وصلتُ كربلاء التاسعة والنصف صباحاً قادماً من بغداد، كانت كربلاء هادئة ونظيفة وشبه خالية، وقليلٌ من الناس منصرفٌ إلى يومه.
كنتُ منصرفاً أيضاً إلى يومي الذي يُفترض أن أصورَ خلاله مقبرةً جماعية وأن أعدَّ تقريراً تلفزيونياً عن هذه المقبرة.
كنتُ أفكر فيما سيكون عليه شكلُ المقبرة الجماعية التي لم أشاهد مثلها في الواقع من قبل، وكنتُ أستعيد في ذهني صورَ مقابر جماعية في البوسنة ورواندا وغيرهما من مناطق العالم المنكوبة بصراع الدم.
كنتُ أفكر أيضاً في الوقتِ الذي قد يستغرقه التصوير في طقس شديد الحرارة، وتشتدُّ حرارته كلما ارتفعت الشمس في السماء.
قبل يوم كنتُ أمام دار العدالة في منطقة البيَّاع أصور الدار المخرَّبة كي أعد تقريراً عن عمل المحاكم في فترة الفوضى التي تلت سقوط نظام صدام حسين.. حياني مواطن عراقي من حركة الوفاق الإسلامي وحدثني عن اكتشاف مقبرة جماعية في كربلاء وقال: ندعو وسائل الإعلام لتصوير المقبرة.
لم تكف مخيلتي عن العمل طوال يوم وليلة، حتى وصلت كربلاء صباحاً ومرت تفاصيل كثيرة قبل أن أصل إلى المقبرة مع أعضاء من حركة الوفاق الإسلامي وكانت الساعة تقترب من الواحدة ظهراً في يوم من أيام شهر مايو عام 2003.
أين نحن ؟ سألت مرافقي وأجاب: في صحراء ( خان الربع ) وله قصة !!
كان علينا لكي نصل إلى المقبرة الجماعية أن نأخذ طريق كربلاء ـ النجف المُعبَّد، وكان علينا بعد نصف ساعة تقريباً أن ننعطف في طريق غير مُعبَّد في الصحراء حتى وصلنا إلى مقلع للرمال.
تلال عالية وطويلة الشكل أرى على أحدها سهمين أسودين متقابلين ويقول المرافق: يعني السهمان أن مقبرةً جماعية هنا، وهذا ما فعلته قوات التحالف لتمييز مكان المقبرة، لكن كيف تم اكتشافها ؟
كان المكان قبل عام 1991 مقلعاً للرمال، يأتي إليه أصحاب المصلحة لجلب رمال البناء ثم حظرت السلطات العراقية الدخول إلى المقلع وسمع الناس أنَّ إعداماتٍ تمت فيه، وكان الخوف حاضراً ليغلق أفواهَ الجميع ويمنع أقدامهم وشاحناتهم من الذهاب لجلب الرمال.
ثم مرت السنوات وسقط نظام صدام حسين وعاد الناس إلى المقلع لجلب الرمال فاكتشفوا جثثاً مطمورة، فأبلغوا حركة الوفاق الإسلامي التي أبلغت بدورها قوات التحالف التي قامت بدورها بتمييز المكان بسهمين أسودين متقابلين، كأنهما قوسا نواح صامت على مأساةٍ كامنة.
تطوع حشدٌ من الحاضرين بشرح القصة لي وكان الجميع يتحدث في صوتِ واحد، وكان لكل متحدثٍ خيط يربطه بالمقبرة.
كانت الحرارة شديدة مع بدء إخراج الجثث بأسلوب بدائي ولم تكن الجثث إلا ركاماً من عظام، فمن الذي قتل هؤلاء البشر بطلقة واحدة في جانب الرأس ويدلُّ عليها ثقبٌ لا يزال كاملا وباقياً في اختراقه لكل قيمة ولكل قانون ولكل خلق ولكل إحساس بحياة الإنسان وقدسيتها.
رجالٌ ونساءٌ وحتى أطفال تم إعدامهم ويدلُّ على أحدهم بنطلون صغير يرفعه عراقي أمام الكاميرا.
انهمكت والمصور الذي يرافقني في العمل وكانت هذه المهمة إحدى أشد مهمات حياتي المهنية إيلاماً.. ويقول المصور: الرائحة صعبة.. وأرد عليه: لكنني لا أشم رائحة يا سهيل.. وأعرف السبب لأنني في الصباح وقبل السفر من بغداد إلى كربلاء تناولت جرعة دواء مسكن للحساسية والرشح وهكذا أفقدت نفسي بدون قصد فرصة أن أشم رائحة الموت في مقبرة كربلاء الجماعية ولكن ما شاهدته كان قاطع المرارة.
يكشف الحفارون عن هيكل عظمي وبقايا دشداشة تحتفظ في التصاقها على بقايا صاحبها بمسبحته وهويته ودينار عراقي من الدنانير التي كانت معروفة بالدينار السويسري وعملات معدنية عراقية كانت مستخدمة حتى بداية التسعينيات.
فكم عدد الذين أعدموا وتم طمرهم في رمال المقلع، في هذا المكان الموحش بنواحه الصامت ؟.. أربعون إنساناً تقريباً يقول أحد الحاضرين ويؤكد أنَّ في المنطقة مقابرَ أخرى يتم اكتشافها وحصرها.
كانت حركة الوفاق الإسلامي قد سلمتني صورةً ضوئية لقائمةٍ تضم نحو أربعمائة إنسان، تقول الحركة إنهم في عداد المعدومين أو المفقودين.
كانت صور هؤلاء تغطي شوارع كربلاء بما في ذلك أبواب مقام الحسين عليه السلام في المدينة.
يحدقُّ العابرون في الصور منتظرين أن تجيبهم من غيبةِ أصحابها النائية وكان الاتهام موجهاً إلى النظام العراقي السابق بارتكاب هذه الإعدامات، ويروي أهل كربلاء قصصاً منها قصة حسين كامل المجيد الذي وقف أمام ضريح الحسين عام 1991 وقال له أنا حسين وأنت حسين فمن هو الأقوى.
تاريخياً معروفٌ أنَّ سكان كربلاء والجنوب العراقي عموماً انتفضوا ضد نظام صدام حسين عقب حرب تحرير الكويت، لكن قوات صدام كانت لا تزال في بقايا قوة سمحت لها بسحق الانتفاضة.
وبالنسبة لي كصحافي لم أكن في موقفِ الذي يتبنى وجهة نظر واحدة تتهم النظام العراقي السابق وهكذا أخذت شهادات من العراقيين الذين تواجدوا في المقبرة ( SOUND BITES )، ومنهم من قال إنه فقد أحد عشر شخصاً ويرجح وجودهم في هذه المقبرة.
ومنهم من قال إنه يدعو ( منظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان ) إلى تحديد هوية المعدومين بفحص الحمض النووي ( DNA )، ثم أنهيت تقريري التلفزيوني بهذه العبارات:
( خلف هذه التلة كما شاهدنا مقبرة جماعية، ومثلها مقابر أخرى تم اكتشافها في العراق، الأمر الذي يتطلب لجان تحقيق وطنية أو دولية تكشف أبعادَ هذا الملف الذي يعدُّ من جرائم الإبادة البشرية )
لقد بدأت عملية التحقيق هذه وإن كانت لم تؤدِ إلى نتائج تريح أفئدة العراقيين التي شجتها فأسٌ بهذا العنف وانعدام المشاعر.
استغرق التصوير ساعتين في الجحيم، وعدنا إلى الطريق العام لكي يأخذني مرافقي العراقي إلى خان الربع، إنه بناءٌ تراثي واستراحة يوجد مثلها على طول الطريق بين النجف وكربلاء، يستخدمه زوار العتبات المقدسة للاستراحة.
كان الخان شبه مهدم لأن قوات التحالف استهدفته بالقصف، ويقول المرافق كان خان الربع هذا بالذات، مكاناً لإعدام معارضي صدام حسين وسواء كان الكلام هذا صحيحاً أم لا، فقد كان العراق كله ساحة إعدام لمعارضي صدام.
خشيت من الدخول إلى الخان الذي كانت شظايا القذائف الصاروخية والقنابل العنقودية منتشرة فيه، واكتفيت بتصويره من الخارج وعدت إلى كربلاء.
سألت رجل دين من حركة الوفاق الإسلامي إنْ كان الانتقام وارداً عند الناس من أعضاء حزب البعث الذين يعتقد أهالي الضحايا أنهم كانوا وراء غياب الكثيرين، وقال الرجل إننا نسيطر على عواطف الناس ومشاعرهم ونوازعهم الثأرية، نعطي قوات التحالف وأيَ حكومة عراقية مقبلة الفرصة لكي تحقق فيما حدث، وصمت.
ومع ذلك تنقل وكالات الأنباء أخباراً ثأرية عن قتل أعضاءٍ في حزب البعث.
في بغداد جمعني نقاش مع عراقيين عن المقابر الجماعية، حكيت لهم ما شاهدته في كربلاء، وقال أستاذ جامعي كان حاضراً: إعدام هؤلاء كان رد فعل على قيام آخرين بإعدام أسر كاملة لأعضاء ومتنفذين في حزب البعث،، وأرد أنا: لو كان هذا صحيحاً فإن الدولة.. أي دولة.. لا تثأر، إنها تحاكم، تقيم العدالة والقانون ولا تتصرف أبداً بمنطق الغابة، ويجادل الأستاذ الجامعي، لم يكن ثمة حل آخر لقمع حزب الدعوة الذي ناهضَ صدام وكانت إيران تساند الحزب في ذلك.
غير أن التبريرَ الأشدَّ وقاحة كان من صحافيين ومثقفين عرب، كتبوا في صحفٍ وعلى مواقع على الإنترنت أن ثمة سوءَ فهم في حكاية المقابر الجماعية، وأن هذه المقابر ليست حالات إعدام جماعية وإنما ( طريقة في الدفن ) على حد تعبير هؤلاء.. وهذه الطريقة كما يقولون رائجة في العراق والجزيرة العربية أي دفن الموتى في صفوف بدون شواهد قبور أو علامات، وهذا الكلام بالنسبة لمقابر العراق الجماعية غير صحيح بالمرة وهو تبرير قبيح لجريمة تدل كل شواهدها في الواقع أن قتلى المقابر الجماعية كانوا في ملابسهم ولم يكونوا في أكفان، وأن آثار الرصاص واضحة تماما كما في حالة مقبرة كربلاء الجماعية.
لازلت عند قناعتي، المقابر الجماعية في العراق مأساة كاملة وشاهد على فظاعات تم ارتكابها في حق الشعب العراقي والثأر المضاد الآن لن يشفي جرحاً، فقط لجنة تحقيق عراقية أو دولية أو مختلطة تقوم بواجبها في تحديد المسؤولين الذين واتتهم الجرأة لكي يطلقوا رصاصة واحدة على رأس رجل أو امرأة أو طفل ثم يطمروه في الرمال.
ثم يعود القاتل إلى من هو على قيد الحياة من أسرة المعدوم لكي يأخذ منه ثمن رصاصة الإعدام.
لقد كان نظام صدام حسين نظاماً لا يعفي الإنسان حتى من دفع ثمن الرصاصة التي استخدمت في إنهاء حياته وكان أهل المعدوم يدفعون هذا الثمن ولا يأخذون في المقابل جثة غائبهم لكي يدفنوه دفنا لائقاً بدلاً من طمره في الرمال.
حكاية من كتابٍ مخطوط بعنوان ( رائحة الموت في كربلاء )
عن رحلة عمل إلى العراق في الفترة من 22 إبريل إلى 2 يونيو عام 2003.
إبراهيم المصري
شاعر ومراسل تلفزيوني
الصور خاصة بالكاتب.
[email protected]
التعليقات