أسامة العيسة من القدس: دفن الأب إبراهيم عياد، في بلدته بيت ساحور، بعد أن وصلها في رحلته الأخيرة من إحدى مشافي القدس.

ويطلق على عياد الذي رحل عن 95 عاما ألقاب عدة مثل "فارس الكنيسة والوطن" و"الكاهن المتمرد"، وانضم للحركة الوطنية الفلسطينية في سن مبكرة، ورحل وهو عضوا في المجلسين الوطني والمركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية.

وكان، مقربا من عبد الله التل، الجنرال الأردني الذي قاد معركة الدفاع عن القدس الشرقية عام 1948، وانشق فيما بعد ولجأ إلى القاهرة، ونسب إليه وضع مخطط اغتيال الملك عبد الله الأول على أعتاب المسجد الأقصى عام 1952.

وبسبب علاقته بالتل، اعتقل الأب عياد كأحد المتهمين في قضية اغتيال الملك عبد الله الأول، ولكن المحكمة برأته وتم نفيه خارج البلاد، ولكنه، بحكم علاقته مع أفراد الخلية التي اغتالت الملك، كانت لديه معلومات وتصورات حول الجهات التي تقف خلف حادث الاغتيال غير ما هو معروف.

وفي حوار مطول قبل رحيله تحدث عياد الذي حافظ على توقد ذهن لمراسلنا، عن بدايته النضالية وقصة إنقاذ القسم الشرقي من مدينة القدس في حرب عام 1948، وقضايا أخرى.

وقال عياد إن اهتمامه الوطني "بدا منذ سن مبكرة ولكن يمكن القول انه منذ عام 1927 وكان عمري حينئذ 18 عاما وعندما انتسبت إلى المدرسة الاكليركية بالذات برز نشاطي الوطني، وبالأساس كان لدي ميول دينية وكنت اخدم القداس الإلهي وأرتل حيث كان لدي صوت جميل، وكانت أمي تساعدني في هذا الاتجاه".

وأضاف "اذكر عندما كنت طالبا في المدرسة الاكليركية، وضعت إدارة المدرسة عريفا علينا كان ايطاليا فقدت مجموعة من الطلبة احتجت على ذلك مطالبين بان يكون العريف عربيا وقابلنا مدير المدرسة وكان ألمانيا، ووافق على مطالبنا وعينني عريفا بدلا من الإيطالي".

وبعد فترة تأمل من الأب عياد، ألقى خلالها مطلع قصيدة عن فلسطين كان كتبها في ذلك الوقت، تابع قائلا "في عام 1936 كانت تصدر مجلة للبطريركية اسمها (رقيب صهيون) بدأت اكتب فيها مقالات وطنية منها افتتاحيات، ولإعجاب البطريرك بكتاباتي، عينني وكنت في ذلك الوقت شماسا لأدير تلك المجلة".

وتحدث عياد الذي كان عضوا في اللجنة القومية عن بداية علاقته بالحاج أمين الحسيني، قائد الحركة الوطنية الفلسطينية في النصف الأول من القرن العشرين قائلا "كانت للحاج أمين علاقة مع البطريرك لويس برلاسينا، الذي عرف بكرهه للإنجليز واليهود، وكانت تربطهما صداقة، وأتذكر بان الحاج أمين جاء للبطريرك، عندما عرف بان حسن حماد، وهو رجل معروف وثري، في ذلك الوقت، كان يريد أن يبيع أراضي قرية تياسير (شمال الضفة الغربية) لليهود، فطلب من البطريرك التدخل لشرائها، وفعلا تم ذلك، ولكن بعد أن اشترت البطريركية الأرض، تعرض حماد لإغراءات من اليهود فحاول التنصل من الصفقة التي عقدها مع البطريركية، فرفع دعوى قال فيها انه باع الأراضي التي فيها شهادات طابو، أي المسجلة رسميا، وليست تلك التي فيها حجج وعقود غير مسجلة، ورددنا عليه بإبراز الاتفاقية التي فيها حدود الأرض وأسماء القطع، ولأول مرة في تاريخ القضاء تم إدخال قانون إنجليزي اسمه (التنفيذ العيني للاتفاقية) وفعلا كسبنا القضية وأنقذنا الأرض التي لو اشتراها اليهود لكان مبنى عليها الان 3-4 مستوطنات".

وتطورت العلاقة بين عياد، والحاج أمين، وأصبح عضوا في اللجنة القومية، التي يترأسها الحسيني، وهي هيئة قيادة للنضال الوطني الفلسطيني آنذاك.

ويصفها الأب عياد بأنها "كانت اللجنة القومية بمثابة الحكومة في المنطقة العربية أبان عامي 1947-1948 وضمت بالإضافة للحاج أمين الحسيني عددا من الشخصيات مثل أميل الغوري وفؤاد الخالدي وغيرهم".

وسالت الأب عياد عن معركة القدس عام 1948، وكيف تم إنقاذ ما أصبح يعرف بالقدس الشرقية، فقال "في يوم 15 آيار (مايو) وكما هو معروف انسحب الجيش الإنجليزي، وحدث اتفاق مع الصليب الأحمر الدولي وقناصل الدول الموجودين القدس، على وقف إطلاق النار بينا وبين اليهود، وفي أجواء التوتر تلك، اتصل قائد جيش الإنقاذ وكان عراقيا اسمه راضي العبد الله بالملك عبد الله وقال له بأنه ليس لدينا ذخيرة، والتقط اليهود المكالمة وبعد ساعتين من وقف إطلاق النار هجمت العصابات الصهيونية علينا وتمكنت من احتلال بعض الأحياء خارج سور البلدة القديمة مثل حي (سعد وسعيد) فاتصلنابالصليب الأحمر وبالقناصل الذين بدورهم اتصلوا بالوكالة اليهودية التي ردت بان عناصر غير منضبطة هي التي هاجمتنا".

وأضاف عياد "في تلك الأجواء أرسل لنا الحاج أمين الحسيني الذي كان في الخارج طائرة يمنية فيها 40 ألف طلقة، وحطت هذه الطائرة في سهل أريحا، وأعطى جلوب باشا قائد الجيش الأردني إنذارا للطيار إذا حاول مرة أخرى الهبوط ثانية، وقال له سنسقط الطائرة".

وعبر عياد عن اعتقاده بان "هذه الطلقات هي التي أنقذت المدينة القديمة، وكان الشباب على السور يبتهلون إلى الله ووضعنا المسيحيين في فندق الكازنوفا والمسلمين في الحرم الشريف خوفا من وقوع مذبحة كما حصل في دير ياسين، وفي الساعة الثانية بعد منتصف الليل صد الشباب هجوم العصابات الصهيونية والحقوا بها هزيمة كبيرة ولأول مرة تتراجع تلك العصابات دون أن تستطيع سحب قتلاها".

وحمل عياد معه حتى نهاية عمره ذكريات عن بعض رجال تلك المرحلة مثل انطون داود الذي فجر الوكالة اليهودية، وعندما سألته عنه قال "كان انطون شابا بسيطا ووطنيا، وكان يعمل سائقا للقنصل الاميركي وكل يوم يرسل البريد للوكالة اليهودية، فذهب للشهيد عبد القادر الحسيني، وهو بالمناسبة من أنزه الرجال الذين عرفتهم وأكثرهم وطنية، وطلب منه تزويده بالمتفجرات ووضعها في سيارته، فذهب وأوقف السيارة في باحة الوكالة اليهودية، ونزل من السيارة متحججا بأنه ذاهب لشراء علبة سجائر، وانفجرت السيارة وكان انفجارا مدويا، ولقد رأينا السنة النيران ترتفع ونحن في القدس الشرقية، وبعد أن نفذ العملية اختفى وذهب إلى القاهرة ثم إلى كوبا والتحق بثورتها وذهبت أنا وفؤاد الخالدي لعائلته وأعطيناها مساعدات، وفي بداية السبعينات عاد إلى الكويت وكان يفكر بتنفيذ عملية كبيرة، ولكنه توفي دون مقدمات مرضية وفي ظروف غامضة".

وفي تلك الظروف كانت تعيش طائفة يهودية في البلدة القديمة من القدس في حارة عرفت باسمهم منذ الانتداب البريطاني على فلسطين الذي قسم أحياء البلدة القديمة، وفقا لمحددات طائفية، ضمن سياسة فرق تسد، وأصبح وضع هؤلاء حرجا، مع اشتداد المعارك في فلسطين عشية إنشاء دولة إسرائيل وارتكاب العصابات الصهيونية مجازر في القرى الفلسطينية التي احتلها وأصبحت تحت سيطرتها مثل دير ياسين غربي القدس.

فكيف كان وضع يهود البلدة القديمة وسط النيران؟
أجاب الأب عياد "جاء إلينا اثنان من الحاخامين ومختار اليهود وابنة المختار، التي كانت معروفة لدى الشبان بالاسم، أخذت ابنة المختار وأمنتها في أحدى الأمكنة، وطلب هؤلاء الاستسلام ولكن كانت لدينا شروط".

وقال "قبل مجيء هؤلاء اتصل الحاخام الأكبر بالبطريركية اللاتينية، وكنت أنا موجودا، فرددت عليه، وسمعته يقول انه يأمل من بطريرك القدس أن ينقذ اليهود في البلدة القديمة، فأجبته بان هنالك قوانين دولية سنعمل على احترامها، وهي أن الرجال الذين في سن الخدمة العسكرية هم أسرى حرب، أما بالنسبة للنساء والشيوخ، فسيتم تسليمهم، بواسطة الصليب الأحمر في القدس الغربية، ولكن كلامي لم يعجب الحاخام، فاتصل مع الرئيس العام للفرنسيسكان، الذي اتصل بي، فشرحت له وجهة نظري، وبالفعل تسلمنا 350 رجلا أرسلهم عبد الله التل إلى عمان، وأعادهم الملك عبد الله الأول إلى الجانب الإسرائيلي".

ورأى عياد في هذه القصة التي تتعلق بيهود البلدة القديمة، كيف تتفوق الضحية، أخلاقيا على الجلاد، في ظروف حرب مستعرة، غيرت وجه الشرق الأوسط، وأطاحت بالنظام الملكي في مصر، وغيبت تداعياتها الملك عبد الله الأول، وخلقت قضية ما زالت تشغل العالم.