بشار دراغمه وخلف خلف من رام الله: كشفت مصادر إسرائيلية عن أن هامش مرونة الرئيس الفلسطيني الجديد، محمود عباس (أبو مازن) سياسيا لم يتغير جوهريا بعد موت سلفه ياسر عرفات، وقال افرايم لافي، من كبار قادة شعبة الاستخبارات العسكرية إن
محاولة فهم التغيرات المتبلورة في الواقع السياسي الفلسطيني بعد عهد عرفات ومع انتخاب خليفته وتقدير احتمالات ايقاف المجابهة والعودة الى طاولة المفاوضات تتطلب التطرق الى حقيقتين أساسيتين، أولهما أنه ورغم أفول نجم منظمة التحرير الفلسطينية منذ اوسلو وتعزز مكانة السلطة التي تمثل سكان المناطق في المقابل، إلا ان التمييز ظل واضحا حيث تعتبر م.ت.ف ممثلا وحيدا لكل الفلسطينيين في الداخل والشتات. هذا الموقف ذكر بوضوح في مراسيم الولاء التي أدلى بها أبو مازن بعد انتخابه وقد جاء ذلك للتأكيد على ان م.ت.ف وحدها هي العنوان للمفاوضات مع اسرائيل والتسوية السياسية، وليست السلطة.
أما الحقيقة الثانية التي ذكرتها صحيفة "هآرتس" على لسان لافي فهي ان الموقف السياسي الفلسطيني في قضية التسوية الدائمة وهامش المرونة المحدود، كما ظهر في المفاوضات، لم يتغيرا إثر المجابهة. محمود عباس ممثلهم البارز لا يملك صلاحية لتغيير هذا الموقف وهو لا ينوي المطالبة بالتغيير.
وأضافت أن مغزى هاتين الحقيقتين هو ان أبو مازن كرئيس لـ م.ت.ف، وكرئيس للسلطة يمثل الشتات الفلسطيني مثل عرفات، وهامش المرونة الموجود لديه لا يختلف عن ذلك الذي تمتع به سلفه. ولكن نهجه واسلوبه السياسي البراغماتي واستعداده للتخلي عن طريق العنف، يلقى دعما واسعا من قبل اغلبية سكان المناطق ويوفر مع الظروف الناشئة اقليميا وعالميا فرصة لإحداث انطلاقة في الوضع السياسي. أبو مازن نفسه كزعيم منتخب يملك احتمالية معينة لتحقيق هذه الفرصة، ولكن يجب الاعتراف بقيود المناورة التي تمتلكها - وإن لم نقبلها - حتى تلائم التوقعات الاسرائيلية منه في المجالين السياسي والأمني.
وتؤكد أن قسم المفاوضات السياسية في م.ت.ف برئاسة أبو مازن وباشراف مباشر من عرفات هيمن على المفاوضات التي جرت حول التسوية الدائمة في تشرين الثاني 1999 حتى كانون الثاني 2001 وأعدت أوراق عمل كانت ملائمة للموقف السياسي الرسمي والدائم الذي تبنته م.ت.ف، كما صدر عن المجلس الوطني الفلسطيني في عام 1988. هذه القرارات أعطت ردودا لسكان المناطق الذين أطلقوا انتفاضتهم الاولى في تلك الفترة وعبروا بذلك عن رغبتهم في ان تعطي م.ت.ف أولوية في جدول اعمالها الوطني للاستقلال من الاحتلال وتقديمه على الحلم بتحرير كل فلسطين. في سياق ذلك قبل مبدأ التقسيم لعام 1947 حول الدولتين وتقرر حل مشكلة اللاجئين على أساس 194 الصادر في عام 1948.
وتابعت الصحيفة قائلة على لسان لافي: "منظمات المعارضة الفلسطينية احتجت على هذه القرارات لانها تعني التمييز بين "الوطن" وبين "الدولة" مما يعني قبول وجود دولة اسرائيل والتسليم به.
ومشيرا إلى انه وفي المفاوضات حول التسوية الدائمة تمسك الفلسطينيون بمباديء موقفهم الثابت ورفضوا كل تسوية تتناقض مع الرواية الفلسطينية والظلم التاريخي الذي لحق بالفلسطينيين من قبل اسرائيل في عام 1948. وعليه، اشترطوا مطلب اسرائيل بالاعتراف بنهاية الاحتلال بأن تستجيب لمطلب حق العودة، ومقابل مواقف اسرائيل المتبقية في المفاوضات عبروا عن هامش المرونة التالي: الاستعداد لقبول تعديلات اقليمية في خطوط 1967 لإفساح المجال أمام التجمعات الاستيطانية القائمة، والموافقة على تقسيم القدس ولكن ليس على أساس جغرافي وانما ديمغرافي، والاستعداد لنزع سلاح الدولة الفلسطينية والمرونة في حل مشكلة اللاجئين. المفاوضات توقفت كما نذكر (ولم تنفجر) في كانون الثاني 2001 إثر الانتخابات في اسرائيل من دون الوصول الى نهايتها واستنفادها، وأبو مازن سيطالب الآن كما هو متوقع استئنافها من النقطة التي توقفت عندها.
واعتبر لافي نقل مركز م.ت.ف من تونس الى الضفة وغزة وتحويل المناطق الى مركز الثقل في المشكلة الفلسطينية أدى الى طمس مكانة م.ت.ف التاريخية ونشوء فراغ قيادي في الشتات الفلسطيني. في أواخر التسعينيات أثار عرفات عليه القيادة القديمة في م.ت.ف التي اعتبرت ان هناك خطرا حقيقيا يحدق باستمرارية تمثيل الشعب الفلسطيني عموما ومشكلة اللاجئين خصوصا، وهذه الانتقادات عادت لتطرح بقوة أكبر مع موت عرفات. ولكن حتى لو هبطت مكانة م.ت.ف من الناحية السياسية، إلا ان التمييز المؤسساتي بينها وبين السلطة ظل موجودا ويمكن الافتراض انه سيبقى في السنوات القادمة طالما لم يتم التوصل الى تسوية دائمة. هذا التمييز قيمي وذو مغزى تاريخي وسياسي يرتبط بتمثيل الشتات الفلسطيني ومشكلة اللاجئين وتمثيل الموقف الفلسطيني في المفاوضات مع اسرائيل. هذا التمييز بين الهيئتين يحظى باجماع فلسطيني شامل اليوم ايضا بعد انتخابات الرئاسة الجديدة: م.ت.ف تمسك بصلاحيات اجراء المفاوضات والتوقيع على الاتفاقات، والسلطة مسؤولة عن ادارة الشؤون المدنية.
مؤكدا في الوقت ذاته على أن أبو مازن قد ينجح من حيث الظروف الموجودة في داخل البيت الفلسطيني ان يجتاز المرحلة الاولى والثانية من خريطة الطريق - ايقاف الارهاب والتحريض وإعادة تنظيم اجهزة الأمن وعقد مؤتمر دولي والاصلاح الاقتصادي والشروع في مفاوضات اقامة دولة فلسطينية مع حدود مؤقتة. يأتي هذا لان هذه المراحل لا تتطلب التوقيع على اتفاقات جديدة وانما تطبيقا لما وُقع سابقا من قبل عرفات (شرم الشيخ وتينيت وميتشل)، ولذلك ليس أبو مازن بحاجة لشرعية جديدة.
ويقول القائد العسكري الإسرائيلي: "تطبيق المرحلتين الاولى والثانية في خريطة الطريق سيمكن أبو مازن من طرح انجازاته: سحب القوات الاسرائيلية من المدن وتفكيك البؤر الاستيطانية منذ آذار 2001 وايقاف البناء الاستيطاني والشروع في مفاوضات اقامة الدولة (حتى اذا كانت ذات حدود مؤقتة) التي تحظى بالاعتراف الدولي والمساعدات المادية السخية، ولكن النقطة الحساسة في هاتين المرحلتين ستكون معالجة الارهاب. نهج أبو مازن هو عدم خوض مجابهة مباشرة مع الارهاب، وانما إحداث رأي عام ضاغط ضده من خلال الأجواء الايجابية المكونة من احتمالية عملية للتقدم السياسي والتحسين الملموس لحياة السكان. هو لا يستطيع ولا يريد ان يدحر الارهاب أولا كشرط للمفاوضات كما تطلب اسرائيل، وانما يريد معالجته في موازاة التقدم العملي نحو التسوية السياسية. هذا الاختلاف في الرأي ظهر منذ بداية خريطة الطريق، وسيظهر من جديد مرة اخرى اذا لم يطرأ تغيير على مواقف الطرفين".