وداعاً محمود عطا الله

تعرفت على محمود عطا الله عام 1984 في ضاحية سري (جنوب لندن) . الضاحية نفسها التي سيرقد فيها رقدته الأبدية. بعد جنازة أرادت اسرته ان تكون دون ضجيج . وفي ذلك شئ من طبع الرجل .

كنا يومئذ نشارك في "مؤتمر التحرير" الذي دأبت صحيفة " الشرق الاوسط " على عقده سنوياً .

كان يتولى مسؤولية التحرير في القاهرة، وكنت اشغل الموقع نفسه في الرباط . وبعد "أيام سري" توطدت علاقتنا حين اصبح نائباً لرئيس تحرير " الشرق الاوسط" . نلتقي باستمرار حين ازور لندن.

ثم طوحت بنا الايام كل في اتجاه . وعدنا لنلتقي ثانية في " إيلاف" في صيف عام 2003 . كان وقتها مساعداً لرئيس التحرير ثم أصبح نائباً لرئيس التحرير. واناط بي الصديق الناشر الاستاذ عثمان العمير مسؤولية " مدير التحرير" للصحيفة.

عملنا سوياً في انسجام . بين الفينة والاخرى كنا نختلف " مهنياً " لكن هدوء محمود عطا الله كان كفيلا بكبح أية خلافات . علي أن أقول الآن ان الرجل كان يجر خلفه سنوات من الخبرات المتراكمة في التعامل الهادئ مع المواقف والناس . على الرغم من أنه ظل غيوراً على صلاحياته لكنه لم يبخل على أحد بما راكمته التجربة .

في شتاء العام الماضي التقينا في اجتماع ثلاثي في ضيافة الصديق عثمان العمير في مراكش.

وجدت محمود كما هو . نشيط ومتحفز . هاجسه المستمر رغبته في العطاء . يمشي على الجسر من الكهولة الى ما بعدها بتؤددة . كان في طوله الفارع ممشوق القامة كما عرفته لاول مرة . شعر سرح فيه الشيب. في عينيه نشوة عصفور .

تبدو عليه رواسب من أصل ارستقراطي . لا يقدم بسرعة بل يحاذر. يملك كفاءة التعامل مع الطوارئ والمفاجآت وملء الثغرات والفجوات واستيعاب الهزات والصدمات. كان إحساسه الاجتماعي مرهفاً . محب للحياة مغرم بها . أحبه كثيرون في هذه الحياة. متصالح مع نفسه .كان من بين مشاكل محمود عطا الله أنه شديد الكبرياء . ورأى بعض الناس في ذلك حالة من الأعصاب المشدودة .

بعد مراكش تواعدنا ان نلتقي خلال الربيع في لندن ، لكن أعاصير الزمن جعلت من حياتي خلال هذه السنة مثل "قلق المتنبي" تحملني الريح شمالاً وجنوباً . والأسى يدفعني مداً وجزراً .

تلك الثلاثاء هاتفني سارغون اسحاق من لندن . لم أكن سمعت صوته منذ فترة طويلة . قال بنبرات ملؤها الأسى والحزن " محمود ...تعيش انت " .

لم أعرف ماذا قلت. لكن أعرف انني خرجت اسير في شوارع الرباط بغير هدف وهو حالي حين تتكالب علي عاديات الزمان .

كنت تحدثت طويلاً يوم الجمعة 29 ابريل مع محمود عطاالله . وكانت تلك آخر مرة أسمع فيها صوته . كانت آخر جملة قالها لي " أرجوك لا تستعجل الأمور " لم أكن أدري انه هو الذي يستعجل أمره مع الحياة .

تحدثت في المساء مع " سلمى" في باريس . طلبت منها إن امكن تنتقل الى لندن لتعزية أسرته . كنت احدثها والدموع تبلل وجهي . وراحت هي تبكي ايضاً على الرغم من انها لا تعرفه . حاولت المستحيل لتسافر لكن الظروف إياها حالت بينها وبين السفر .

تحدثت مع الصديق عثمان العمير لانقل له التعازي واوسيه . راح هو يواسيني .

في اليوم التالي تحدثت مع زمليتنا سمر. بكينا كثيراً على محمود .

رغبت ان اشارك الزملاء في " إيلاف" بكلمة . لم أستطع . هأنذا أكتب اليوم (الخميس) ما استطعت . الحزن يعتصرني .

وداعاً محمود عطا الله . والى جنات الخلد .

طلحة جبريل