دمر الروس مدينة غروزني مثنى وثلاث ورباع. مع ذلك فإن المقاومة الشيشانية لا تزال تفاجئ القوات الروسية من بين الانقاض، وكما ينبت العشب بين جدران الأبنية المنهارة، كذلك تنبت المقاومة من بين العائلات المنكوبة. فالعنف مهما كان شديداً ومرعبا فإنه لا يؤدي في نهاية الأمر إلا إلى رد فعل أعنف.
لم يتعلم الأميركان من درس غروزني (بل لم يتعلموا حتى من دروس فيتنام). وهم الذين نددوا بانتهاكات حقوق الإنسان في العاصمة الشيشانية ودعوا إلى وقف التدمير العشوائي والقتل بلا شفقة ومن غير مبرّر. فإذا بهم يمارسون الأمر ذاته في الفلوجة متذرعين بالحجة نفسها، وهي وجود ارهابيين قدموا من خارج الحدود.
بالأمس وظف الروس هذه الحجة في غروزني. واليوم يوظفها الأميركيون في الفلوجة. وفي الحالتين جرت وتجري عمليات القتل والتدمير وانتهاك المقدسات بلا شفقة ولا رحمة.
لا يعني ذلك ان المقاومة الشيشانية على حق بالمطلق. فالجريمة المنكرة التي ارتكبتها في مدرسة مدينة أصلان مثلاً وأودت بحياة العشرات من الطلاب والأطفال في عمر الورود كانت أشد بشاعة من أي من الجرائم التي ارتكبت في غروزني. ذلك أن الجريمة لا تقاوم بجريمة أسوأ منها أو بمثلها. وفي الحسابات الأخيرة فإذا كان من حق الشيشان أن يقرروا مصيرهم بأنفسهم، فليس من حقهم ان يقتلوا الأطفال بدم بارد ليثبتوا هذا الحق أو أن يزرعوا المتفجرات في المسارح الفنية وفي محطات قطار الأنفاق. ثم إن روسيا التي أعلنت رسمياً أنها لا تنكر عليهم هذا الحق، لم تهتد في ظل العنف والعنف المضاد إلى المعادلة السياسية التي تؤدي إلى حل توافقي يوقف سفك الدماء ويصون حقوق الشيشانيين ومصالحها كدولة كبرى في الوقت نفسه.
كذلك، فإن المقاومة العراقية ليست على حق بالمطلق، فالجرائم التي ارتكبت باسم المقاومة ـ وأسوأ من ذلك باسم الدين ـ باختطاف الأبرياء من العراقيين ومن العرب والأجانب واحتجاز حرياتهم وتعذيبهم وقطع رؤوسهم لم تكن أقل بشاعة من الجرائم التي ارتكبتها وترتكبها القوات الأميركية باسم الديموقراطية. فلا جريمة هؤلاء تعطي شرعية للمحتل، ولا جريمة أولئك تعطي شرعية لمقاومة المحتل. وهنا أيضاً لا تقاوم الجريمة بجريمة مثلها أو بأسوأ منها، وإن كان الاحتلال العسكري ـ أياً كانت الشعارات التي يرفعها ـ هو في حد ذاته أسوأ أنواع الجرائم الجماعية.
كان يفترض أن تؤدي المجازر الرهيبة التي وقعت في البلقان في مطلع تسعينات القرن العشرين ـ والتي لا تزال تداعياتها مستمرة حتى اليوم ـ إلى تجنيب العالم ويلات مجازر مماثلة خاصة في القوقاز، وفي الشرق الأوسط. ولكن ما حدث في غروزني ثم في الفلوجة ليس بعيداً عما حدث في سبرينتشا في البوسنة. هناك وضعت الولايات المتحدة ثقلها المعنوي والعسكري لوقف المذابح الجماعية في البلقان فكانت بذلك في مستوى القيم الانسانية التي تنادي بها، وحظيت بسبب ذلك باحترام العالم وتقديره. ولكنها سرعان ما ارتدت عن هذه القيم لتمارس في العراق أسوأ أنواع الاحتلال العسكري التدميري، على النحو الذي شهدته بالأمس العاصمة بغداد بعد غزوها واقتحامها، وعلى النحو الذي شهدته اليوم مدينة الفلوجة بحجة تحريرها من الارهابيين. ولولا عناية الله لما خرج النجف الأشرف من بين براثن هذه السياسة سليماً، أو شبه سليم.
ان المأساة الكبيرة من غروزني إلى الفلوجة مروراً بسبرينتشا هي أن أحداً لا يتعلم من أخطاء غيره، فعندما يخبو ضوء الحكمة يسود ظلام غطرسة القوة.
- آخر تحديث :
التعليقات