عرفان نظام الدين- الحياة اللندنية: عند انطلاق شرارة الحرب على العراق كثرت التساؤلات وتعددت التكهنات حول حقيقة المخطط الأميركي للهيمنة على المنطقة وثرواتها ودور اسرائيل في التحريض على العرب واستغلالها الفرصة لإكمال عملية نسف مسيرة السلام ودفن اتفاقات أوسلو مع الفلسطينيين وقمع الشعب الفلسطيني بهدف تركيعه.
ومع أصوات هدير الطائرات ودوي المدافع التي تصم الآذان تسابق المحللون في طرح الأسئلة حول الهدف التالي بعد العراق ومن يكون سورية أم ايران أم السعودية التي تعرضت لحملة مسعورة من قبل الجهات الصهيونية تزامناً مع بدء الحرب؟ وامتدت التكهنات لتشمل أنظمة ومناهج ومخططات وكأن الأمر كان محسوماً وأن هذه الحرب ستكون مجرد نزهة مريحة.
هكذا كان التصور العام لدى سادة البيت الأبيض الذين استولوا على مقدراته وسيروه وفق مصالح وأهداف ومخططات المحافظين الجدد من «اليهوسيحيين» ونظرياتهم المتطرفة التي تصب في خانة مصالح اللوبي الصهيوني واسرائيل وليس في مصلحة الولايات المتحدة والشعب الأميركي. وهكذا تبارى المحللون والمنظرون، وبينهم عرب انساقوا وراء هذا الوهم الكبير، فصدق من صدق، وخنع من خنع، وخاف من خاف، وهرب من هرب وروج من روج، وصمد من صمد، وشكك من شكك (وهم قلة). وساعد في الترويج لهذا الوهم السقوط المدوي لبغداد والعراق بحدوده الشاسعة والصعبة التضاريس وشعبه الصعب المراس والشجاع وامكاناته الهائلة.
فقد تهاوى النظام البائس في التاسع من نيسان (ابريل) 2003 وكأنه هرم كرتوني ضخم تحول الى ركام في لحظات واختفى الجيش المدرب خير تدريب في لمح البصر في مأساة ميلودرامية كارثية مشبعة بخطايا الخيانة والجبن واللامبالاة وسوء الإدارة والتخطيط والتخبط.
كانوا يقولون ان الحرب أكدت ما ذهبوا اليه، وما بشرهم به العملاء، من أنها ستكون نزهة مريحة لا خسائر فيها ولا مصاعب وأن شعب العراق سيستقبل القوات الغازية بالورود والرياحين والزغاريد. وكنا نقول منذ اليوم الأول للحرب إن فرحة النصر لن تدوم وان أميركا تستطيع بسهولة الانتصار في الحرب لكنها لن تحقق أي انتصار في السلم وأن ما جرى كان بداية جديدة وليس نهاية أو خاتمة لقصة العراق الطويلة وأحزانه التي تمتد عبر التاريخ لآلاف السنين. وكنا نقول أيضاً ان الولايات المتحدة أدخلت نفسها في حقول ألغام ورمال متحركة لا يعرف أخطارها إلا من تعمق في دراسة تاريخ العراق والمنطقة وتشعباته ومداخلاته مع دول الجوار، ومن يعرف ويعلم حق العلم، طبيعة شعب العراق ومزاجاته وقدراته وتقسيماته الطائفية والعرقية والمذهبية وتداخلها وتباعدها وكأنها كلمات متقاطعة أو مجموعة ألغاز من روايات ألف ليلة وليلة.
ومع الأيام تكونت صورة مخالفة تماماً لتلك التي رسمها المحافظون الجدد من أتباع فرقة مسيحية منحرفة ومتطرفة تلتقي في خط واحد مع اسرائيل والصهيونية العالمية واللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة. وساعدت في تكوين هذه الصورة عوامل وأحداث وتطورات عراقية وعالمية ودولية عدة من بينها:
gt; الفشل في العثور على أسلحة الدمار الشامل وكشف التضليل في المعلومات والتحريف في الوثائق والكذب في سوق التبريرات والأعذار وبالتالي سقوط المبرر الرئيسي والأساسي لشن الحرب.
gt; صمود الموقف الدولي المعارض للحرب ولا سيما في أوروبا، وبالذات موقف فرنسا والمانيا وتداعي القوى الأخرى المسايرة وانضمامها الى الموقف المناهض للحرب والمشارك فيه كما جرى لاسبانيا ودول أخرى عدة بما اضطر الولايات المتحدة للجوء لحلفاء الأمس طلباً لمخرج لائق في القمة الصناعية ومجلس الأمن والقمة الأوروبية ـ الأميركية وقمة الأطلسي.
gt; سحب غطاء الشرعية والقانونية للحرب من قبل الأمم المتحدة والهيئات الدولية الأخرى وترك قوات الاحتلال مكشوفة الرأس مهددة بالمحاسبة عن كل انتهاك لحقوق الانسان.
gt; عدم تمكن الولايات المتحدة من التوفيق بين مطالب الأطراف العراقية والدولية. فلا هي أرضت الأكراد بسبب معارضة تركيا والأطراف العراقية لمطالبتهم بالاستقلال أو بالسيطرة على منابع النفط في كركوك وغيرها، ولا هي تفاهمت مع دول الجوار وأعطتها الضمانات والتطمينات اللازمة بأنها لن تكون التالية في الحرب، ولا هي سايرت الشيعة في تحقيق مراميهم في الحصول على حصة الأسد في الحكم والمؤسسات، ولا هي تمكنت من حماية الأقليات من سريان وآشوريين وتركمان وغيرهم، ولا هي أزالت مخاوف السنة من تهميشهم وإضعافهم وسلبهم امتيازاتهم وحقوقهم وأدوارهم التي مارسوها على مدى السنين.
gt; توالي الكشف عن الفضائح من تزوير وقائع الى سرقات وصفقات مشبوهة طالت العديد من أركان المحافظين المتطرفين وعلى رأسهم كبيرهم نائب الرئيس ديك تشيني.
gt; ارتكاب سلسلة من الأخطاء القاتلة ومن بينها حل الجيش وتشريد أكثر من نصف مليون انسان بلا عمل ولا راتب ولا لقمة عيش وهدم المؤسسات.
gt; انعدام الأمن وانتشار السرقات وعمليات الخطف وسرقة الآثار والثروات الوطنية وفشل القوات الاميركية في تأمين الحد الأدنى من متطلبات العراقيين وأولها الأمن والأمان ولقمة العيش والعمل وترك العراقيين مكشوفي الرأس والظهر أمام عصابات الخطف والسرقة والابتزاز.
gt; عدم قدرة مجلس الحكم الانتقالي السابق ومن ثم الحكومة الموقتة في ايجاد توازن بين متطلبات قوات الاحتلال ومطالب الشعب بسبب تضاربها أولاً والخلافات التي كانت تسيطر على أجوائه، وعدم توفر القناعة التامة بنجاح الحكومة الموقتة في تحقيق أهدافها بعد انتقال السلطة الى العراقيين.
gt; الكشف عن فضيحة التعذيب في سجن أبو غريب وغيره والممارسات اللاإنسانية والوحشية التي يندى لها الجبين وما نجم عنها من احراجات للادارة وإدانة للقيادة وتوجيه أصابع الاتهام لوزير الدفاع، وهو أحد أركان المحافظين ونظرياتهم الامبراطورية الخنفشارية. واحراج ادارة الرئيس بوش وهي تقف على عتبة الانتخابات الرئاسية لتجديد ولايته لفترة ثانية، خصوصاً وأن هذه الفضيحة اسقطت دعاوى تعميم الديموقراطية والشرق الأوسط الجديد ومزاعم الاصلاح والغيرة المفاجئة على شعوب المنطقة، كما انها دفعت للمقارنة بين ظلم نظام صدام ومخابراته وأجهزته وظلم قوات الاحتلال.
gt; والأهم من كل هذه العوامل والأكثر تأثيراً وفعالية عامل استمرار المقاومة العراقية ونجاحاتها في توجيه ضربات موجعة لقوات الاحتلال على رغم كل ما تمثله من جبروت وما تملكه من أسلحة ومعدات متقدمة ومتطورة. هذا مع وجوب التمييز والتفريق بين عمليات المقاومة وأعمال الارهاب التي شجبها العراقيون لأنها تسببت بمقتل الآلاف من أبناء الشعب ودمرت ممتلكاته وهدرت ثرواته الوطنية وهددت أرواحهم، كما انها استهدفت الأبرياء ولجأت لأساليب شوهت صورة العرب والمسلمين وخدمت أهداف الطامعين.
هذه العوامل مجتمعة لا بد أنها تؤكد قناعات ثابتة بأن نظرية اقامة الامبراطوريات قد ولت الى غير رجعة، وأن مفهوم الاستعمار بشكله العسكري البائد واللجوء للاحتلال العسكري قد سقط منذ زوال الاستعمار وتحرر الشعوب، وأن منطق القوة لن يفلح في إخضاع الشعوب حتى ولو كانت ضعيفة وفقيرة ومحكومة بنظام ديكتاتوري.
وأكبر دليل على ذلك ان ترسانة الأسلحة الفتاكة التي تملكها الولايات المتحدة لم تنجح في قهر الشعب العراقي وإرغامه على القبول بوجوده على أراضيه فتحولت قواتها الى ميليشيا تقاتل بلا نتيجة في شوارع الفلوجة وأزقات النجف.
ولكن هل يعني كل هذا ان نظرية الامبراطورية الاميركية العظمى قد سقطت الى غير رجعة؟ وأن أصحابها قد استسلموا ورضخوا وتخلوا عن نظريتهم المدمرة التي يمكن تلخيصها بالنقاط التالية:
gt; ان هذا العصر هو العصر الاميركي بلا منازع بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، والولايات المتحدة هي القوة الأعظم ولهذا فإن عليها ان تضرب ضربتها الآن للهيمنة على العالم حتى لا تضيع عليها هذه الفرصة الذهبية التي قد لا تتاح لها في عقود قادمة.
gt; ان الولايات المتحدة قادرة على شن حربين، وربما حروب عدة في آن واحد حتى ولو استمرت لسنوات طويلة.
gt; ان على الولايات المتحدة أن تقوم بهذه المهمة لوحدها حتى تحصد النتائج من دون الاعتماد على الأمم المتحدة (المؤسسة الدولية الفاسدة والمعادية حسب قولهم) أو على أوروبا القديمة (المعادية والطامحة للعب دور دولي يحل مكان الاتحاد السوفياتي).
gt; ان الخطوة الأولى في هذا المجال تكمن في السيطرة على منابع النفط وثرواته وخطوطه ثم التحكم في انتاجه وتسعيره وتوزيعه واستغلاله في الضغوط على أوروبا والصين واليابان وسد العجز في الاحتياطي الأميركي وتدوير العائدات لمصلحة الانتاج الأميركي والتحكم في سبل انفاقها.
gt; يروج المحافظون الجدد لنظريتهم بمزاعم انتهاء مفهوم السيادة للدول والتدخل في السياسات الداخلية ومناهج التعليم وراء قناع الاصلاح ونشر الديموقراطية وفرض العولمة ومفاهيم التجارة الحرة المنسجمة مع المصالح الأميركية.
gt; الالتقاء مع اللوبي الصهيوني واسرائيل في كثير من المواقف من بينها الدعم المطلق للكيان الصهيوني والزعم بأن الاسلام هو الخطر الأكبر الذي يهدد الحضارة العالمية والترويج لنظرية الصراع لا الحوار وتفتيت الدول العربية حسب نظرية كيسينجر القديمة المتجددة.
وبالطبع فإن هذه النظرية تحتاج الى مجال أكبر لشرح تفاصيلها ولكن ما يهمنا اليوم هو معرفة هل ان حرب العراق قد انتهت الى الفشل وبالتالي الى سقوط المحافظين الجدد ونظريتهم المدمرة ودعواتهم المتكررة لاقامة الامبراطورية العظمى الوحيدة؟ وهل نستطيع ان ننكر ان «بعض» العرب سهل عليهم الأمر بتقديم الحجج والمبررات والذرائع كما فعل بن لادن وصدام وغيرهما... وما زال بعضهم الآخر يلجأ للأساليب نفسها المدمرة والبالية؟
الأكيد ان النظرية التوسعية تعرضت لانتكاسات كبرى ولهزات موجعة، كما ان بعض منظريها وبينهم رائدهم ريتشارد بيرل قد سقط. كما ان الاتهامات تطال زعيمهم ديك تشيني الذي كان من المفترض أن يبحث الرئيس بوش عن مرشح أكثر شعبية كنائب له لكنه لم يفعل مما يرسم علامات استفهام عدة حول استمرارية نظرية الهيمنة.
كما ان الانتقادات والاتهامات تنهال على وزير الدفاع رامسفيلد و«أركان حربه» ترافقها مطالب باستقالته وتحميله مسؤولية الفشل وتتهم أقرب معاونيه بالتجسس لحساب اسرائيل. وهناك من يؤكد سقوط النظرية وفشلها ويبشر بعدم تكرار الولايات المتحدة لهذه التجربة المريرة التي ماتت وهي في مهدها بعدما كلفتها تهديد مصالحها وتشويه صورتها وكبدتها خسائر فادحة في الأرواح والأموال وعرقلت حربها على الارهاب ولم تمكنها من شق صف أوروبا واضعافها ومنع تعاظم نفوذها وقوتها بعد أن أصبحت تضم 25 دولة.
إلا أن هناك من يتوقع ان يكون ما جرى مجرد كبوة أو هدنة يتوقف عندها أصحاب النظرية لالتقاط الأنفاس ومعالجة الأخطاء وسد الثغرات للانطلاق مجدداً في رحلة الهيمنة بعد أن مهدوا لها بفتح الملف النووي لايران وإقرار قانون محاسبة سورية واستصدار قرار لمجلس الأمن ضدها بشأن لبنان وابتزاز السعودية ومصر واطلاق يد اسرائيل في فلسطين وتحقيق نجاح لافت في تفتيت العراق وانهاكه وصولاً الى عزله عن محيطه العربي والاسلامي.
وبكلمة مختصرة يمكن القول ان كل شيء يتوقف في اميركا على نتائج الانتخابات الرئاسية. فإذا عاد بوش مع تشيني فإن فوزه سيعطي الحافز لاستئناف المسيرة، خصوصاً ان الحزب الجمهوري أقر في مؤتمره الأخير اعتماد ما يسمى بالحرب الوقائية التي يستند عليها المحافظون لتبرير حروبهم. اما إذا سقط بوش وفاز منافسه جون كيري فإن النظرية ستسقط حكماً دون أن يعني ذلك ان الاستراتيجية ستتغير. فلكل عهد رؤيته ولكل رئيس نظريته ولكن المحصلة النهائية لن تكون في صالح العرب حسب أقوال المرشح الديموقراطي وجنوحه للمزايدة على بوش في دعم اسرائيل... اما أفعاله فلن نلمسها الا بعد تربعه على عرش البيت الأبيض.
ومن الآن وحتى حلول هذا الموعد يبحث بوش عن مخرج لائق يحفظ له ماء وجهه ان بتحسين الأداء الاقتصادي أو بالتخفيف من أعباء احتلال العراق، بالتعاون مع أوروبا وروسيا والأمم المتحدة بحيث لا تخرج الولايات المتحدة مهزومة (وهذا خط أحمر) ولا تلملم جراحها لتعود منتصرة ومهيمنة ومتكبرة على حلفائها وأصدقائها قبل أعدائها. وقد نجح الرئيس الفرنسي جاك شيراك في التعبير عن الواقع الحالي بقوله لبوش: نحن لسنا خدماً للولايات المتحدة بل حلفاء»، والمطلوب منا كعرب أن نتشبه بشيراك ونصرخ بحزم وعنفوان مرددين مقولته المعبرة.
التعليقات