جدول الأعمال الأميركي للبنان واضح: انسحاب، انتخاب، سلاح الميليشيات، تصعيد الضغط على سوريا. التفاصيل كثيرة إنما هذه هي العناوين الأساسية. وهي عناوين تصب كلها في مجرى واحد هو إعادة ربط لبنان بالأزمات المفتوحة في المنطقة، من إيران إلى فلسطين، عبر البوابة الأميركية. ولقد شهدنا نماذج كثيرة عن تدخل واشنطن للضغط على من يتقبّل الضغط من أجل تسهيل ربط هذه الحلقات ببعضها بحيث لا يضيع الهدف المركزي في كل مرحلة وبحيث تخدم مستجدات مرحلة ما المرحلة التالية.
عندما شرع الانسحاب السوري يكتمل، وهو لدى الولايات المتحدة من شروط الانتخاب الحر، كان العمل جارياً من أجل امتلاك وسائل العمل في المرحلة التالية: حكومة سريعاً، احترام مواعيد الاقتراع، تفكيك البنية الأمنية، استقدام المراقبين، صدور التقرير حول 1559، إصدار 1595، إلخ...
الانتخابات اللبنانية مهمة لدى الولايات المتحدة لسببين. الأول هو أنها تتساوق مع أطروحات lt;lt;الثورة الديموقراطيةgt;gt; في lt;lt;الشرق الأوسط الكبيرgt;gt;. والثاني هو الاعتقاد بأن أكثرية ما بعد الانتخابات، وهي ستكون أكثرية بغض النظر عن القانون، ستتولى طرح موضوع lt;lt;السلاحgt;gt;. أي أنها ستجد نفسها في موقع من يضطر إلى الاختيار بين ذلك وبين التحول إلى أكثرية حاكمة، مارقة على الشرعية الدولية، وراعية للإرهاب.
غير أن هذه الأكثرية الموعودة، وهي اليوم المعارضة، كانت شرعت تظهر علامات تصدّع بما أنتج تقديرات بأنها ستتفرّق، لاحقاً، حول خطوط انقسام جديدة مما يعيد خلط الأوراق. إلا أن المفاجئ هو أن الافتراق سبق الانتخاب وهو يتجلى، اليوم، في سجالات سياسية تحيل المشهد اللبناني إلى ما يشبه رقعة الكلمات المتقاطعة.

وإذا كان من سمة لهذا الافتراق فهي أن القوى الإسلامية في المعارضة انقلبت على القوى المسيحية، أو بعضها. وكان المدخل إلى هذا الانقلاب اعتماد قانون الألفين لإجراء الانتخابات النيابية على أساسه. فالقانون المذكور يعيد وضع بيئات مسيحية تحت رحمة أصوات إسلامية مخاصمة ولكنه، أيضاً، يعزز موقع المعارضات الإسلامية حيال المعارضة، أو المعارضات، المسيحية. إنه قانون ظالم بالتأكيد، ويحمل قدراً lt;lt;محترماًgt;gt; من تزوير التمثيل السياسي (هذا بحث آخر) ولكنه، أيضاً، يقود إلى مفارقة مضحكة مبكية: تحويل الانسحاب السوري إلى هزيمة سياسية مسيحية!
لم يعد سراً أن المجلس النيابي العتيد سيحتوي أكثرية نيابية (يعززها القانون المعمول به بما يفوق وزنها) تقول في مواقفها المعلنة إنها لا تماشي السياسة الأميركية في ما يخص lt;lt;سلاح الميليشياتgt;gt;. تقول شيئاً آخر يتراوح بين الاختلاف والتباين: رفض القرار 1559، البحث عن تسوية لبنانية لا تلبي المطلب الأميركي الإسرائيلي، السلاح قضية داخلية، الحل بالحوار وهو مفتوح على احتمالات متعددة، حرص على بقاء البلد في موقعه، إلخ...
هناك تناقض، إذاً، بين الولايات المتحدة التي واكبت التحركات الأخيرة ورعتها، وبين قوى محلية استفادت مما جرى لكنها غير مستعدة للدخول في مغامرات lt;lt;الفوضى البنّاءةgt;gt;. كان lt;lt;الانسحابgt;gt; معركة مشتركة ولو لدوافع مختلفة، وكذلك lt;lt;الانتخابgt;gt;. غير أن lt;lt;سلاح الميليشياتgt;gt; قضية خلافية يستحسن التحكّم بالمواجهة حولها عشية الاقتراع. ليس القصد، هنا، تعداد النواب المقبلين وانتماءاتهم. إن القصد هو التأكيد على أن انكساراً حصل في دينامية معينة، دينامية طائفية، وأن هناك من يقول إنه، بغض النظر عن الوجود السوري من عدمه، فإن مركز الثقل في تقرير المصير الوطني اللبناني لن يتغيّر.
إذا عدنا إلى المشهد العام سنلاحظ أن الحراك اللبناني الذي سار في خط متواز مع المزاج الدولي (الأميركي تحديداً) شرع يفترق عنه حتى لا نقول إنه، في بعض قواه الحية، شرع يتنافر معه.
هل من تفسير؟ هل يُراد لنا أن نصدق أن إدارة جورج بوش إنما كانت تريد للبنان الاستقلال والسيادة والديموقراطية وإنها تحترم أي قرار يتخذه lt;lt;الشعبgt;gt; اللبناني حتى لو كان ضد أهدافها المعلنة وضد مصالح إسرائيل؟ وإذا كنا نتردد في تصديق
ذلك فكيف يمكن لنا أن نفهم هذه التطورات المتلاحقة؟ هذه مجرد اقتراحات لمحاولة التفسير.
أولاً في لبنان، كما في العراق، ثمة ما يستطيعه الأميركيون وما لا يستطيعونه. لقد كانت حربهم على بغداد سهلة ولكن التعثر بدأ بعد ذلك واستمر. وكذلك فإن إخراج القوات السورية كان الجزء السهل من 1559 ولكن الباقي صعب. يتوجب على واشنطن، إذاً، الاكتفاء بهذا الانتصار الجزئي وارتضاء إجراء الانتخابات (جزء من lt;lt;الثورة الديموقراطيةgt;gt; في lt;lt;الشرق الأوسط الكبيرgt;gt;) حتى لو لم تؤد إلى نتيجة تسهل طرح الحلقة

الثالثة من جدول الأعمال: سلاح الميليشيات.
ثانياً هل تراهن الولايات المتحدة على صفقات إقليمية دولية كبرى تنعكس على لبنان وتضغط على بعض القوى المرجح فوزها في الانتخابات؟ وفي هذه الحالة هل ترضى بحل وسط لسلاح المقاومة، بمنزلة بين منزلتين: فك التحالف الوثيق بين الدولة والمقاومة ولو من دون الوصول إلى المواجهة والدخول في الخطة العملانية التنفيذية (شبه المستحيلة) نزع السلاح؟
ثالثاً هل أقدمت الولايات المتحدة، أمام ارتطامها بالواقع، على تغيير في جدول الأعمال؟ أي أننا لم نعد أمام: انسحاب، انتخاب، سلاح الميليشيات، تصعيد الضغط على سوريا... بل أمام: انسحاب، انتخاب، تصعيد الضغوط على سوريا، ثم عودة إلى سلاح الميليشيات! بكلام آخر، هل اتخذ قرار بوضع لبنان الجديد في الثلاجة لبعض الوقت من أجل التركيز على الموضوع السوري لحسمه في هذه الوجهة أو تلك تمهيداً للعودة إلى لبنان وفي ظل ظروف ومعطيات جديدة؟ إذا كان هذا الاحتمال وارداً فهو يفسّر بعض ما يجري في لبنان. يفسّر التدخل الفرنسي السعودي الذي رعى حكومة نجيب ميقاتي. ويفسّر lt;lt;قلة الاكتراثgt;gt; الأميركي بنتائج اللعبة المحلية اللبنانية. ويفسّر تكاثر الإشارات من واشنطن إلى أن الموضوع السوري يتقدم في سلم الأولويات (راجع محاضرة فلينت ليفيريت المنشورة على موقع lt;lt;بروكينغرgt;gt;، والرجل واضع أول كتاب عن عهد الرئيس بشار الأسد). وتلتقي هذه التفسيرات عند الرأي القائل بأن السياسة الأميركية لم تعد ذات وجهة واحدة بل ذات وجهتين: من لبنان إلى سوريا وبالعكس.
يصعب الحسم، في ضوء المتغيّرات السريعة، بأرجحية أي من هذه الاحتمالات، أو، ربما بأرجحية التداخل بين اثنين منها. إلا أن ذلك لا يغيّر كثيراً في ثوابت السياسة الأميركية حيال المنطقة وضمنها لبنان. إن نقطة قوة واشنطن هي التمسّك الإيديولوجي بهذه الثوابت ولكن هذه، قد تكون أيضاً، نقطة ضعف.