
إن تحقيق تعاطٍ مجدٍ في التعامل مع الخارج، في ظل العولمة وتدفقاتها الثقافية والاقتصادية، منوط بالرهان على إعادة بناء الداخل السوري في كل حقوله. إذ أنّ البدء بالمهمة التاريخية المعنية في سورية، إنما هو " بدء في استراتيجية التأسيس الداخلي عبر التعامل مع الخارج بقدرة وطنية وانفتاح ديموقراطي عقلاني، وبدء في امتلاك أدوات ذلك التعامل من موقع الدخول بعمق في مشروع الإصلاح ".
ومن الملفت أنّ جميع معارضي السلطة يؤكدون رفضهم التحالف مع أي طرف خارجي ويعتبرون ذلك خطا أحمر لا يمكن الاقتراب منه، وجميعهم يقللون من شأن المعارضين الذين اجتمعوا مع مسؤولين أمريكيين باعتبارهم نواة لنظام سوري بديل.
فهل أدركت السلطة في بلادنا دقة وحرج المرحلة وخطورة ما تحمله الأيام القادمة ؟ وهل تعي أن مصير البلد كله أصبح على كف عفريت، إذا لم تبادر لإعادة النظر في جميع سياساتها السابقة ؟.
لن نستغرب إن بقيت السلطة تراوح مكانها في سياساتها التي أكل عليها الدهر وشرب، فبنيتها الاستبدادية تبدو عصية على الانفتاح وفهم دقائق ومتغيّرات ومستجدات العصر، إذ أنّ مراكز القوى فيها لا زالت أسيرة عقلية الحرب الباردة ومفرداتها المتحجرة وصفقاتها التي أضحت من مخلفات الماضي.
وبالرغم من ذلك علينا أن لا نمل من تكرار أن متطلبات الحل الداخلي أقل كلفة من الانصياع لمتطلبات الحل الخارجي، وإذا كان لا بد من الاستجابة لمتطلبات المرحلة والتطورات الدولية والإقليمية، فإن المصالحة الداخلية خير معين على التقليل من تأثيراتها السلبية، فقوة المجتمع قوة للدولة التي يجب أن تكون بموقف قوي أمام التهديدات الخارجية.

(3)
إنّ التاريخ السوري المعاصر قد رتّب على قوى الثقافة والعمل مسؤولية وطنية وقومية كبرى، تتناسب مع الدور الهام الذي تلعبه في الحياة الفكرية والمادية للشعب السوري، فلذلك فإنّ التغيير الديمقراطي سوف يقع على عاتق هذه القوى في الدرجة الأولى، فهي التي ستكون القاعدة الاجتماعية الأهم للتغيير الديمقراطي المنشود.
ولاشك أنّ تحوّل هذه القوى إلى كتلة مؤثرة مرهون بقدرتها على جذب أوسع القطاعات الاجتماعية التي تطمح إلى التغيير، من داخل حزب السلطة ومؤسساتها ومن المثقفين وجماعات المعارضة. كما أنه مرهون بقدرتها على تجديد الثقافة السياسية السورية من خلال اعتبار ساحة الفعل السياسي مفتوحة على الدوام على قوى ومجموعات سياسية ذات توجهات فكرية ومشارب سياسية متباينة، وضرورة التزام الخطاب العقلاني والواقعي في العمل السياسي، واعتماد ثقافة الحوار.
إن المعارضة السورية تواجه عقبات و معوّقات بنيوية، فقد استطاعت السلطة الاستبدادية، خلال سني الخوف العجاف، تحطيم جميع البنى السياسية والمدنية (الأحزاب والنقابات والجمعيات)، وسحق أو تهميش أو تشريد العديد من الشخصيات التي يمكن أن تكون محورا لعمل وطني معارض. كما يبدو أنها لم تدرك حجم التغيّرات التي اجتاحت المنطقة بعد جريمة 11 أيلول 2001، ومن ثم بعد مشروعات " الشرق الأوسط الكبير " و " منتدى المستقبل "، وبعد احتلال العراق، ومعنى أن تصبح الولايات المتحدة جارا مباشرا لسورية، وأخيرا، وليس آخرا، مغزى القرار الدولي 1559، والزلزال الذي أحدثه اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري وتداعياته.
وهكذا، يبدو أنّ المعارضة، بجناحيها السياسي والمدني، وبالرغم من الحراك الذي شهدته في السنوات الأخيرة، عاجزة عن قيادة عملية التغيير الديمقراطي. ولكنها يمكن أن تشكل قوة أساسية فيما إذا عززت وحدتها، وأعادت صياغة برامجها الموحدة بعيدا عن العصبويات الحزبية الضيقة.

(4)
واقع الحال يطرح السؤالين الجوهريين التاليين : كيف نهيء أرضية داخلية صلبة قادرة على التعامل مع معطيات وتطورات العالم المعاصر لتأمين مصالحنا الوطنية من خلال التكيّف الإيجابي مع متطلباته ؟. وما هي أدوات ووسائل التغيير ؟.
إنّ التعاطي المجدي مع الأخطار والتحديات التي تطرحها التحولات الوطنية والإقليمية والدولية على جدول الأعمال السوري تتطلب البحث عن أسباب ضعفنا الداخلي ومعالجته جديا للنهوض بالقدرات الكامنة إلى مستوى التطورات الجديدة والتعامل معها على أساس من التكافؤ والاقتدار في الميادين المختلفة. مع العلم أنّ مصدر القوة الحقيقية لأية دولة هو التناغم والتكامل والتوازن بين سلطة الدولة ومجتمعيها المدني والسياسي.
إنّ صياغة معادلة جديدة في الحياة الداخلية تأخذ بعين الاعتبار تعاظم التحديات، في ظل علاقة بين السلطة والمجتمع قائمة على القناعة والثقة والتفاعل الحر، علاقة مقننة في إطار عقد اجتماعي جديد يوفر الشفافية والمؤسسية والقانون، هي وحدها الكفيلة بوضع سورية على أولى درجات التغيير المنشود، وإلا فإننا أمام حالة إعادة إنتاج الماضي بكل مآسيه، خاصة إذا بقيت بنية الاستبداد موجهة لمجمل توجهاتنا.
وفي هذا السياق، لايخفى عنّا الدور الهام الذي تلعبه مؤسسة الرئاسة في الجمهوريات الرئاسية عامة، وفي الحياة السياسية السورية منذ سنة 1970 خاصة، حيث كان الرئيس محور قوة السلطة، وحيث جرى احتكار العمل السياسي من قبل سلطة الدولة. وعليه، وبالرغم من كل الحيوية التي تتمتع بها النخبة الوطنية السورية، بات التغيير صعب ومكلف ( ينطوي على مخاطر تمزيق الوحدة الوطنية وتسهيل التدخل الخارجي )، من خارج إطار السلطة، ذلك لأنّ المجتمع بات شبه عاجز عن المبادرة إلى إطلاق سيرورة تغيير ديمقراطي حقيقي، فهو مغيّب عن الحضور الفعلي في الدولة، فلا وجود لمنظمات مجتمعية مستقلة فاعلة، ولا وجود لأحزاب معارضة علنية فاعلة، ولا وجود لصحافة حرة مستقلة، ولا انتخابات تعددية نزيهة.
وهكذا، يبدو أنّ قدر الدولة السورية، ذات البنيان المركزي الشمولي، أن تأتي مبادرة إعادة بنائها من المؤسسة الرئاسية. فما هي المعوّقات التي يمكن أن تعترض أي تغيير من داخل السلطة بمبادرة رئاسية ؟.
فعلى امتداد عدد من السنين هيمن نمط من الأجهزة الأخطبوطية على مجمل نواحي الحياة السورية، بحيث تم ابتلاع كل المظاهر الأولية لوجود المجتمع المدني السوري. بل أنّ المجتمع السياسي نفسه لم ينجُ من سيطرة هذه الأجهزة، حيث " قُضمت " الدولة وأُرغمت على إخلاء الساحة لـ " الدولة الأمنية "، مقابل " أمن الدولة ". ومن هنا يبقى القول أنّ مصير أي مشروع للتغيير الديمقراطي، من داخل السلطة القائمة، مرتبط بـ " أزمة التطبيق "، إذ أنّ كل القوانين والإجراءات والتدابير التحررية تواجه المقاومة والتأجيل والإعاقة عند التنفيذ، أو تنفّذ على نحو بيروقراطي وبطيء وخالٍ من حيوية التغيير، لا بل يترافق تنفيذها أحيانا مع نية إبطال مفعولها. فثمة أمثلة عديدة عن دور الانتهازيين والمنافقين والمتملقين في تخريب تجارب بدأت مفعمة بأمل التغيير، فجرفها هؤلاء نحو عكس رهاناتها.
وعليه، فإنّ توافقا بين السلطة القائمة والتيارات السياسية المعارضة قد يساهم بتطوير آليات المجتمع المدني، بما يساعد على توسيع رقعة الحريات العامة، وتحريك وعي الجماهير، ودفع شرائح واسعة منها إلى الانغماس في خضم العمل السياسي العام. مما يحيل أفراد المجتمع السوري من مجرد رعايا تابعين، غير مبالين، إلى مواطنين نشطاء فاعلين يمكنهم التأثير في ديناميات اتخاذ القرار السياسي والإسهام في تغيير بنية التمثيل السياسي، فضلا عن مشاركتهم في تحديد الأهداف الكبرى، وصياغة السياسات العامة.
ومما لا شك فيه أنّ هذا التطوير لآليات مشاركة المجتمع المدني يمثل سيرورة مرهونة نتائجها : أولا، بمدى نضج القوى السياسية في السلطة القائمة والأحزاب المعارضة. ثانيا، بمدى التفاعل المثمر مع ديناميات التمايز والتمفصل بين السلطات وتعميق المساواة وتعزيز قدرة النظام السياسي على التكامل والتكيّف والإبداع.
إنّ نجاح مشروع التغيير الديمقراطي يتطلب الحوار المفتوح بين كل التيارات الفكرية والسياسية السورية من خلال مؤتمر وطني عام، بهدف الكشف عن الممكنات في الواقع السوري، وبناء أولوياتها وتوازناتها عبر منهج عقلاني هادئ، يقوم على التدرج وقبول الحوار مع الرأي الآخر ونبذ العنف والتطرف وعقد الماضي.
ومما لاشك فيه أنّ تجسيد مثل هذا الحوار، بأهدافه وموضوعاته، منوط بالسلطة أولا، ويعكس مدى جديتها في التغيير الديمقراطي. إذ من المفترض أن تبادر إلى الدعوة الشاملة إلى الحوار المفتوح والمجدي والعملي مع القوى الأساسية ( التجمع الوطني الديمقراطي، والأخوان المسلمين، وتجمع الأحزاب الكردية... )، مما يرفع من شأنها في أعين المجتمع ويفتح في المجال لتجسيد قيم الإصلاح وحاجاته في الواقع. ومما يسهّل مثل هذا الحوار أنّ ثمة تقاطعا بين مشروعي العهد الجديد والمعارضة، يمكن أن يساعد على إجراء تحوّلات ديمقراطية متدرجة، تهدف إلى إعادة بناء الدولة الوطنية السورية الحديثة.
وفي كل الأحوال، يجدر بالمعارضة السورية بكل أطيافها الإسلامية والقومية واليسارية والليبرالية، وفي القلب منها التجمع الوطني الديمقراطي، أن تبحث عن أشكال متطورة للحضور الشعبي الكثيف في فعالياتها النضالية السلمية، كي تضمن إجراء التغيير الديمقراطي المطلوب.

(5)
تتوجه أنظار الفاعلين السياسيين والمهتمين بالشأن العام نحو المؤتمر القطري القادم لحزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم، وتتساءل هذه الأوساط : هل ما سيشهده المؤتمر هو مجرد تدابير محدودة ومؤقتة كما جرت العادة سابقا ؟ أم أننا سنكون أمام منهج تغيير ديمقراطي شامل صادر عن رؤية عميقة للتحديات التي تواجه سورية وكيفيات التعامل المجدي معها؟.
هناك أمل كبير في أن يجري المؤتمر مراجعة شاملة لمبادئه وسياساته تأخذ في الاعتبار المتغيّرات المحلية والإقليمية والدولية منذ عام 1963، بما يؤدي إلى إجراء مصالحة تاريخية بين منطق الحزب ومنطق الدولة وحاجات المجتمع السوري. وفي الوقت نفسه، هناك قلق مشروع من أن تستطيع مجموعات المصالح في الحزب الحاكم الضغط في اتجاه الاكتفاء بتغيّرات سطحية لا تفي بغرض التغيير الديمقراطي المنشود.
ويبقى السؤال قائما : هل يكون المؤتمر علامة فارقة في تاريخ سورية، لجهة الاعتراف بالآخر وتكريس الخيار الديمقراطي وإطلاق الحريات وتبني قانون لإنشاء الأحزاب وآخر لتنظيم الانتخابات وإلغاء القوانين التي تعوق البناء الديمقرطي وتلك التي تفرض قيودا على حركة المواطنين السوريين أو تلقي عليهم أعباء لا طاقة لهم بها ودفع عمليات التغيير الديمقراطي المنشود؟.

(6)
إنّ آليات السيطرة التي تكونت منذ سنة عام 1963 شكلت الغطاء للفساد العام والركود الاقتصادي على مدى سنوات عديدة، كما أعاقت إمكانية التعامل العقلاني مع الموارد الاقتصادية والبشرية السورية، وعطّلت انطلاق مبادرات المجتمع السوري الذي يتميز بالحيوية، وبالتالي أدت إلى الأزمة البنيوية في مجمل مناحي الحياة السورية. وبما أنّ هذه الأزمة قد تولدت عن البنية الشمولية للدولة السورية، فمن الطبيعي أن يكون التغيير شاملا لكل ميادين الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية بتناغم واضح فيما بينها، ومن المؤكد أنّ المدخل إلى ذلك هو الديمقراطية باعتبارها " نظام مؤسسي لإدارة تعددية المجتمع المدني، ووسيلة لإدارة التعدد بواسطة مؤسسات متعاقد عليها ".
لقد اعتادت السلطة، منذ عقود، مصادرة المجتمع وإخضاعه كليا، وأقامت في سبيل ذلك منظماتها الشعبية كامتداد لسلطتها، بحيث لم يعد من الممكن الحديث عن دولة ومجتمع بالمعنى الحديث. ومردُّ كل ذلك هو النظام الشمولي الذي حكم البلاد والعباد، والذي تميّز بالتماهي بين الدولة والسلطة والمجتمع والحزب، واندمجت كلها في شخصية الحاكم، بعيدا عن أية مؤسسات رقابية حقيقية، بل بوجود مراتبية تلعب فيها الأجهزة الأمنية الدور الأهم في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، تقرّب أهل الولاء وتنفّر أهل الكفاءة. وفي مثل هذا النظام كان من الطبيعي أن تغيب دولة الحق والقانون، خاصة عندما أصبحت حالة الطوارئ والأحكام العرفية، التي تكون مؤقتة في العادة، حالة دائمة منذ العام 1963. وقد أدى كل ذلك إلى تعطيل الحياة السياسية السليمة، وحد من إمكانية الإدارة العقلانية للموارد الاقتصادية والبشرية، كما أدى إلى تهميش قطاعات اجتماعية وثقافية عديدة.

(7)
لقد استقر الفكر الإنساني على وجود ترابط عضوي بين التنمية الاقتصادية - الاجتماعية المستدامة والديمقراطية وحقوق الإنسان، وكذلك على العلاقة المتبادلة التي لا تقبل التجزئة بين مجموعة فئات الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
إنّ إنجاز التغيير الديمقراطي، في كافة البنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، بات ضرورة للتمكن من التعاطي المجدي مع العالم المعاصر طبقا للمصالح الوطنية السورية العليا. ولعل برنامجا شاملا، يصوغه مؤتمر وطني عام، يساعد على الخروج من خيارات الماضي، الذي يفتقد حرارة التواصل مع الحاضر والمستقبل، إلى خيارات المستقبل التي تفتح الأفق أمام انطلاق مبادرات كل مكوّنات الشعب السوري.
لاشك أنّ تحديد الأولويات ومراجعة الأهداف المزمع تحقيقها ضرورة ملحة في سورية، ليتم التركيز على متطلبات الإصلاح والتحديث وتكريس القواعد الديمقراطية وبناء المؤسسات الدستورية ومعالجة المشاكل المعيشية وتحديث الهياكل والبنى الاقتصادية والاجتماعية، وتحقيق التنمية والارتقاء بمستويات القدرة السورية على الانفتاح على العالم، والتعامل معه من موقع الشراكة المتكافئة، في ظل توجهات العولمة التي لم يعد هناك مجال لتجاهل آثارها السلبية والإيجابية على كل بلدان العالم.
ومن أجل ذلك، تبدو الديمقراطية في رأس أولويات التحديث السوري، فالإصلاح ونجاحه يستدعي مقولات جديدة : المجتمع المدني، الدولة الحديثة، المواطنة. وتبدو أهمية ذلك إذا أدركنا أننا، بشكل عام، لا نملك لغة سياسية حديثة، منظمة وممأسسة، في بنانا السياسية والثقافية، إذ بقينا خارج تسلسل وتاريخ التقدم الإنساني، فماضينا ما زال ملقى على هامش حاضرنا، بل يهدد مستقبلنا.
إنّ نجاح أي مشروع للتغيير الديمقراطي مرتبط بإجراء إصلاح سياسي شامل، مقدماته الضرورية تقوم على إلغاء كل القيود على الحريات الديمقراطية، وتقوم أيضا على الدعوة إلى استقلال القضاء وسيادة القانون، إضافة إلى كل أسس النظام الديمقراطي، بما يضمن قيام دولة حق وقانون قوية.
وإذا كان من الطبيعي أن يخضع الاقتصاد السوري لتأطير معين يحدد اتجاهات الأداء الاقتصادي في السنوات القادمة، فإنّ الضرورة تقتضي دعوة الفعاليات الوطنية المختلفة للمشاركة في الحوار حول الآفاق القادمة، وعدم الاقتصار على مجموعة محدودة من المستشارين، بهدف الوصول إلى أفضل الخيارات الممكنة. ذلك أنّ المسألة الاقتصادية مرتبطة بمجموعة واسعة من المكوّنات : التنموية، والإدارية، والتشريعية، والاجتماعية، والرقابية، والسياسية.
وفي كل الأحوال، وطالما أنّ كرامة وحرية الإنسان هي التي تشكل أساس تطور أي مجتمع، فإنّ الرقابة المُمَأسسة، التي تمكّن من وضع الإنسان المناسب في المكان المناسب، تشكل أحد أهم الشروط لتحقيق التقدم الاقتصادي، حين تفرض التنظيم العقلاني لعملية الادخار والتراكم وجذب الاستثمارات الوطنية والعربية والأجنبية.
وهكذا، تبدو سورية في أمس الحاجة لأن تتضافر جهود جميع أبنائها في مواجهة تحديات التحديث والعولمة والسلام. لذلك فإنّ المطلوب هو التحوّل السلمي الهادئ من الدولة الشمولية إلى الدولة الديمقراطية، بما يوفّر إمكانية الانفراج التدريجي والمحافظة على الوحدة الوطنية وإعادة الاعتبار لدولة الحق والقانون المتصالحة مع مجتمعها. ومن أجل ذلك لابدَّ من سن قانون عصري لتأسيس الأحزاب والجمعيات، واستكمال الملف الأمني بإطلاق كل معتقلي الرأي والضمير، وفتح ملف المفقودين، وإصدار قانون عفو تشريعي عام عن المنفيين السياسيين، وإعادة الثقة بين السلطة والمجتمع.
ومن غير الممكن تصور تغيير ديمقراطي ناجح في سورية بمعزل عن عودة الروح إلى المجتمع المدني، وضمان مؤسساته المستقلة عن سلطة الدولة، كي يسترد المجتمع السوري حراكه السياسي والثقافي، بما يخدم إعادة بناء الدولة الوطنية الحديثة.
نحن أمام تحديات حقيقية تستوجب تفعيل الخيارات الممكنة، من خلال إرادة سياسية صلبة، وإدارة عقلانية لكل إمكانياتنا المتوفرة، بهدف التعامل مع الوقائع القائمة كما هي لا كما تتخيلها رؤى أيديولوجية مبسطة. فليس من الواقعية والعقلانية أن نغمض أعيننا عن مختلف الخيارات والقدرات التي يمتلكها شعبنا، وذلك من خلال إعادة صياغة كل أسس قوتنا، بترتيب أوضاعنا الوطنية، وإعادة ترتيب العلاقات مع العالم والموازين الدولية.

كاتب المقال باحث سوري مقيم في تونس