نبيل شرف الدين من القاهرة : يستهل الدكتور سعد الدين إبراهيم تقرير مركز "ابن خلدون" للدراسات الإنمائية بقراءة يصف فيها العام 2003 بأنه عام صدمة العراق، والتي ما زالت تداعياتها تتوالى على العراق والشرق الأوسط والوطن العربي والعالم. وكان عام 2004 هو عام الحوار حول التغيير والإصلاح السياسي والمجتمعي، والتبديل والإحلال في القيادات والسياسات. وسيشهد عام 2005 محاولات تسوية ملفات العامين السابقين، والملفات المفتوحة من القرن السابق كله، بما في ذلك الملف الفلسطيني، والقضايا الحدودية بين الدول العربية، وبينها وبين دول الجوار غير العربية.
ويمضي إبراهيم في سياق تقديمه للتقرير قائلاً إنه مع نهاية عام 2004 كان المشهد العربي يبدو للمراقب الخارجي، كمركز جامد يتمثل في مصر وسورية والسعودية، وهوامش تنتفض بالحركة الذاتية الحرة أو بالصراع المسلح بين أطراف أهلية، أو أطراف محلية وطنية وأخرى خارجية في العراق والسودان وفلسطين، ومبادرات خارجية لعلاج رجل العالم المريض وهو الوطن العربي.

ثلاثي العرب
وفي ذات السياق يقول إبراهيم إن ثلاثي، مصر وسورية والسعودية، كان وما يزال هو مركز الثقل العربي، الذي يحكم مسار وإيقاع الحركة للمنطقة الممتدة من الخليج العربي ـ الفارسي إلى المحيط الأطلسي، وكان النمط في القرن العشرين هو ان يقود هذا الثلاثي المنطقة بأسرها. من ذلك أن مصر كانت تقود ثقافياً وحضارياً في النصف الأول من القرن، وكانت سورية تقود أيديولوجياً وقومياً، وكانت السعودية تقود دينياً ونفطياً ومالياً ورغم التوتر الدوري داخل هذا الثلاثي، إلا أنه كان يتجاوز توتراته الداخلية في لحظات الدراما الإقليمية ليقود النظام العربي ـ مثلما حدث في أعوام 1956 (أزمة السويس)، و1967 (هزيمة يونيو وقمة الخرطوم)، و 1973 (حرب أكتوبر)، ولكن جمود هذا الثلاثي، وتعثر إصلاح وتطوير هياكله الداخلية أدى إلى عجز إقليمي عام في التعامل مع أزمات الأنظمة العربية وبعضها البعض أو بينها وبين دول الجوار. من ذلك الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990)، والحروب الأهلية السودانية (1983-2004)، والحرب العراقية ـ الإيرانية (1980-19985) والحرب الليبية ـ التشادية (1980-1984)، والصراع المغربي الجزائري حول الصحراء، وغزو العراق للكويت (1990-1991).

ويرى رئيس مجلس أمناء مركز "ابن خلدون" أن الأنظمة الحاكمة في مصر وسورية والسعودية واصلت تكريس سيطرتها وقبضتها الداخلية طوال النصف الثاني من القرن العشرين، واستمرت في مقاومة محاولات الإصلاح والتغيير من الداخل، والتنكيل بقوى المعارضة. وشهدت على ذلك وشهدت به كل المنظمات الحقوقية العالمية والعربية ـ مثل منظمة العفو الدولية والمنظمة العربية لحقوق الإنسان، ومنظمة الشفافية الدولية، ومنظمة صحفيين بلا حدود، ووثّقت هذه المنظمات جميعاً الحالة المذرية تماماً للحريات العامة في بلدان الوطن العربي عموماً، وفي الثلاثي المصري ـ السعودي ـ السوري خصوصاً.

واعتبر إبراهيم أن الاستبداد السائد في بلدان القلب العربي يعني أيضاً انتشار الفساد. فالاستبداد يمنع المسائلة والمحاسبة والمراقبة، وبالتالي تفشي الفساد. والاستبداد والفساد معاً يؤديان إلى "الخراب" المادي وإلى الخواء الروحي. وهكذا أدى طغيان واستبداد أنظمة الحكم العربية عموماً، والثلاثي المصري ـ السوري ـ السعودي خصوصاً إلى عجز عربي عام، وإلى تخلف المسيرة التنموية للوطن العربي كله، وهو ما وثّقته المعايير الصادرة عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، عن التنمية البشرية العربية للأعوام الثلاثة الأخيرة (2001-2003). وأظهرت ضمن أشياء عديدة أن الوطن العربي بسكانه الذين يبلغون حوالي ثلثمائة مليون، ورغم كل مواردهم الطبيعية الضخمة، لا يصل الناتج الإجمالي السنوي له حجم مثيله في أسبانيا، التي يبلغ حجم سكانها خمسين مليوناً ـ أي سدس سكان الوطن العربي .

وأرجع تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2001 هذا التعثر في مسيرة التقدم العربي إلى ثلاثة نواقص رئيسية، النقص في الحريات العامة والديمقراطية، ونقص المساواة بين الجنسين، والنقص في إنتاج المعرفة والتكنولوجيا إن النقص في الحريات العامة مثلاً، يؤدي إلى إفقار المجتمع في الإبداع الفكري والعلمي، ويبطئ من تحديث المؤسسات والسياسات، وكشف الفساد، وتعبئة الطاقات، وتعظيم الحيوية المجتمعية. وأكد تقريرا العامين التاليين (2002-2003) نفس الحقائق مع زيادة في التفصيل والتوثيق. ورغم أن مجموعة هذه التقارير الثلاثة قد أثارت اهتمام العالم كله، إلا أن العواصم العربية تجاهلتها تجاهلاً تاماً. وبينما علّق عليها واقتبس منها كل من الأمين العام للأمم المتحدة، كوفي أنان، والرئيس الأميركي جورج بوش ووزير الخارجية الأميركي باول، ورئيس الوزراء البريطاني بلير، والرئيس الفرنسي شيراك، إلا أنه من اللافت للنظر أنه لم يعلق عليها معظم الرؤساء والملوك العرب ـ لا عند صدور هذه التقارير أو خلال السنوات الثلاث التالية لصدوره .

قراءة بانورامية
وفي قراءة بانورامية لأبرز الأحداث عربياً، يرى إبراهيم أن الاستثناء للتجاهل العربي الرسمي في البلدان المركزية السلطوية، كان هو البلدان الطرفية الأصغر حجماً ـ مثل المغرب والبحرين وقطر وعمان والأردن واليمن. ففي بلد مثل المغرب، قاد الملك الشاب محمد السادس ثورة سياسية ـ اجتماعية حقوقية غير مسبوقة. فقد واصل الانتقال ببلاده من حكم ملكي مطلق إلى نظام ملكي دستوري، يملك فيه الملك ولكنه لا يحكم، تاركاً السلطة التنفيذية لحكومة منتخبة، تتم مراقبتها ومحاسبتها بواسطة برلمان منتخب. وأكثر من ذلك بادر الملك الشاب بخطوتين جريئتين أخريين، الأولى، هي تقديم مشروع قانون (مدونة) الأسرة الذي يقر المساواة الكاملة بين الجنسين في كل الشئون الشخصية والمدنية. وهو بمثابة ثورة اجتماعية. تنقل المجتمع المغربي إلى موقع أكثر تقدماً من أي مجتمع عربي وإسلامي آخر ـ بما في ذلك مصر وتونس وتركيا. أما الخطوة الشجاعة الأخرى، فهي تشكيل لجنة وطنية للإنصاف والمصالحة، على شاكلة اللجنة التي كان قد شكلها الزعيم الإفريقي نلسون مانديلا، في أعقاب تحرير شعبه من حكم الفصل العنصري للأقلية البيضاء في جنوب أفريقيا. وتقوم اللجنة المغربية للإنصاف والمصالحة بإعادة التحقيق في قضايا انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبت في ظل حكم والده الملك الحسن الثاني، وذلك لمحاسبة المسئولين عن هذه الانتهاكات وتعويض ضحاياها.

أما في الجانب الآخر من الوطن العربي، وتحديداً في البحرين، فيقول إبراهيم إن عاهلها الملك حمد بن خليفة اتخذ خطوات لا تقل جرأة وشجاعة. فقد حوّل البحرين من مشيخة تقليدية مطلقة إلى مملكة دستورية، ذات حكم برلماني منتخب. ولا يقل عن ذلك جرأة وشجاعة هو إنصاف المرأة البحرنية ومصالحة الأغلبية الشيعية التي طالما شعرت بالغبن الاجتماعي والحرمان السياسي في ظل الحكم السابق لوالد الملك حمد. ولم تمنع هذه الإنجازات غير المسبوقة جماعات المعارضة عن المطالبة بالمزيد، وتنظيم المظاهرات. ومع ذلك فقد تعاملت الأجهزة الأمنية مع هذه الاحتجاجات بصورة متحضرة وغير معهودة وينطوي هذا المشهد البحريني الجديد لا على حل كل مشكلات البحرين ولكن يدشن أيضا آليات ديمقراطية سلمية للتعامل معها.

أما في قطر، فقد قام حاكمها الشيخ حمد آل ثاني بمبادرات إصلاحية لا تقل جرأة وشجاعة عن تلك التي قام بها ملك المغرب في أقصى الغرب وملك البحرين على مرمى حجر منه. ففضلاً عن الثورة الإعلامية التي أحدثتها قناة "الجزيرة" الفضائية في المناخ العربي، فإن الشيخ حمد قد استضاف سلسلة من الأنشطة العربية والإسلامية والدولية التي ناقشت مسائل الإصلاح السياسي والديني وغيرها من القضايا الحساسة في أجواء من الحرية غير المسبوقة عربياً، كما أن زوجته الشيخة موزة بنت ناصر المسند قد برزت في السنوات الخمس الأخيرة كقيادة نسائية مرموقة خليجياً وعربياً وعالمياً وتولت ملفات المرأة والأسرة والتعليم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وأحرزت قطر تحت ريادة الشيخة موزة في هذه المجالات قصب السبق، حيث أصبحت مركزاً للتميز (Center of Excellent ) حتى بالمعايير العالمية. وقد توّج الشيخ حمد آل ثاني أول دستور للبلاد، يهدف أيضاً إلى تحويل قطر إلى ملكية دستورية .

جراح نازفة
وحسب تعبير إبراهيم فإن الجراح المفتوحة في الوطن العربي خلال العامين الأخيرين ظلت كما هي في فلسطين والعراق والسودان (دارفور) كما انفتح الجرح القبطي في مصر مجدداً في آخر شهور عام 2004، إثر انتشار خبر حول اختطاف زوجة قسيس مسيحي (اسمها وفاء قسطنطين) وإشهار إسلامها.

وفي المشهد العراقي تصاعدت المقاومة ضد الاحتلال، رغم الإعلان عن انتخابات في آخر يناير 2005 لاختيار حكومة جديدة ومجلس تأسيسي جديد لوضع دستور دائم للعراق والشاهد أن أساليب المقاومة تطورت وأصبحت أكثر جسارة وفتكاً، ولكن ضحاياها من المدنيين العراقيين فاقت في عام 2004 القتلى والجرحى من قوات الاحتلال. ويظل الوجه الحقيقي للمقاومة العراقية مجهولاً ـ لا فقط للعالم الخارجي، ولكن لأغلبية الشعب العراقي نفسه. وقد تعددت الروايات والتخمينات في هذا الصدد. فمن قائل انها من أنصار نظام صدام حسين، الذي وضع في أحد سجون بغداد، انتظاراً للمحاكمة. ومن قائل ان عناصر المقاومة هم من أنصار تنظيم القاعدة الذي يقوده أسامة بن لادن، ويمثله في العراق أبو مصعب الزرقاوي (ذو الأصل الأردني الفلسطيني)، ومن قائل أنها عناصر مخابراتية مجندة من الأنظمة العربية الاستبدادية المحيطة بالعراق، والتي لا ترغب في استقرار العراق أو نجاح التجربة الديمقراطية فيه. ولكني أتوقع أن تتمخض الانتخابات العراقية عن انفراجة أواخر يناير 2005، حيث ستتوفر فرص جديدة وتفرز قيادات جديدة تستطيع أن تتعامل مع المستجدات المحلية العراقية والإقليمية التي تولدت بعد سقوط صدام حسين.

ويمكن أن يقال نفس الشئ عن الانتخابات الفلسطينية المرتقبة في أوائل يناير 2005. فهذه الانتخابات تأتي في أعقاب رحيل قيادات فلسطينية مرموقة مثل ياسر عرفات، والشيخ أحمد ياسين، وكان كل منهما، رغم اختلاف المنابع الأيدولوجية والتوجهات السياسية، يمثل الخط المتشدد الذي يعوق الوصول إلى تسوية سلمية، وبرحيلهما ربما يقدمان للقضية الفلسطينية أجلّ خدماتهما، حيث تنفتح الأبواب من جديد لمصالحة تاريخية بين الفلسطينين وإسرائيل دون اشتراطات الحدود القصوى من المتشددين في الجانبين ومن المرجح ان مرشح فتح محمود عباس أبو مازن سيفوز في الانتخابات الرئاسية ويأتي معه مجلس تشريعي جديد يمثل نفس الخط المعتدل الذي يأخذ هذا المنحنى التصالحي ويؤكد على التصور أن هناك تأييداً عالمياً واسعاً لقيام دولة فلسطينية في الضفة الغربية وغزة تتعايش جنباً إلى جنب مع الدولة اليهودية في إسرائيل. ولعل دعوة توني بلير رئيس الوزراء البريطاني لكل الفرقاء إلى مؤتمر يعقد في مارس 2005 هو ترجمة عملية لهذا التوجه العالمي.

أما السودان الذي يئن تحت ويلات الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب منذ عام 1983، وفي الوقت الذي أوشك الجانبان أن يصلا فيه إلى تسوية سلمية، بمباركة دولية، فإن صراع أهلياً جديداً قد انفجر في أقصى الأقاليم الغربية للسودان ليفتح جرحاً جديداً ما زال ينزف إلى وقت كتابة هذه السطور، وقد وضع ذلك النظام السوداني موضع اتهامات دولية عديدة بانتهاكاته الصارخة لحقوق الإنسان في غرب السودان (دارفور) مستعيناً بميليشات شبه حكومية من القبائل العربية الرعوية ضد أهالي الإقليم من الزنوج المسلمين غير العرب. وجلب النظام بذلك على نفسه وعلى العرب عموماً شبهة العنصرية وهذا شأننا دائماً مع أنظمة الاستبداد العربية فهي تعيث فساداً في أوطانها ثم تجلب محاولات التدخل الأجنبي في شئونها وشئون الوطن العربي.

وأخيراً نكئ جرح مصري قديم وهو المسألة القبطية التي عجز النظام المصري الحاكم على امتداد ثلاثين عاماً عن التعامل معها، فهذه هي المرة الستين التي يتحول فيها حادث فردي عارض إلى ما يشبه الفتنة الطائفية العنيفة. وفي كل مرة تتجه أصابع الأقباط بالاتهام إلى الأجهزة الأمنية وإلى تلكؤ الدولة المصرية في الاستجابة لمطالبهم المشروعة لممارسة حقوق المواطنة الكاملة بلا نقصان، ولا يقل عن فشل الدولة في التعامل مع المسألة القبطية إلا فشل القيادات المدنية القبطية في إيجاد قنوات سياسية بديلة للتعبير عن المطالب وممارسة الضغوط السلمية من أجل تحقيقها دون اللجوء إلى باحة الكاتدرائية المرقصية في قلب القاهرة.

خاتمة
ويختتم إبراهيم التقرير متوقعاً أن يشهد عام 2005 تسوية عدد من الملفات المفتوحة في فلسطين والعراق والسودان بحكم نضوج الشروط الموضوعية لتسويات تاريخية ويبدو أن مصر كفاعل رئيسي في المنطقة قد استشعرت ذلك مع نهاية عام 2004 فاندفعت في تأييد المبادرات الفلسطينية الإسرائيلية للانسحاب من غزة ووقف العنف المتبادل. بل أكثر من ذلك فقد أصبحت مصر ساعية لتسويات أوسع بين إسرائيل وسورية وإسرائيل ولبنان واستئناف العلاقات التجارية والاقتصادية بين إسرائيل وبلدان الخليج وربما كان توقيعها لاتفاقية (الكويز) مع كل من إسرائيل والولايات المتحدة هو ترجمة لهذا الحماس الحكومي المصري رغم المعارضة الصريحة لهذه الاتفاقية التي تنطوي على شراكة مصرية إسرائيلية في صناعة النسيج والملبوسات لكي ينفتح لها السوق الأميركي، ومن ذلك أيضاً تسويات الملفات الحدودية بين سورية والأردن وسورية وتركيا وخلق مناطق تجارة حرة بين هذه البلدان، فإذا مضت كل هذه المسارات من العراق إلى فلسطين إلى السودان إلى الخليج في طريقها المرسوم فقد يكون 2005 فعلاً هو عام التحول الكبير نحو الديمقراطية والرخاء"، على حد تعبيره .