نصر المجالي من لندن: خرج الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش من جلده العسكري الذي ظل للأعوام الثلاثة الماضية يتحصن داخله كرئيس حرب من بعد معركته مع الإرهاب الذي لم يقتلعه ومع حكم صدام حسين الذي أطاحه رغم النتائج السلبية الكبيرة التي لا تزال آثارها قائمة، واضعا أجندة جديدة منهاجها العمل الدبلوماسي لا العسكري مع دول كان إلى أمس قريب يعتبرها "محور الشر"، ويتضح أن كثيرا من المصطلحات والتعبيرات التي كانت تشكل الخطاب السياسي لبوش في ولايته الأولى غابت هذه المرة عن الخطاب الجديد. والسؤال هو ما إذا كان الرئيس الأميركي بدأ شيئا فشيئا للتخلص من هيمنة اليمين الجمهوري المحافظ على سياسات البيت الأبيض أم لا؟.
ويقول عارفون بكواليس البيت الأبيض وخصوصا لجهة السياسة الخارجية إن الرئيس بوش الذي لا حق لله بولاية ثالثة "ظل ينتظر على أحر من الجمر وصوله لولاية ثانية ليتمكن من توجيه لطمة لليمين المحافظ الذي ورطه في قرارات كثيرة، رغم أنه لا يعترف بذلك، ويضيفون أن الرئيس يعد بحاجة إلى هذا اليمين "كقوة محركة ومفكرة لتضع له خطط المستقبل، فهو صارت عنده احترافية خاصة للتعاطي مع مجمل الظروف في السياسة الخارجية التي حقق فيها انتصارات ملحوظة ولو أنها كانت قليلة النتائج إن لم تكن سلبية".
واختفت في خطاب الرئيس تلك اللهجة العسكرية الصارمة التي تعودها الشارع الأميركي والعالم معه، أثناء الحرب ضد الإرهاب في أفغانستان، ومن بعدها الحرب في العراق، لكنه كان واضحا في أساليب التعامل مع القضايا الساخنة وخصوصا مع إيران وكوريا الشمالية في شأن برنامجيهما لأسلحة الدمار الشامل، حيث "المماحكة"الأميركية مع هذين البلدين للسنوات الثلاث الماضية كانت تحمل مؤشرات حرب وشيكة.
وحتى حين تناول في خطابه بعض الدول للمزيد من الإصلاحات فإنه كان في طرحه إيجابيا "وليس كما هو معتاد عنه حين كان يطرح ذات المبدأ في خطابات أو مؤتمرات صحافية سابقة"، وعلى ما يبدو أن الرئيس الذي سيتقاعد بعد ثلاث سنوات ليخط طريقه كما أي رئيس أميركي سبقه راغب أن "يكون ختامها مسك، من دون ضغوط يتلقاها أو عنت يرميه على أكتاف الآخرين، وهو عازم على أن يتعامل مع الأوضاع العالمة بـ "الحكمة والموعظة الحسنة" إن صح التعبير.
ولم يخف الرئيس بوش في خطابه رغبة بلاده "الزعيمة الوحيدة للعالم" في البحث عن حلفاء جدد، مع الشروع في حسم عديد من القضايا العالقة على قاعدة التعاون الثنائي بين الولايات المتحدة وتلك الدول، وهو لم يستبعد مثلا حلولا دبلوماسية مع إيران وكوريا الشمالية وصولا إلى التخلص من برنامجيهما النوويين اللذين يشكلان هاجسا أمنيا عالميا.
ففي لهجته التي اعتبرها مخففة للغاية، لوحظ أن بوش قال إنه سيعمل مع دول آسيوية لإقناع كوريا الشمالية بالتخلي طموحاتها النووية، مشيرا في الوقت ذاته إلى أنه سيترك للدول الأوروبية الحليفة (بريطانيا وألمانيا وفرنسا) متابعة مهمتها مع إيران لإقناعها بالقرار ذاته. على أن بوش لم يتراجع في اتهامه لإيران على أنها دولة راعية للإرهاب، مؤكدا أنه سيدعم كل جهود تحقق الحرية والديموقراطية التي يطمح إليها الشعب الإيراني.
أما في الشأن السوري، فإن الرئيس بدا هذه المرة أهدأ بعشرات المرات من السابق، فبدل أن يستخدم لهجة الوعيد والتهديد بمقاطعة سورية وفرض حصار عليها إذا "لم ترتدع عن دعم الجماعات الإرهابية مثل حزب الله"، فإنه قال "نتوقع من سورية أن توقف استخدام أراضيها من جانب الحركات الإرهابية".
وفي شأن الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، فإن بوش كان صريحا أكثر من أي وقت مضى في الخطاب الذي يأتي عشية توجه وزيرة خارجيته الجديدة إل الشرق الأوسط، حين أكد أن هدف إدارته هو تحقيق قيام دولتين ديموقراطيتين (إسرائيل وفلسطين) للعيش جنبا إلى جنب بسلام وأمن، وقال أن الولايات المتحدة عازمة على تحقيق هذا الهدف.
وخلال الخطاب السنوي الذي منح فيه فقرات طويلة للشأن الفلسطيني، تعهد الرئيس الأميركي بتقديم 350 مليون دولار معونة للفلسطينيين لتعزيز الأمن والتنمية الاقتصادية، مشددا على أن هدف إقامة دولة فلسطينية "في المتناول"،وقال إن "بداية الإصلاح والديمقراطية في الأراضي الفلسطينية توضح أن قوى الحرية تحطم أنماط العنف والفشل القديمة".
ويأتي تعهد بوش في فترة يسودها التفاؤل من إمكانية إحراز تقدم نحو وضع نهاية للعنف بين الإسرائيليين والفلسطينيين في ظل تهدئة الأوضاع في قطاع غزة والضفة الغربية، وقمة متوقعة في شرم الشيخ بدعوة مصرية ومشاركة قطبي النزاع وحضور الأردن الثلاثاء القادم.
ويرى المراقبون أن تعهد بوش يأتي في إطار إظهار التأييد الأمريكي لرئيس السلطة الوطنية الفلسطينية الجديد محمود عباس، الذي انتخب الشهر الماضي، خلفا للزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، الذي تجنبه بوش حتى وفاته، ووصفه بأنه "عقبة على طريق السلام. "
وعلى صعيد الحرب ضد الإرهاب، فإن بوش دعا إلى تحالفات دولية جديدة للوقوف في وجه الشبكات الإرهابية وخصوصا شبكة القاعدة، وقال إن المملكة العربية السعودية وباكستان وتسع دول أخرى واجهت الإرهابيين واعتقلت عناصر كثيرة من جماعة القاعدة، مؤكدا العزم على الاستمرار في هذا التحالف في محاربة الإرهاب حتى النهاية.
أما العراق، وهي المنطقة الأسخن حرارة في السياسة الخارجية الأميركية، فإن بوش رفض في خطابه تحديد جدول زمني لانسحاب القوات الأمريكية من العراق، قائلا "لا جدول زمني للانسحاب من العراق"، مشددا وشدد بوش على أهمية تدريب قوات الأمن العراقية خلال ما وصفه بـ "المرحلة الجديدة في عراق ما بعد الانتخابات".
وقال بوش إن "الوضع السياسي الجديد في العراق يفتح مرحلة جديدة بعملنا في ذلك البلد. لذلك سنركز جهودنا بدرجة متزايدة على المساعدة في إعداد قوات أمن عراقية أكثر قُدرة .. قوات تضم ضباطا مهرة وهيكل قيادة فعالا". وأكد بوش أن مهمة الولايات المتحدة في العراق ستنجح "لان الشعب العراقي يقدر حريته كما أظهر للعالم يوم الأحد الماضي."
ولكن رغم ذلك، فإن بوش فتح بوابات التفاؤل بسحب القوات الأميركية (150 ألف جندي) من العراق حال بدء تباشير الاستقرار وعودة البلاد إلى الأمن وقيام مؤسساته التشريعية والدستورية والأمنية، حيث ستوضع خطة زمنية في وقت لاحق حال التأكد من أن جميع الظروف مواتية.
وتناول بوش في خطابه التحولات الديموقراطية والإصلاحات في الشرق الأوسط، وحث في هذا الخصوص كلا من الحليفين مصر والسعودية، على الدفع باتجاه الديمقراطية، قائلا "يمكن أن تبرز حكومة السعودية دورها القيادي في المنطقة عن طريق توسيع دور شعبها في تقرير مستقبله"، وحول مصر قال، إن مصر، التي أظهرت توجهها نحو السلام في الشرق الأوسط، فإنها "تستطيع الآن أن تظهر توجهها نحو الديمقراطية في الشرق الأوسط."
يذكر أن المملكة العربية السعودية مقبلة على انتخابات بلدي تكاد تكون هي الأولى من نوعها، ولم ترد لذلك أية إشارة في خطاب الرئيس الأميركي.
وحول الشرق الأوسط عامة، قال بوش إن "الولايات المتحدة ستقف مع حلفاء الحرية "لدعم التحركات الديمقراطية في الشرق الأوسط وما وراءه، لتحقيق الهدف الأسمى وهو إنهاء الاستبداد في عالمنا". يذكر أن الولايات المتحدة هي مبتكرة فكرة الإصلاحات في الشرق الأوسط وقيام الإقليم الشرق أوسطي الكبير، وهي أفكار تصطدم برفض من بعض الأنظمة العربية التي لا ترغب بفرض إصلاحات من الخارج مع ضرورة "احترام خصوصية الدول وتراثها وثقافتها".
أكد بوش في محاولة منه لتخفيف حالة الخشية العربية من تلك الإصلاحات "أنه ليس من حق الولايات المتحدة، والتي ليست لديها الرغبة ولا النيّة لفرض شكل الحكومة الذي نريده على أي شخص آخر. وذلك أحد الاختلافات الرئيسية بيننا وبين أعدائنا".
وأخيرا، فإن كثيرا من المراقبين يرون أن في خطاب الرئيس بوش السنوي نقاط تحول كثيرة، وأنه فعلا عازم على الحوار وانتهاج العمل الدبلوماسي أكثر من أي مضى، وبناء تحالفات أخرى، غير آبه لما قد يصدر عن بعض جماعات الضغط اليمينية التي يتزعمها التيار اليمين المحافظ الذي قيل أنه وضع خطة صياغة المنطقة منذ نهاية ثمانينيات القرن الفائت وبدأ بتطبيقها عمليا في عهد الولاية الأولى للرئيس بوش الإبن الذي خاض إلى الآن حربين كبيرتين لتنفيذ تلك الخطط، ولكن على ما يبدو، حسب ما يرى المراقبون "أنه لا حرب جديدة مع أي طرف على أجندة بوش للسنوات الأربع المقبلة"..
التعليقات