عندما عرضت فرنسا الزواج على بريطانيا قبل نصف قرن!
لا تزال غالبية البريطانيينترفض الثقة بالفرنسيين
عادل درويش من لندن: كشف اليوم النقاب عن سر شبه عائلي، من الأرشيف القومي الذي ظل مغلقا لمدة 50 عاما، وافرج عنه في مطلع العام، عندما طلب رئيس الوزراء الفرنسي جي موليه عام 1956 من نظيره البريطاني السير انتوني ايدن، وحدة سياسية كاملة. وقد قدم موليه العرض، الذي لم ndash; ولايزال لا ndash; يخطر على بال احد، الى السير انتوني عندما جاء في لقاء قمة في 10 سبتمبر عام 1956، في مباحثات قمة ثنائية لأن فكرة الوحدة الشاملة بين quot; جمهوريةquot; اشتراكية اعدمت ملكها في القرن الثامن عشر، وبين مملكة مستقرة ليبرالية ديمقراطية، الى جانب تاريخ عشرة قرون من العداء، جعل الفكرة تبدو مستحيلة، وهو ما دفع مكتب مجلس الوزراء ووزارة الخارجية الى حفظ الوثائق سرا لخمسين عاما، وليس لثلاثين عاما، كما هي عادة حفظ الوثائق.
و قد كان صيف عام 1956، ساخنا ملئيا بالنزاع، بعد ان فاجأ الحاكم المصري الأوتوقراطي الكولونيل جمال عبد الناصر، الذي كان وصل إلى الحكم مع مجموعة ضباط بانقلاب عسكري قبل اربعة اعوام، بتأميم قناة السويس، الممر المائي العالمي الحيوي، وشركته التي انتمى حملة اسهمها إلى ثلاثين جنسية، بما فيهم مصريون طبعا.
واعتبر ايدن الأمر خيانة شخصية له، الى جانب مخالفة التأميم لقانوني الملكية الخاصة المصري، وقتها، والدولي؛ فقد وثق ايدن علاقته بعبد الناصر عندما كان وزير خارجية، ضد نصيحة رئيس الوزراء الراحل ونستون تشرشيل، الذي حذر من الثقة بضباط خالفوا الشرعية الدستورية في مصر واستولوا على الحكم بطريقة غير قانيونية واطاحوا بالحكومة الشرعية.
وتعرض ايدين لضغوط اليمين في حزب المحافظين من مجموعة السويس، التي حذرت من أن اغلاق عبد الناصر للقناة، سيقطع طرق الملاحة البريطانية للهند وبقية انحاء الإمبراطورية البريطانية شرق السويس وجنوب المحيط الهندي، وضربوا مثلا بتساهل بريطانيا مع الطاغية الالماني ادولف هتلر في الثلاثينات وما اعقبه من حرب عالمية.
اما بالنسبة إلى الفرنسيين، شكل الكولونيل عبد الناصر اكثر من مجرد تهديد اقتصادي وديمقراطي للشرعية الدستورية في مصر، فشركة قناة السويس كانت فرنسية واغلب حملة الاسهم فرنسيون، او فرنسيون مصريون بجنسية مزدوجة. وفرنسا ربطتها بمصر، خاصة الطبقات الوسطى والمثقفين، علاقة تاريخية بدأت بالحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت ( بدات بالنزول في الإسكندرية 2 يوليو 1978 ) ولثلاث سنوات أسست ميلاد العصر الحديث النهضوي في مصر ، وادى الإنفتاح الثقافي والسياسي لوصول محمد علي باشا الكبير( 1769 ndash; 1849) الى حكم مصر عام 1805 الى نهضة شاملة استمرت لقرن ونصف حتى اجهز عليها انقلاب العسكر عام 1952. وكان إرسال البعثات لفرنسا، ودور مهندسيها وفنانيها رائدا في مصر خاصة في نهضة محمد علي باشا واولاده ابراهيم، وسعيد واسماعيل الذي كلف المهندسين الفرنسيين بتخطيط القاهرة الجديدة في ستينات القرن التاسع عشر، ودعم المهندس فرديناند دي- ليسبس ( 1805- 1894) في حفر القناة ( ابتدا 1859 واكتمل المشروع 17 نوفمبر 1869.)
وكانت الحكومة الفرنسية تعرضت لضغوط من الرأي العام بدعم الديمقراطية في مصر ما زاد من الضيق الفرنسي بعبد الناصر؛ فالنخبة المصرية المثقفة واللاجئون السياسيون المصريون الذي بدأ نظام الانقلاب العسكري اضطهادهم في مصر، لجأ اكثرهم إلى فرنسا وبدأ حملة في الرأي العام الفرنسي لإعادة الحياة النيابية الدستورية والديمقراطية الى مصر.
الى جانب ذلك بدأ عبد الناصر يستخدم دخل القطن المصري، ودخل قناة السويس في دعم وتمويل الحركة الإنفصالية للمستوطنين الفرنسيين والاوروبيين والحركيين (الجزائريين المناهضين للتعريب ) في الجزائر ( وذلك سنوات قبل اندلاع جبهة التحرير الجزائرية حيث كانت الجزائر جزءا من الجمهورية الفرنسية،) في حركة تمرد كلفت فرنسا الكثير اقتصاديا وعسكريا وخسائر في الأرواح.
وكان موليه مصرا على محاربة عبد الناصر واراد إشراك بريطانيا الى جانبه، بسبب الصداقة البريطانية الطويلة مع المصريين، خاصة الطبقة المتوسطة التي بدأ عبد الناصر ايذاءها، وبسبب معرفة بريطانيا بمصر.
وبدراسة الوثائق البريطانية، وكان بعضها وليس كلها، افرج عنه منذ عقدين، لكن لم ينته الباحثون لأهميتها عام 1986، تشير الى مدى اهتمام موليه بالتعاون البريطاني، ومرونة اقتراحاته لمدى كبير لضمان تأييد بريطاني لتحجيم عبد الناصر.وتتضمن الوثيقة، والتي كتبها سكرتير مجلس الوزراء في محضر اجتماع ايدن ووموليه، quot; عندما زار المسيو موليه لندن، ناقش مع رئيس الوزراء [ ايدن] احتمال وحدة بين بريطانيا وفرنسا.quot;
وعلى غير عادة اغلبية مواطنيه، فان موليه كان انجلوفيلي، مغرم بالثقافة البريطانية واعجبه نظام رعاية الدولة في التأمينات الصحية والإجتماعية الذي توسعت بريطانيا في تطبيقه اثناء حكومة العمال ( 1945-1951) في عهد رئيس الوزراء كلمنت اتلي ( 1833- 1967) بعد الحرب العالمية الثانية، وتضحيات بريطانيا الكبيرة ودورها في تحرير فرنسا من النازي.
لكن كانت هناك دائما الطموحات، والأطماع الفرنسية في افريقيا والشرق الأوسط، منطقة النفوذ البريطاني تاريخيا. فقد كانت هناك توترات ومناوشات حدودية بين الأردن وفيه اغلبية اللاجئين الفلسطينيين والضفة الغربية التابعة لعمان إداريا، وبين اسرائيل، الحديثة النشأة.
وبريطانيا صديق تاريخي للأردن وملتزمة بالدفاع عنه، والجيش العربي ، هو الفيلق العربي للجيش البريطاني، يقوده ضباط انكليز على رأسهم غلوب باشا ( السير جون باغوت غلوب 1897- 1986) ؛ بينما كانت فرنسا حليفة لإسرائيل تقوم بتوريد السلاح إليها. ولذا لم يكن موليه يريد حربا تتورط فيها فرنسا إلى جانب اسرائيل، وبريطانيا الى جانب الأردن.
وحسب الوثائق السرية، فإن ايدن خشي من صدمة الأنباء على الرأي العام والمؤسسة السياسية البريطانية التي لا تثق بالفرنسيين، ولذا رفض الاقتراح، معتذرا بان فرنسا جمهورية، وبريطانيا ملكية . لكن موليه لم ييأس وقدم اقتراحا آخر معدلا عند زيارة ايدن لباريس بعد بضعة ايام، حيث طلب انضمام فرنسا إلى مجموعة الكومونولث، حسب وثيقة اخرى مؤرخة ب 28 سبتمبر 1958، تشير الى بحث ايدن الأمر مع سكرتير مجلس الوزراء السير نورمان بروك، حيث قال ايدن للسير نورمان ان موليه طلب من لندن بحث الأمر فوريا في مجلس الوزراء، وانه لايجد صعوبة في قبول الفرنسيين للملكة كرأس للدولة ( جميع دول الكمونولث ال 53، والتي كانت مستعمرات او محميات بريطانية، هي ديمقراطيات بنظام رئاسة وزارة والملكة هي رأس الدولة في كل من هذه البلدان) ، وان الفرنسيين يقترحون نظام المواطنة المزدوجة كما هو الحال مع الجمهورية الايرلندية ndash; ايرلندا الجنوبية ( بعد استقلال ايرلندا واعلان الجمهورية عام 1922، يتمتع مواطنو بريطانيا وايرلندا بحق المواطنة المزدوجة، ولاقيود تأشيرات او سفر بين البلدين). لكن ايدن ووزارءه دفنوا الموضوع ولم يطرح للمناقشة الوزارية او في مجلس العموم.
وقد اعلن كثير من المؤرخين دهشتهم للأمر اليوم، وان كانت التغطية الإعلامية اخذت طابعا ساخرا بعض الشيء، عن امور تتعلق بالثقافة المعيشية، مثل تحسن مستوى المطبخ الإنكليزي وارتفاع ذوق الإنكليز في النبيذ، مع الوحدة، في حين يتعلم الفرنسيون من الإنكليز برودة الأعصاب ومواجهة المآزق بشجاعة وهدوء بدلا من الثوران العاطفي.
ويؤكد الباحثون الفرنسيون غياب اي وثائق عن هذا الأمر في الوثائق الفرنسية، في حين ان الوثائق موجودة في الجانب البريطاني، ربما لأن بريطانيا، بسبب الضغوط الأميركية من ناحية، ونمو رأي عام داخلي ضد الحرب من ناحية اخرى، وعدم رغبة لندن في خسارة اصدقائها العرب والأفارقة، قررت الانسحاب عام 1956 من السويس مبكرا ( ستة اسابيع فقط بعد احتلال بورسعيد) وترك الفرنسيين وحدهم.
واتجه الفرنسيون الى المانيا وبدأ ميلاد السوق الأوروبية المشتركة، والاتحاد الأوروبي الذي تجره القاطرة الفرنسية الألمانية.
ورغم التغطية الطريفة الجانب للموضوع، وتقبل عديد من المراسلين الفرنسيين في العاصمة البريطانية للفكرة بانها ستكون اتحادا قويا ودولة عظمى قوية الأقتصاد ndash; وشاطرتهم الرأي اقلية من المراسلين البريطانيين في فرنسا، الا ان استطلاعات الرأي بالتليفون والبريد الإلكتروني في عدد من محطات الإذاعة كراديو البي بيس سي الخامس، ومحطة لندن، اشارت الى رفض غالبية البريطانيين للفكرة، لعدم ثقتهم بالفرنسيين.
والعداء تاريخيا مستحكم بين الأمتين وتكررت بينهما الحروب منذ القرن الحادي عشر عندما هزم ويليام الفاتح ( غليوم المنتصر بالفرنسية) الجيش الانكليزي الأنكلوساكسوني بزعامة هارولد الثاني في معركة هاستينجز على القنال الإنكليزي وبداية حكم النورمانديين، الى معركة ووترلو الشهيرة ( 18 يونيو 1815) عندما هزم الجيش الأنجليزي بقيادة دوق ولينجتون الفرنسيين بقيادة نابوليون بونابرت، مرورا بمعركة اجينكور ( 25 اكتوبر 1415 ) عندما عبر الملك هنري الخامس بستة الاف جندي القنال الإنكليزي ليهزم ، قرابة 30 الف فرنسي، ومعركة كريسي ( 1346)، وعشرات المعارك البحرية، اشهرها معركة خليج ابي قير ( معروفة بمعركة النيل 1 اغسطس 1798) عندما دمر الأدميرال نلسون الأسطول الفرنسي قبالة الشاطئ المصري.
التعليقات