قانون الانتخاب مسرحية يتبادل أدوارها الموالون والمعارضون
موسم الرسائل بين جنبلاط وأميركا وسورية!

ألبيير خوري من بيروت: يبدو أن السجال السياسي الساخن الدائر على الساحة اللبنانية حول قانون الانتخاب، قد أنسى السلطة والمعارضة الازمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يتخبط بها اللبنانيون منذ سنوات عديدة، ما دفع بعض المراقبين الى وصف القانون العتيد بـ "الكوميديا السوداء" التي يتبادل أدوارها جميع من في السلطة وكل معارضيها في محاولة امتصاص للنقمة المعارضة التي تهدد الشارع اللبناني بالانفجار، بعد أن وصلت الاوضاع الى حد المهزلة الكبرى. صحيح أن أحداً من اللبنانيين، مسؤولين وغير مسؤولين، اصحاب السلطة والمعارضين لها، لا ينفي أهمية قانون الانتخاب في الظروف الراهنة، كونه الخطوة الاولى لاستعادة لبنان سيادته ونظامه الديمقراطي الذي سطت عليه اجهزة الدولة المرئية وغير المرئية، كما تقول اكثرية المعارضة، لكن الصحيح اكثر، أن كل فريق ينادي بقانون على قياسه السياسي والمذهبي والطائفي، وان كان الجميع، موالون ومعارضون، يتظاهرون بالمطالبة "عالطالع والنازل" بقانون عادل ودائم يلبي طموح جميع اللبنانيين على كامل الاراضي اللبنانية.
ومثل هذا القانون "العادل والدائم" الذي وعد به رئيس الحكومة اللبنانية عمر كرامي بأن يكون جاهزاً قبل الخامس عشر من الشهر الجاري، "يوم بالناقص يوم بالزائد" لا يهم، ليصار الى دراسته ومناقشته من قبل مجلس النواب، يبدو بدوره من سابع المستحيلات، وسط الظروف السياسية، المحلية والاقليمية الضاغطة اكثر على لبنان، وقد تكون هذه الضغوط نفسها، ما يلزم السلطة اللبنانية باستصدار هكذا قانون، إنما وكما يبدو ما زالت عاجزة عن الاتيان بما يليق بالشعب اللبناني، اقله كما اوحى رئيس مجلس النواب السابق "وعراب الطائف" الرئيس حسين الحسيني، الذي طالب برسالة الى الرئيس السوري بشار الاسد، بمساعدة اللبنانيين على تمرير هذا القطوع، بما يؤمن وحدتهم واستقلال بلادهم، وكذلك فعل رئيس الحكومة الاسبق الدكتور سليم الحص، في رسالة مماثلة، انما من منطق احترام رأي اللبنانيين على اختلاف توجهاتهم السياسية، وبالتالي احترام الشرعية الدولية في اشارة الى القرار الدولي 1559، والالتزام به ما يمنع تدويل الازمة اللبنانية، ويبعد الصراعات المحلية والاقليمية على الوطن الضعيف.
لقد كشف كتابا الرئيسين الحسيني والحص المفتوحان الى الرئيس الاسد في اليوم الاخير من العام المنصرم لمساعدة اللبنانيين على وضع وقانون انتخابي يعيد تكوين الدولة على اساس الطائف والدستور، ولجبه التحديات التي تواجه لبنان بإكمال الانتشار السوري ووقف تدخل الاستخبارات...
وفي المقابل كشفت الرسالتان ما يوحي بغياب كلي للسلطة ان لم يكن العجز التام عن اخذ زمام المبادرة بإدارة البلاد, كما يفترض بأي إدارة تحظى بشرعية دستورية ان تفعل، كما كشف الحسيني والحص من حيث موقفيهما الثغرة الكبيرة في عدم وجود حوار بين السلطة والمعارضة، ما يعني ان كل فريق يشد البساط الى جهته ليحظى بالقانون الذي يلبي اهدافه السياسية، في حين ان المطلوب اليوم، وفي ظل العواصف الشديدة التي تشهدها المنطقة ومفاعيلها المحلية، استصدار قانون ينقذ الوطن من مآسي يتخبط بها منذ توقيع اتفاق الطائف، وهي الى تصاعد مما يهدد وجوده وكيانه.
وما يتخبط به الوطن ابعد من استصدار قانون انتخاب عادل ودائم، وهو على الرغم من اهميته القصوى، لا يشكل لوحده الانقاذ الكبير الذي يطمح اليه اللبنانيون، خصوصاً وان غالبيتهم الصامتة، على قناعة، بأن كل فريق "يغني على ليلاه"، وان الانقسام الحاصل ليس ابن البارحة ولن ينتهي غداً بمجرد استصدار القانون العتيد، والحروب التي أنهاها اتفاق الطائف لم يلفها من القلوب، خصوصاً وأن الحكومات المتعاقبة قد تلهت بمصالحها السياسية والمالية، وتناست بنوداً أساسية وخطيرة في اتفاق ارسى لمصالحة وطنية حقيقية من خلال حكومة اتحاد وطني لم تجد النور، وخروج القوات السورية التي ما زالت حتى اللحظة تكرر انتشارها، فتتكرر مأساة لبنان، السنة تلو الاخرى، وباحترام الدستور الذي نزف مرتين بتكرار التمديد لرئيس الجمهورية السابق الياس الهراوي وللرئيس الحالي اميل لحود، ودائماً الأسباب استراتيجية يتكرر الحديث عنها، وإنما يسأل اللبنانيون المسؤولين، عما تكون هذه الاستراتيجية التي ألزمت لبنان بالتنازل على سيادته وحريته والتضحية بنظامه الديمقراطي الذي شكّل لسنوات طويلة سبقت الحرب الاهلية، النموذج الامثل بين الانظمة العربية قاطبة. هكذا تقول المعارضة مضيفة "وها هو التنازل نفسه، مع ما رافقه من اعتداء سلطوي على الدستور، بدعم مباشر ونافر من الشقيقة دمشق وفساد وشلّ كل مؤسسات الدولة ومرافقها ما رتب عليها ديوناً بمليارات الدولارات يدفعها اللبنانيون البسطاء من عرق جبينهم، هذا التنازل نقل لبنان من رهينة اقليمية لسوريا الى رهينة إقليمية دولية من خلال القرار 1559، ما ادى الى مزيد من الشرخ والانقسام بين المواطنين، وبالتالي التلويح بعودة لبنان الى ساحة صراع تتعدى الحدود السياسية الى الامنية، وقد يكون السفير الاميركي في بيروت جيفري فيلتمان "في فمه ماء" حين يواجه الاعلاميين بعد زياراته الاخيرة المتعددة للمسؤولين السياسيين والروحيين في السلطة والمعارضة، وحيث تبدو رسائله الاميركية العليا واضحة، ومثله مساعد وزير الخارجية الاميركي لشؤون الشرق الاوسط ريتشارد أرميتاج الذي أكد للرئيس السوري بشار الاسد إصرار واشنطن على تنفيذ القرار ما يعني انسحاب الجيش السوري وأجهزتها من لبنان وسحب سلاح المقاومة ـ تحديداً حزب الله ـ وكذلك سلاح المخيمات من ايدي الفلسطينيين.
في زحمة هذه السجالات بين السلطة اللبنانية والمعارضة، وكذلك من خلال الرسائل الاميركية المتعددة، تنكشف الساحة اللبنانية عارية من كل اهتمام، باستثناء انهماك مسؤولي السلطة والمعارضة باستصدار قانون انتخاب يبدو لكليهما انه وسيلة الانقاذ الوحيدة التي تنتهي المأساة اللبنانية وتضع حداً لكل الازمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يتخبط بها منذ التوقيع على "سلام الطائف" الذي يبدو بعدم تطبيقه والتحايل عليه قد اشعل حرباً أكثر شراسة وعنفاً، وهذا ما تنبّه له رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط الذي وضع نفسه على رأس المعارضة، وهو المدرك تماماً أن رأسه قد يكون المطلوب في هذه المرحلة، خصوصاً ان المعارضة وجدت في زعامته السياسية وقاعدته الشعبية الوسعة ما جعلها تحقق خطوات سريعة ونوعية في تهديد السلطة بما تخطط له، ليس على صعيد التلاعب بقانون الانتخاب كما نبّه جنبلاط أكثر من مرة، انما على صعيد النظام اللبناني ككل، "وحيث بات اسير اجهزة سرية محلية وإقليمية" كما توحي تصريحاته الاخيرة.
والحقيقة أن مدخل جنبلاط الى السنة الجديدة كان ساخناً جداً، خصوصاً أن سخونة المواقف سبقته سخونة ملاحقات واعتقالات في صفوف العديد من كوادره الحزبية، ما حمله من على شاشة "العربية" في حوار مع جيزيل خوري، بإمكان المطالبة باستقالة رئيس الجمهورية اميل لحود وفق ما اسماه "الثورة البيضاء"، أضاف "أتمنى أن لا نصل مع الرئيس لحود الى ما حصل عام 1952 مع مطالبة النواب السبعة الرئيس بشارة الخوري بالاستقالة، وأعتقد اننا وصلنا الى مشارف هذا الوضع"، مبدياً ثقته بأنه سينتصر مع المعارضة في انتخابات 2005". ورغم تشديده القول انه سامح ونسي ملف اغتيال والده كمال جنبلاط، انما "اذا أرادوا فتح الملفات فأنا أيضاً أريد أن أفتح ملف والدي.. فليقولوا من قتله"...
قطعاً لا يعني ما يقوله وليد جنبلاط سوى أن البلاد تعيش وسط غليان سياسي، وان "سياسة أنا أو لا أحد" مؤشر واضح للعبور الى الدكتاتورية في حين المطلوب العبور الى الديمقراطية أو استعادتها من مغتصبيها على مدى سنوات طويلة، وان التحسس بوطأة الصراع المصيري فوق ارض ملتهبة هو أقل المطلوب في الظروف الخطرة الراهنة، وبالتالي، فإن الحكومة، ومن خلال قانون الانتخاب، كخطوة اولى على طريق الانقاذ الطويل، يمكنها وحدها، وهي الحاكمة الفعلية كمؤسسة اجرائية حسب دستور الطائف، ان تعيد اللحمة بين اللبنانيين، وبحيث تساهم بما لديها من سلطة في اخراج ما تبقى من بواطن الوقائع السياسية الملتهبة الى السطح، فتضع كل القوى اللبنانية دفعة واحدة أمام المسؤولية الحاسمة وإثبات قدرة لبنان على حكم نفسه بنفسه، حتى لا نسأل ما سأله مطران بيروت الياس عودة في خطبة احتفالات رأس السنة: هل نحن أطفال بحاجة إلى وصاية؟