تحكي نكتة معروفة لدى شيعة العراق عن خطيب فاشل أعاد ثلاث مرات رواية واقعة استشهاد الحسين، حفيد الرسول صلى الله عليه وسلم، من دون أن يستجيب له الجمهور بالبكاء. عندها نفذ صبره وحثهم على البكاء، فانبرى له أحد الحاضرين قائلاً: مولانا عليك أن تأتي بعصا تضربنا بها بقوة حتى نبكي. نكتة الرهان الفاشل للغزاة الأنجلو- أميركيين على شيعة العراق لا تُضحك، بل تُبكي. نتائج الفشل عرضها الشيخ جواد الخالصي، المشرف على "مدرسة الخالصي" في الكاظمية، التي تُعد من أعرق مراكز الشيعة العرب في العالم الإسلامي. الرسالة الأساسية، التي حملها الخالصي إلى ملتقى الأكاديميين والكتاب العراقيين في لندن تتلخص بجملة واحدة "الحرب التي بدأتها الولايات المتحدة مع العراق لم تنته حتى هذه اللحظة". نقل الخالصي ذلك عن أبرز القادة العسكريين والسياسيين الشيعة في العراق، ناجي طالب، الذي شغل مناصب قيادية عليا في الجيش منذ العهد الملكي، وتولى رئاسة الوزارة في العهد الجمهوري في ستينيات القرن الماضي.
وعرض الشيخ الخالصي بالأرقام والوقائع كيف حوّل الاحتلال العراق إلى "بلد بلا سيادة، وبلا دولة، ووطن بلا حكم، وشعب بلا قرار". وعندما يتحدث الخالصي يُنصت له العراقيون بمختلف أديانهم ومذاهبهم وأعراقهم. فمدرسة الخالصي عملت منذ أكثر من قرن على تجاوز الثقافة الطائفية المنغلقة، وطوّرت بشجاعة ودأب ثقافة وطنية ضمن إطار الثقافة الإسلامية والعربية. يعرض ذلك كتاب صدر هذا الأسبوع في باريس بالفرنسية عن محمد مهدي الخالصي، الذي يُدعى بالخالصي الكبير. والسيرة الذاتية للخالصي الكبير هي سيرة الجهاد الوطني العراقي ضد الغزو العسكري البريطاني ومشروع الانتداب مطلع القرن الماضي، وجهود العراقيين في وضع أسس الوحدة الوطنية. وحافظ الخالصي الكبير عبر مسيرته الشاقة في خنادق القتال والسجون والمنافي على رؤيته الوطنية، وجهوده في أن يصبح شيعة العراق جسراً يربط بين السنة والشيعة في العالم الإسلامي، وبين الإيرانيين والعرب في العالم العربي. تعرض الخالصي بسبب ذلك إلى حرب شعواء من قبل مرجعيات وجماعات سياسية طائفية اتهمته بمحاباة السُنة والتسنّن. ولم تنجح حملات طائفية مقذعة تسحب وراءها نفايات القرون في حمل الخالصي الكبير على التخلي عن عقيدة التوحيد الدينية والوطنية، بل شنّ هجوماً مضاداً في كتابه "علماء الشيعة والصراع مع البدع والخرافات الدخيلة على الدين". دعا الكتاب إلى "ألا تُعطى إجازة المنبر إلاّ لأهل الفضل والعلم من الذين لهم ما يكفي من العلم في العقائد الإسلامية، وتفسير القرآن الكريم، والأحاديث الصحيحة، والمذاهب والأديان المختلفة، وما يجري في الدنيا، بشرط ألاّ يجعلوا المنبر وسيلة للارتزاق".

وواصل أبناء الخالصي ومدرسته على امتداد القرن الماضي استكشاف غنى وتعدد فرص العراق، الذي ترتكز شيعيته إلى تاريخ أعمق من إيران، وكافحوا من أجل أن يلعب شيعة العراق دوراً استراتيجياً في تعزيز كيان دولة العراق وفتح خيارات وممكنات داخلية وخارجية للعراقيين. واستهدفت مدرسة الخالصي والمثقفون الملتفون حولها حل إشكالية قلق الهوية وضعف المواطنة العراقية، التي لعبت دوراً كبيراً في زعزعة العراق وحوّلت التعدد المذهبي والديني والأعراقي من فرصة إلى مصيبة، آخرها الاحتلال الحالي.

شهادة جواد الخالصي عما أدّت إليه كارثة الاحتلال تحطم القلب. فالأمن معدوم بالمرة "حيث يخرج العراقي من منزله ولا يظن أنه عائد إليه حياً". و"خدمات الكهرباء والبلديات والصحة العامة منهارة حتى في مناطق تُعتبر هادئة، كعاصمة الحكم الذاتي في أربيل، التي تحصل على أقل من 3 ساعات كهرباء كل 24 ساعة. مرض التهاب الكبد الفيروسي، الذي كان شبه معدوم في الماضي انتشر كالوباء في مدينة الصدر في محافظة بغداد، وأصاب الطبيب المشرف على العلاج في المستشفى. خدمات الكهرباء والمجاري والبلديات معطّلة حتى في المنصور، الذي يُعد من أرقى أحياء بغداد، فماذا عن "الشعلة" و"البيّاع"، وغيرها من الأحياء الشعبية"؟

وذكر الخالصي أن الفساد المستشري لم يعد مقتصراً، كما في الماضي على جهات محدّدة، بل يشمل الكثيرين. "حتى الرسالة الدينية، التي استشهد من أجلها كبار الأولياء تُباع بشكل وضيع. رجال الدين المُعمّمون يشاركون في البصرة بتهريب النفط، الذي يُضخّ في أيام محددة لحسابهم الخاص. والعراق المستباح هو البلد الوحيد في العالم، الذي يُضخ نفطه دون عدّادات، ويباع دون أذونات، أو سجلات حسابية". و"الاستخفاف مريع بالدم العراقي، يهدره جنود الاحتلال دون خشية من عقاب، وقد أعفاهم مجلس الحكم من الخضوع لقوانين البلد". وتساءل الخالصي "ما الحل؟ هل نذهب مع القوى، التي ذهبت مع مشروع الاحتلال، وأضاعت بالنتيجة كل شيء؟ هل نذهب على مراحل، كما فعل البعض، ونشارك في خطوات محددة من المشروع؟". جميع هذه الحلول غير مجدية في تقدير الخالصي، الذي يرى "الحل العملي الوحيد هو أن يكون لنا مشروعنا الخاص، وتنظيمنا الخاص. الحل ينبغي أن يكون عراقياً خالصاً يشمل كل العراق، لا تفرضه ولا تحدده عِرقية أو طائفية".

بسبب ذلك وقف الخالصي مع القوى الوطنية، التي قاطعت الانتخابات، وتوقع لها مصيراً كانتخابات فيتنام تحت ظل الاحتلال الأميركي عام 1967. كانت نسبة المشاركين فيها أعلى بكثير من انتخابات العراق، لكنها لم توقف حرباً مدمرة انتهت بعد سنوات بهزيمة كاسحة للمحتلين الأميركيين والعناصر المحلية التي عملت لحسابهم. وأكد الخالصي "لن ننتظر ما يقومون به، بل نوجد مثابة وطنية واحدة، وغطاءً عراقياً موحداً، ونعمل على إنهاء الاحتلال، وإقامة حكومة عراقية تضمن المساواة والتآخي بين الجميع". والعراقيون يملكون في رأيه كفاءات قادرة على تحقيق ذلك، كما برهنت مبادرة "المؤتمر التأسيسي العراقي الوطني" المناهض للاحتلال، الذي ساهم في إنشائه وانتُخب أميناً عاماً له. يضم "المؤتمر التأسيسي" نحو 20 جماعة وحزباً واتحاداً من مختلف الأديان والمذاهب والاتجاهات السياسية.

واستنكر الخالصي بشدة اتهام الطوائف الإسلامية السنية والسلفية بعمليات قتل الشرطة العراقية وأفراد الحرس الوطني، وذكر أن ثلاثة من أئمة السنة قُتلوا في أسبوع واحد أمام مساجدهم. وكشف النقاب عن إنشاء وكالة المخابرات المركزية الأميركية "السي آي أيه" مدرسة لتخريج دعاة إسلاميين متطرفين في أحد بلدان المغرب العربي، وبرامج الولايات المتحدة لتفكيك قوات المقاومة، وإعادة تركيب عناصر منها تنفذ عمليات إجرامية لتأليب السكان ضد المقاومة وإثارة الفتنة الطائفية. وتحدث الخالصي، الذي شارك في الشهر الماضي في "المنتدى الاجتماعي العالمي" في البرازيل عن دعم ملايين الناس لنضال العراقيين، وتنظيم مظاهرات للتضامن معهم حول العالم في 19 من الشهر الحالي. وأجاب في حديثه عن أسئلة عدة، بينها المفاوضات مع الأميركيين، "الذين يصرون على الاجتماع بكل جهة داخل (المؤتمر التأسيسي) على انفراد"، وذكر أن الحوارات مع الإيرانيين استهدفت "جرّ إيران إلى الموقف الصائب"، وقال إنها ساخنة دائماً، لكنها ليست بدون جدوى.