حازم صاغيّة: تناولت الحلقة الثانية أمس عماد مغنيّة واللقاء المبكر بين طلب الجنة ورقص الأبالسة في الجحيم، هنا حلقة ثالثة:
من يزر الضاحية الجنوبية اليوم يأخذه ذاك الشبه بينها وبين حزبها، «حزب الله». ففي كل مكان تنتشر صور الخميني وخامنئي والأمينين العامين السابق والحالي، عباس الموسوي وحسن نصر الله. وأغلب الوجوه عابس كالح فكأن أصحابها يعلنون استياءهم من رائحة كريهة تُفسد الهواء الساري.
وكيما يُصفّى الهواء، لا بد من إحكام القبضة على الجو، أو ما يسميه البعض الفضاء العام. واستيلاء كهذا، وكما في الحالات المماثلة جميعاً، يبدأ بالانقلاب على ما كانه الفضاء العام نفسه. فـ«ساحة عبد الناصر»، مثلاً، وكانت الساحة الرئيسية في برج البراجنة، حُوّلت ساحة الإمام الخميني، ترتفع فيها ثلاث صور ضخمة للخميني وخامنئي ونصر الله مكان تمثال الزعيم المصري الذي أزيل.
وهي خطة شُرع بتنفيذها مبكراً بعون عناصر «الحرس الثوري» الإيراني ممن وفدوا الى الضاحية أوائل الثمانينات، حاملين تجربتهم في إقامة نظام ثوري. وليس صعباً في من يتأمل خريطة لبنان اكتشاف أهمية الضاحية: فهي تربط الخزّانات البشرية للحزب في الجنوب والبقاع، مَصدري العدد الشيعي، فيما تمارس الرقابة على العاصمة وقرارها. لكن الناظر الى لبنان يكتشف بالسهولة نفسها أن ذاك البلد ليس إيران، لا تركيباً سكانياً ولا ظروفاً سياسية واجتماعية، فيما تصفية هوائه مهمة أقرب الى الاستحالة.
والغضب على الهواء ابتدأ بالمسيحيين. فبين الاجتياح الاسرائيلي في 1982 و«انتفاضة» 6 شباط (فبراير) 1984 التي طردت السلطة المركزية من بيروت وضاحيتها، عاد قسم من الذين هُجّروا في حرب السنتين الى بلداتهم وقراهم. وقد تراءى لهؤلاء، ساذجين كما تبيّن لاحقاً، أن الوجه الوطني للسياسة، وقد صارت اسرائيل هنا، سوف يغلب وجهَها الطائفي. وتلاحقت العودات الفردية الى أن قُتل الشيوعي ميشال واكد إثر «الانتفاضة»، بعدما بذل كل جهده لردع مسيحيي حارة حريك والمريجة عن بيع أرضهم. هكذا انطلقت، بُعيد مصرعه، موجة بيع، فيما كان المال الشيعي المهاجر يشتري بأسعار زهيدة، رافعاً قيمة الأراضي والشقق. وعبر رساميل تربط معظمَ أصحابها صلةٌ ما بـ«حزب الله»، تكرّس التهجير المسيحي والقطيعة المفضيان الى صفاء طائفي.
وطال النهج هذا الأقلية السنيّة الصغيرة في الضاحية. يشهد على ذلك جامع العرب
في برج البراجنة، حيث تقيم حوله عائلات سنية «أصلية» كـ«عرب» و«عثمان». بيد أن هؤلاء، منذ رفع الحزب أعلامه في الضاحية، عانوا ويعانون إقامة مجالس عاشوراء بمكبرات الصوت على مقربة مئة متر منهم. ولم تفلح في تجنيبهم الاستفزازَ المشوب بالازعاج محاولاتٌ متواصلة أُجريت مع قيادات الحزب التي اكتفت بتوزيع البسمات المطمئنة.
ولم تخل سيرورة السيطرة على الضاحية من تعقيد وتعرّج. فمع توالي التصفيات للشيوعيين والبعثيين، اندلعت حرب المخيمات حيث شكلت «أمل» ذراع دمشق في الإمساك بها حياةً وقراراً. وكانت « أمل» لا تزال الطرف الوحيد الذي يشارك «حزب الله» سيطرته على الضاحية.
يومها لم يستطع الأخير أن يفعل الكثير، ما خلا التعاطف الضمني مع الفلسطينيين المحاصَرين وتقديم خدمات فردية لهم. ذاك أنه، وهو حزب الراديكالية الشيعية، ما كان يسعه الاصطدام بالعصبية الطائفية التي يسعى الى شحذها وتجديدها. وهو، أيضاً، لم يسعه الخروج على الإرادة السورية ومصادمتها فيما تهمة «العرفاتية» ترقى الى مصاف خيانة عظمى. مع هذا شكلت حرب المخيمات فرصة «حزب الله» لتصفية حسابه مع «أمل»، والاستئثار بالضاحية تالياً، من دون ان يكون الفلسطينيون المهيضو الجناح قادرين على الإفادة. ففي تلك الحرب حصل عكس ما حصل في حرب السنتين حين تمدد المقاتلون الفلسطينيون في الضاحية. فقد احتلت «أمل»، هذه المرة، خطوط التماس مع مخيم برج البراجنة وجعلت تتمدد في الاتجاهين انطلاقاً منها. ولم يحل التعاطف الشيعي العام معها، في مواجهتها الفلسطينيين، دون التعبير عن استياء راح يتراكم. ذاك أن «الحركة» المتشكّلة من وافدين جنوبيين وبقاعيين، استفزّت الأهالي «الأصليين» في تجاوزاتها المتمادية على حياتهم وأنماط عيشهم اليومي. وبدت التضحية بـ «أمل» سهلة لأن البديل المتوافر كان أكثر شيعية وإيماناً، تجاوزاته قد تطاول الصياغة العامة لاجتماعهم من دون أن تنطوي على الوضاعات المألوفة في الميليشيات. هكذا شرع بعض «السكان الأصليين» يتجهون الى «الحزب»، باحثين فيه عن عضد وظهير في وجه «الحركة».
وبالنتيجة، أدت اشتباكات الطرفين في 1987 الى سيطرة «حزب الله»، المدعوم بالسكان المحليين، سيطرة تامة، فبدا كأنه نجح في وراثة طرفي حرب المخيمات.
والحال أن «أمل» أدت خدمات مداورة لا حصر لها لغريمها ووريثها. ففضلاً عن السلوك الميليشياوي المنفّر، أطلقت مشروعاً طائفياً ما لبثت أن عجزت عن استكماله. كذلك أفضى دورها الأساسي في «انتفاضة 6 شباط»، قبل ثلاثة أعوام، الى توسيع الفراغ الأمني والخدمي الذي كان، قبلذاك، مُناطاً بالسلطة المركزية. وإذ رد الجيش اللبناني بقصف مركّز ومتواصل للأخيرة، غدا الطرفُ الأشد ابتعاداً عن الدولة والأكثر قطعاً معها الأقربَ الى قلوب السكان.
أما الفلسطينيون ممن كُسرت شوكتهم بغزو 1982، قبل أن تُكسر ثانية بحرب المخيمات، فأصبح في الوسع انتزاع قضيتهم منهم وتمثيلها والنطق باسمها بالنيابة عنهم. وهذا ما كان مهنة شائعة في لبنان الثمانينات، أسسها النظامان السوري والإيراني الأحرص على فلسطين، كما قالا، من الفلسطينيين. ولم يكن عديم الدلالة ان الحزب وقد سيطر على الضاحية، استأنف مطاردته للنشطاء اليساريين المتحالفين مع المقاومة. وهو، في سلوكه هذا، لم يقتصد في استخدام السيوف المثلومة: فالناشطون هؤلاء فلسطينيو الهوى، كما عمم الحزب، وهو ما يكفي لجعل عائلاتهم تتخلى عنهم وتُطلق يده في بتّ أمرهم.
هكذا جثمت، على الضاحية، «دولة» حزب واحد يحدوه التزمّت، فيما انفتح الباب واسعاً لاستيراد كل ما هو إيراني، رموزاً وطقوساً، صوراً وأفكاراً، علّهم يطهّرون الهواء البيروتي كما طهّروا الطهراني. وكان المطلوب دائماً اجتثاث كل ما يردّ الى ذاكرة بعيش لبناني مشترك وتقاليد سياسية هي من أسباب ذاك الهواء الفاسد.
فقد تعاظمت الفوارق، مثلاً، بين المراسم الكربلائية التقليدية في بيروت الغربية، لا سيما في المدرسة العاملية، الحصن التربوي التقليدي لشيعة بيروت، وبينها في الضاحية حيث تغلغلت الطرق الإيرانية، واللطم والموت والشهادة تحتل فيها موقعاً حاكماً. واختلّت معادلات القوة فباتت حارة حريك، التي اعتمدها الحزب مقراً لقيادته، أهم وأكبر من برج البراجنة، وهي تقليدياً عصب الحياة السياسية للضاحية. وعلى رغم استقطاب «حزب الله» بضعة وجوه في عائلات التقليد السياسي، غيّر التوازن كلياً بينها وبين الجماعات الوافدة الضعيفة التقليد، خصوصاً في المناطق التي بالغت الحروب في إنهاكها وتغيير تراكيبها السكانية.
لكن «حزب الله» الأمني والمتزمّت كان أيضاً شعبياً وشعبوياً، كما قدم الخدمات التي احتاجها السكان بإلحاح فبادلوه بالولاء. وبجمعه بين هذه السمات، لم يُضطر الى اتباع نهج غليظ في القمع. فهو، مثلاً، يوزّع، بقدر من الخفاء، عناصره على مداخل الأحياء التي يقطنها قادته وكوادره مما يُصطلح على تسميته «المربّعات الأمنية». أما الشوارع الداخلية فتتم السيطرة عليها عبر العائلات المنضوية فيه حيث تتحول كل واحدة منها وحدةً أمنية. ودمج كهذا للبُنيات العائلية في البنية الحزبية، وهو من مواصفات التنظيمات المحافظة، يوشّح القمع برداء أهلي يتيح للسكان قدراً ملحوظاً من الشعور بالحرية والمبادرة.
وبالفعل نجح «حزب الله» في ضبط الأمن تعدياتٍ وانتهاكاتٍ وسرقات، كما تجنب، في الضاحية، ما سجلته سنواته الأولى في البقاع حيث رُشّت فتيات، لم يتقيّدن بالزي الإسلامي، بالأسيد. لكن «المجتمع المضاد» والغاضب الذي يبنيه هناك، يمضي بلا هوادة في تنقية الهواء، لا سيما حين يتصل الأمر بالأساسيات أو ما يخاله الحزب كذلك. والتضاد يتعدى سيرة الحزبيين وسلوكهم المخالف الى سيرة وسلوك مضادين يلفّان الضاحية نفسها. فإعلانات الشوارع، مثلاً، هي بعض ما ينبغي الحصول على موافقة الحزب عليه. وثمة اعلانات تنتشر في سائر المناطق اللبنانية ولا يؤذَن لها الانتشار في الضاحية. وفي المقابل، قد تروّج شركات إعلانية هناك ملصقات تغاير التي في مناطق أخرى. والفتاوى الدينية تملك، بطبيعة الحال، الأولوية على البراءات الصحية، ما يتجاوز الذبح الحلال الى مزاوجات غريبة يحفل بها مشهد الضاحية وتعبّر عنها عناوين تطهّر الغربي بالإسلامي، كـ «سناك العباس» و«باتيسيري المهدي».
وتتولى إذاعات «النور» و«البشائر» و«البصائر» و«الإيمان»، وقبلها إذاعة «المستضعفين»، نشر الفتاوى في خصومات شخصية وتجارية ومنازعات عائلية يتصل بعضها بالحياة الجنسية داخل الأسرة. ولئن بيعت الخمور في محيط الضاحية، لا في داخلها، بقيت الأعراس، حتى أوائل التسعينات، ممنوعة. فالرقعة التي يحكمها الحزب تحكمها بامتياز ثقافة الموت والشهادة. وقد درّجت صحيفة «العهد»، منذ صدورها أواسط الثمانينات، زيارة بيوت أهالي الشهداء وكتابة سِـيَرهم كركن صحافي راسخ. كذلك عُمل بدأب على ربط السِـيَر تلك بتجارب المهدي والحسين، وتقديمها موصولةً بالموت والموتى عبر المنامات والرؤى والأحلام. ومنذ بواكير «حزب الله» في 1982، أنشئت «مؤسسة الشهيد» على غرار أمّها الإيرانية، فتكفّلت رعاية عائلات الشهداء. الا انها، الى هذه الوظيفة، بثّت جسماً من الأفكار الخرافية في الاجتماع الأهلي، بدا معها كأن الحياة العامرة هي هناك حيث الشهيد «سعيد»، لا على الأرض الملفوفة بهواء ملوّث. ومن خلال بذل الدم، كما تراها ثقافة الحزب، تتجدد الرابطة القرابية انطلاقاً من وحدة عائلية يلعب فيها كل عضو دوره المرسوم: فالأم (ووظيفتها الانفعال والتلقي) تقيم على الظن أن ابنها غائب الى ان يتولى الأخوة «زف البشارة» اليها باستشهاده. عندها يتوافد الأهل والأقارب والجيران للتبريك. فحين يصل الجثمان، كما يمضي السيناريو المتكرر، تُجرى طقوس الغسل في الحسينية وسط تراتُب قرابي يتصدّره تمثيل العائلة الكبرى التي هي الحزب. ولأن الأرض موصولة بالسماء، ثمة دائماً من يرسل تحياته الى من سبقوه في الشهادة، فيما يتولى الإعلام الحزبي مقابلة أفراد الأُسَر فتتحدث الزوجة أو الأبناء عن «العريس».
والكتب التي يقرأها المحازبون والأنصار في عدادها واحد عنوانه «عالم البرزخ»، مرفَق بشريط مصوّر على غلافه ضريح مُنوّر، لصاحبه الشيعي الكويتي سيد وليد المزيدي، وكتاب آخر اسمه «عذاب القبر»، كتبه شيعي إيراني تسمّى باسم الصحابي سلمان الفارسي. وهذه أعمال تمارس التحبيب بالموت عبر التخويف به واستخدام التخيّل والتفنن، في حدود السذاجة الفنية، للغرض هذا. فيُخاطَب القارىء بوصفه الميت المسلوب الحرية والمبادرة الذي «تأكل لحمه الديدان»، وما عليه، بالتالي، الا الخضوع والتسليم والتغاضي عن أي معنى شخصي وكرامة فردية قد ينطوي عليهما.
ولا تحول مشاركة الآخرين في نشاط جامع دون التضادّ معهم فيه. فللحزب، مثله مثل التنظيمات الأصولية السنية، فنانوه، وبعضهم نجوم في بيئته. والفنانون هؤلاء، أو المنشدون، فيهم من يُعرَف بإنشاد الموالد، اي أغاني المناسبات السعيدة، ومن ينشد الأناشيد الدينية والسياسية الصالحة لكل ظرف، وكذلك، وهذا الأهم، من ينشد اللطميات في مجالس العزاء وعاشوراء. ولهؤلاء شركات انتاج وتسويق يديرها الحزب، أهمها «مؤسسة بنت الهدى» التي تبيع كاسيتاتهم وأقراصهم المُدمّجة وملصقاتهم. وفي اللطميات حيث يبزّ الشيعةُ العرب اللبنانيين، يبقى الأول العراقي باسم الكربلائي، يليه البحريني صالح الديراني فالبحريني الآخر الشيخ الأكرف. وكان الإيرانيون، إبان إقامة عناصر «الحرس الثوري» في الضاحية، مَن أدخل اللطميات الى الغناء الحزب اللهي عبر المغني المدعوّ عساكري. بيد أن النساء اللواتي يغنين لا يفعلن الا في مجالس النساء، من دون أن يحظين بكاسيتات ومن دون أن تظهر لهن صور.
والتضاد، الذي يزيده الخوف الوسواسي من الاختراق الخارجي، يتخذ أشكالاً أخرى تتفاوت بين الغريب والطارىء. فلأول مرة يتعرّف الشيعة اللبنانيون، على يد «حزب الله»، على قسائم بالوصية الشخصية، حيث يسمح الفقه الجعفري بالتوصية بثلث الممتلكات. وإذ نقرأ على الغلاف «وصيّة المسلم - روي في النص الشريف: من مات بغير وصيّة، مات ميتة جاهلية - إعداد السيد سامي خضرة - منشورات مؤسسة بنت الهدى»، نقرأ في الصفحتين 12 و13 من الكرّاس: «وأوقفُ لصالح المقاومة الإسلامية ومستلزمات الجهاد والمجاهدين الأمور التالية… على أن يكون ذلك تحت رعاية ولي أمر المسلمين، نائب إمام الزمان عليه السلام». فعالم «حزب الله»، إذن، عالم قوامه الصفاء والمضادّة والقيم الموغلة في العداء للحياة والحرية. أما مشروعه فزبدته إحلال الطائفة، في تأويل لها عاميّ، في موقع الصدارة والحاكمية. وهو مشروع استثمرت إيران فيه، لكن الإيرانية باتت جزءاً لا يتجزأ منه بسبب أخذه المتعصّب بـ«ولاية الفقيه». هذا هو الأصل، فيما «المقاومة» وسيلته المتاحة لخدمة الأصل ذاك.