&(الحلقة الاولى)
القاهرة : نبيل شرف الدين
(يقول "أمير المؤمنين" ، طه المصطفى شكري مصطفى ، أمير آخر الزمان ووارث الأرض ومن عليها أن إقامة دولة الإسلام تبنى وتقام على أمرين :
1 - تدمير الكافرين .
2- توريث المؤمنين الأرض ومن عليها .
فإذا محق الكافرون وتمحص المؤمنون يظهر دين الله) ، إلى أن يقول : (لابد من الهجرة، فلا إسلام ودولة تقام له إلا بعد الهجرة ، فان هلاك الكفار وتدمير الكفار وتدمير دولتهم لا يتأتيان وهناك مؤمنون في وسطهم ، والسنة أن يخرج المسلمون من ارض الكفر ولا يبقى إلا الكافرون .. حين ذلك ينزل الله العذاب عليهم ، وعلى الأبناء أن يتركوا مدارسهم وجامعاتهم ، لأن العلم وسيلة لعبادة الله ، وكل علم يتعلمه الإنسان لغير العبادة& فقد تعمله لنفسه وتعلمه لغير الله وهذا شرك) ، ثم يتساءل "أمير آخر الزمان" : (أين المكان الذي يصدر الكفر إلى العالم العربي والإسلامي ، أين القرية التي حاربت كل من نادى بالجهاد في سبيل الله ، إنها ببداهة الآن هي مصر) .
هكذا تحدث منذ أكثر من ربع قرن شكري مصطفى ، مؤسس أول جماعة تكفيرية عرفتها مصر ، بل والعالم العربي في تاريخه الحديث ، في أقواله أمام النيابة أثناء محاكمته وجماعته التي أطلق عليها اسم "جماعة المسلمون" ، والتي اشتهرت إعلامياً باسم "التكفير والهجرة" وكانت قد اختطفت الشيخ حسين الذهبي وزير الأوقاف الأسبق ثم قتلته ، وحتى استخدام ألقاب وعبارات مثل "أمير آخر الزمان" ، "أمير المؤمنين" ، "وارث الأرض ومن عليها" ، هي الألفاظ والمفردات ذاتها التي كان شكري يقدم نفسه بها للمحققين ، ويناديه أتباعه بها .
ولم يكن شكري "مجنوناً" ذلك الجنون المطبق الذي قد تشي به تلك العبارات ، بل كانت له أسانيده الفكرية ، ومبرراته الفقهية التي ساقها تفصيلياً في مؤلفه الوثيقة "الخلافة" ، الذي
والمثير في الأمر أن جماعات أصولية أخرى كالجماعة الإسلامية والجهاد اعتبرت شكري وأتباعه "خوارج الزمان" ، بينما لم يعتبرهم شكري بدوره مسلمين بالأساس ، وهذا يدحض منطق التعميم في تناول الفصائل الأصولية الإسلامية ، ووضعهم في سلة واحدة فالقراءة الصحيحة لهذه الظاهرة تبدأ بتفكيكها ، واستقراء مكوناتها الأساسية ، سعياً لرسم خريطة لانتشار "الجماعات الأصولية" وامتدادها وتحالفاتها على الساحة المصرية باعتبارها حالة نموذجية لما يجري في العالم العربي ، وكمدخل لمحاولة أوسع لصياغة ملامح الوجود الأصولي على الخريطة الإقليمية ، ليس فقط من زاوية معرفة المناطق التي تنتشر فيها الجماعات الأصولية ، لكن أيضاً من زاوية معرفة أين تنتشر جماعات بذاتها ، أو أفكار معينة ولا يمكن رصد خريطة توزيع الحركات الإسلامية الراديكالية المصرية ، وكذلك تحديد فروعها ومحطاتها الموجودة محلياً وإقليمياً ودولياً دون التعرض إلى الظروف التي نشأت في ظلها منذ منتصف الستينات ، إذ إن ظهور بعضها ارتبط بظروف سياسية ومكانية في آن واحد . وإذا كان نشاط تنظيم "الجماعة الإسلامية" في السبعينات ارتبط بالتحالف الشهير الذي أبرمه الرئيس المصري الراحل أنور السادات مع التيار الإسلامي عامة ، بدءاً من جماعة "الإخوان المسلمين" ، وليس انتهاء بالجامعات ، وهو ما يفسر استغلال هذه الجماعات لاحقاً لهذا المناخ ، لتأسيس قواعدهم في الجامعات المصرية سواء في القاهرة أو مدن الصعيد حينئذ
إذن ننطلق من قناعة مؤداها أن خريطة انتشار الجماعات هي أحد المفاتيح الأساسية لفهم أسباب الظاهرة وأساليب المواجهة ، وهنا في هذه الدراسة الموجزة ، سوف نستعين بدراسات أكاديمية ، وتقارير أمنية ، وتحقيقات قضائية ، فضلاً عن شهادات لبعض قادة ورموز هذه الحركات ، كلها رصدت واقع الجماعات والتنظيمات الإسلامية الحركية ، تحت ثلاثة محاور رئيسة يضم كل محور منها عدداً من الجماعات والتيارات الفرعية& التي تدور جميعها في فلك المحور الرئيس على النحو التالي :
أولاً ـ المحور السلفي .
ثانـياً ـ المحور الجهادي .
ثالـثاً ـ محور التكفير .
ويكاد لا يخرج تنظيم أو جماعة أو حركة أصولية على الساحة الدولية عن هذه المحاور الثلاثة رغم تعدد مسمياتها ، ولا يمكن أيضاً أن يعزى تنوع هذه الجماعات إلى مجرد الاختلافات الفكرية فحسب ، فمعظمها استند إلى نفس المنطلقات الفكرية بنسب متفاوتة ، وتكاد تحمل ذات الملامح العقائدية ، لكن الخلافات التنظيمية والحركية حول الإمارة والزعامة كانت سبباً محورياً وراء ذلك التعدد الذي يصل في كثير من الأحوال إلى حد تكفير كل جماعة للأخرى ، وإهدار دماء أعضائها واستباحة أموالهم وأعراضهم .
وعلى الرغم من هذا التنوع ، فهناك أيضاً عوامل مشتركة بين هذه المحاور الثلاثة الرئيسة لهذه الظاهرة ، والتي يمكن إيجازها وفقاً لذلك التصور على النحو التالي :
أولا ـ أن هذه الجماعات استقت أفكارها من منابع مشتركة وأصول واحدة تبدأ بفتاوى فقهاء بعينهم دون غيرهم كابن تيمية ومرورا بأبي الأعلى المودودي وانتهاء بأطروحات سيد قطب حول تكفير المجتمع وجاهليته ، وضرورة مفاصلته ، والاستعلاء بالإيمان ، والدعوة لمحاربة مؤسساته بالعنف وإقرار منهج العمل السري والعنف سبيلاً لإقامة "دولة الخلافة" المنشودة .
ثانـياً ـ أن كل هذه الجماعات على اختلاف مسمياتها وتوجهاتها تتطلع إلى أهداف مشتركة ذات صبغة سياسية بالدرجة الأولى ، وهذا في حد ذاته ليس أمراً معيباً شريطة أن يمر عبر قنوات الشرعية ، وفي إطار الثوابت المتعارف عليها في الدول الديموقراطية ، ويكاد أن ينحصر الخلاف بينهم في استراتيجية العمل الحركي وأسلوب الوصول لأهدافهم المعلنة والخفية ، فمنهم من يرى أن الطريقة المثلى تلك التي اتبعها تحالف العسكر والإخوان في السودان وهى "الانقلاب العسكري" ، ومنهم من يحبذ المنهج الإيراني القائم على "الثورة الشعبية" ، وقد ظلت هذه الخلافات في طور الكمون فترة لم تطل حتى ظهرت جلية في الصراع الدائر الآن في الحالة الأفغانية .
ثالـثاً& ـ أن المناهج الفكرية والحركية لهذه الجماعات وأعضائها تشكل في مجملها سلسلة من الحلقات المتصلة التي تخدم هدفاً مشتركاً ، وتتدرج من الدعوة في أبسط صورها والتي قد تبدو لأول وهلة مجرد سلوك معتدل لا تشوبه شائبة ، انتهاء بالعنف ، وذلك فيما يشبه عملية تربية الكوادر التي تقوم بها عصابات المافيا والجريمة المنظمة ـ تمهيداً لخوض حروب المدن والعصابات ـ فما أن يبدأ الشاب في الانسياق خلف مقولات الالتزام الفكري والسلوكي وفقاً للآليات التي يروجون لها حتى يندفع إلى نهاية الطريق ، ويجد نفسه بعد فترة تطول أو تقصر يهتف مطالبا بإقامة ما يسمى "إعادة الخلافة وتعبيد الناس لربهم" حتى ينخرط في العمل السري ، ثم يتورط في حمل السلاح لتحقيق هذه الأهداف التي تصل قناعاته بها حد الموت من أجلها دون أدنى تردد أو تفكير .
رابعـاً& ـ أن ثمة تراكماً للخبرات الفكرية والتنظيمية والعملية قد أفادتهم وأصّلت لديهم موروثاً ثقافياً أو فقهياً هو في نهاية المطاف خليط من المبررات الفكرية التي تعبر في أفضل صورها عن تناقض بين الأهداف والوسائل ، فهم مثلاً ينكرون الفكر الشيعي تماماً ، لكنهم يأخذون منهم مبدأ "التقية" ، وهى إعلان خلاف ما يبطنون من أهداف والتدرج في كشف نواياهم حتى الوصول لمرحلة التمكن وغير ذلك من المواقف الفكرية والحركية التي تنطوي على مغالطات متعمدة وتناقضات صارخة لا حصر لها .
خامساً& ـ أن شخص مؤسس الجماعة أو أميرها هو المحور الرئيس لكل هذه الفصائل وما يتفرع عنها من جماعات عنقودية على اختلاف مسمياتها الحركية أو الإعلامية ، وتدور مع شخص الأمير أو قائد التنظيم وجوداً وعدماً00 وترتبط بمنهجه ورؤيته وقدراته التنظيمية ومزاجه الشخصي ، ولعل هذا هو السبب الجوهري وراء تكاثر هذه الجماعات وانتشارها على هذا النحو المتشعب العنقودي والبالغ التعقيد والتراكم لحد يصعب معه تحديد نقطة البداية.
سادساً ـ وأخيراً فإن هنالك تنسيقاً شديد التنظيم والإحكام وربما توزيع للأدوار بدقة وعناية بين هذه الجماعات على اختلاف مسمياتها بشكل أو آخر وبصيغة أو أخرى ؛ فالجمعية الشرعية والتبليغ والدعوة للاستقطاب وتكوين القاعدة العريضة من الأتباع والمريدين ، والجهاد والتكفير للاغتيالات وأعمال العنف والسطو المسلح ، والإخوان للمعالجة السياسية والتحرك الدولي والاستنكار والتبرير والإدلاء بالتصريحات الصحفية ، ولا مانع أيضاً من عقد بعض الصفقات الحزبية واحتواء المواقف الساخنة المضادة لأعضاء هذه الجماعات التي يرون في مسلكها مجرد "حماس وحب للشهادة ، وغيرة على الدين"على حد تعبير مرشدهم الحالي مصطفى مشهور في كتابه (من فقه الدعوة) .
ونبدأ بالمحور الأول الذي يضم جماعة "الإخوان المسلمين" وجماعات "السلفية الحركية" :
أولاً : الحركات السلفية :
ويندرج تحت هذا المسمى جماعة الإخوان المسلمين وبعض الحركات السلفية التي تدور في فلكهم ، أما جماعة الإخوان فيعود تاريخ إنشائها إلى عام 1928 حينما أسس حسن البنا جماعة خيرية بهذا الاسم بهدف العمل على نشر الدعوة الإسلامية ، وبالتدريج تحولت الجماعة من صبغتها المدنية إلى تنظيم ديني له سمات حركية وتنظيمية بالغة الدقة والانتشار ، ثم أخذ البنا في تأسيس جناح عسكري للجماعة تحت مسمى "فرق الكشافة" وفي مدينة الإسماعيلية مهد الجماعة حيث كان البنا يعمل كمدرس بها بدأ يخوض في الأمور والقضايا السياسية والاجتماعية مؤكداً في كل مناسبة أن (الإخوان قد أصبح لهم دار في كل مكان ودعوة على كل لسان) وفي عام 1933 بلغ عدد فروع جماعة الإخوان ثلاثمائة فرع في كافة أنحاء مصر ثم أخذ ينتشر خارجها في بعض البلدان العربية والإسلامية ، وظل تنظيم الإخوان يتنامى ويكبر حتى انتهج خط العنف الصريح فأسسوا النظام الخاص أو الجهاز السري في جو من الغموض والسرية وقد قام على هيئة خلايا وأركان حرب وخلايا ، وحددت واجبات كل منهم وفقا للشروط والقدرات المتوافرة لدى كل فرد أو مجموعة بحيث يكون لكل خلية أمير ويلتزم الأعضاء بواجب الطاعة العمياء لهذا الأمير وفقا للبيعة التي كانت تحدث على مصحف ومسدس وفي إطار طقسي رهيب ، ثم ما لبثوا أن شكلوا ما يمكن وصفه بجهاز مخابرات الجماعة يكون هدفه التجسس على الأعضاء للتأكد من ولائهم والتزامهم بالانصياع في "اليسر والعسر ، والمنشط والمكره ، معاهدين على الكتمان وعلى بذل المال والدم" ، كما يذكر نص القسم الذي كان يردده أعضاء النظام الخاص أمام عبد الرحمن السندي ، ومن جهة أخرى يتم جمع المعلومات عن القوى والأحزاب السياسية ، وكانت ميزانية هذا الجهاز السري عام 1948 قد بلغت مبلغاً كبيراً بلغة تلك الأيام وهو خمسون ألف جنيه مصري حتى أنه في أواخر ذلك العام أصبح الإخوان دولة داخل الدولة ، لكن حكومة النقراشي أصدرت قراراً بحل الجماعة واعتقال أعضائها ومصادرة ممتلكاتها وهو الأمر الذي دفع عبد المجيد حسن لإطلاق الرصاص على النقراشي باشا داخل مبنى وزارة الداخلية وردت حكومة القصر على هذا الحادث بتدبير خطة لقتل حسن البنا .
أما عن البناء التنظيمي لجماعة الإخوان المسلمين ، فنرى أن الإخوان ظلوا ملتزمين بالإطار التالي في بناء التنظيم :
المرشد العـام : ويؤدى دور القائد أو ما أصطلح على تسميته بالإمام وفقاً لأدبيات هذا التيار عامة والإخوان على وجه الخصوص ، وهو صاحب الكلمة العليا في حالة اختلاف الأعضاء حول أمر ما ، ويماثله في تنظيمي الجماعة الإسلامية والجهاد موقع الأمير العام0
مكتب الإرشاد العام : وتوكل إليه واجبات الفتوى الشرعية والتأصيل الفقهي وهو بمثابة الجهة الاستشارية للمرشد العام ، ويماثله في تنظيمي الجماعة الإسلامية والجهاد مجلس العلماء الذي كان يرأسه عمر عبد الرحمن .
الهيئة التأسيسية : وتمثل شكل مجلس الشورى أو البرلمان ضمانا لالتزام أمراء وقادة المناطق بما أصدره مكتب الإرشاد العام من فتاوى وتكليفات والعمل على متابعة تنفيذها ، وهو نفسه مجلس الشورى بتنظيمي الجماعة الإسلامية& والجهاد ، ولكن مع اختلاف المسميات0
الجهاز السري : ويطلق عليه أيضاً "النظام الخاص" ، وهو المنوط بإعداد الكوادر من خلال التشكيلات التي عرفت في أوساط الجماعة بفرق "الجوالة ، والكتائب ، ونظام الأسر" ، وكان ذلك يتم في إطار من الرقابة الصارمة لكل تحركات الأعضاء في ممارستهم لبرنامج يومي يقوم على التدريب والرياضة وتعاليم فقهاء الجماعة واتسم بالسرية التامة في كل ما يتصل به من أنشطة أو تحركات ، وصاحب إنشاء هذا النظام عدة ملابسات استهدفت تكوين عدة خلايا شبه عسكرية بغرض الاطلاع بتنفيذ العمليات ذات الطابع القتالى باعتباره أداة الجماعة في ضرب خصومها وتحقيق أهدافها وتصفية المنشقين عليها ، ويثير هذا النظام عدداً من التساؤلات حول إقرار الجماعة لمبدأ العنف وترسيخ تقاليد العمل السري ووضع آلياته التي استفادت منها لاحقاً بصورة أو أخرى الجماعات الراديكالية ولعل نقاط التماس بين هذا النظام وما يعرف بـ"لجنة العدة" في تنظيمي الجماعة الإسلامية والجهاد ما يشير إلى مدى استفادة هذه التنظيمات من التجربة الإخوانية فكرياً وحركياً ، وعلى أية حال فإن تتبع ودراسة تاريخ النظام السري لجماعة الإخوان مسألة بالغة التعقيد ويقتضي تناوله مساحة كبيرة من البحث والدراسة بما لا يتسع له المقام هنا ، وقد قام كثير من الباحثين بدراسات مستفيضة في هذا الشأن ، ومن بين هؤلاء& يمكن للمزيد من التفصيلات الإحالة إلى عبد العظيم رمضان في كتابه (الإخوان والتنظيم الخاص) ، وأحمد عادل كمال في مؤلفه (النقط فوق الحروف) ، وريتشارد ميشيل في كتابه الهام (الإخوان المسلمون) وغيرهم .
جماعة الإرشـاد : وهذه الجماعة يمكن وصفها بالجناح شبه العلني داخل التنظيم الإخواني الأم ودورها يشبه إلى حد كبير دور وزارة الإعلام وجهاز المخابرات في آن واحد من وعظ وخطابة وإعداد وتوزيع المنشورات والملصقات والكتب والدوريات وجمع المعلومات وتجنيد الأعضاء الجدد والانتشار المدروس داخل القطاعات الاجتماعية والمؤسسات الفاعلة ، ويقابلها من جهة أخرى ما يسمى "بلجنة الدعوة" في تنظيمي الجهاد والجماعة الإسلامية .
وقد تعرضت جماعة الإخوان لعدة صدامات وأبرموا عشرات التحالفات وشهدت العديد من عمليات الانشقاق وأصبح لها فروع بمعظم البلاد العربية في فلسطين والأردن وسوريا والجزائر والسودان والخليج العربي والسعودية واليمن وغيرها ، وتعتبر جماعة الإخوان المسلمين بمثابة "الحركة الأم" التي خرجت من عباءتها معظم التنظيمات الأصولية التي تشهدها الساحة المصرية والعربية ، بل وحتى الدولية الآن ، ولعل إطلالة تحليلية على حلقة الوصل بين الإخوان والقطبيين (نسبة إلى سيد قطب) تؤكد هذا الأمر الذي يزعج المحسوبين على الجماعة ، خاصة في مؤلفه صغير الحجم ، كبير الأثر "معالم في الطريق" ما يشير بوضوح إلى الصلة العضوية بين فكر "الإخوان" ، ومنهاج جماعات التكفير والنشاط السري المسلح ، كتنظيمات "الجماعة الإسلامية" ، و"الجهاد" ، و"القطبيون" و"حتى "التكفير والهجرة" .
معالم في الطريق
في كتابه الشهير (معالم في الطريق) يقول سيد قطب (1966م) بلغة تتسم بالتعميم الواضح : (إن المجتمعات القائمة كلها مجتمعات جاهلية وغير إسلامية .. وإنه لينبغي التصريح بلا وجل أن الإسلام لا علاقة له بما يجري في الأرض كلها اليوم ، لأن الحاكمية ليست له ، والبديل الوحيد لهذه الأوضاع الزائفة هو أولاً وقبل كل شيء قيام مجتمع إسلامي يتخذ الإسلام شريعة له ، ولا تكون له شريعة سواه) وفي موضع آخر يقول قطب : (لابد من درجة من القوة لمواجهة المجتمع الجاهلي .. قوة الاعتقاد والتصور وقوة الخلق والبناء النفسي وقوة التنظيم والبناء الجماعي وسائر أنواع القوة التي يواجه بها المجتمع الجاهلي.. قوة الصمود وقوة التغلب عليه) .
وبهذه الأحكام القاطعة (وغيرها) ، دشن سيد قطب النص التأسيسي الأول لحركات الأصولية المسلحة، حيث يتضمن نص قطب الذي أوردناه الفكرتين النظريتين الرئيستين السائدتين اللتين تنطلق منهما وتستند إليهما الجماعات المسلحة وهما : فكرة "الجاهلية" ، وفكرة "الحاكمية" ، فالعالم اليوم ـ بما فيه العالم الإسلامي ـ تطبق عليه جاهلية مدمرة شبيهة بتلك الجاهلية التي كانت سائدة قبل الإسلام ، برأي قطب ، الذي يرجع ذلك إلى تجاهل مفهوم (لا إله إلا الله) الذي يجعل الحاكمية لله وحده ، وما هو موجود في العالم اليوم حكم البشر وطواغيتهم في وجه ألوهية الله وحكمه وشريعته. فلابد لجلاء الجاهلية عن التوحيد من أن تقوم قلة مؤمنة فتعتزل شعورياً قيم الجاهلية وتصوراتها وتخلص العمل لله حتى إذا استقامت أمورها تماماً انقضت على الجاهلية فنقضت ما شيدته حصناً ، حصناً وأعادت حكم الله إلى الأرض .
أما عن تأثير قطب في نشأة الحركات الأصولية المسلحة في الجامعات المصرية لاحقاً ، فإننا نستند هنا إلى شهادة أحد قادة تنظيم "الجهاد" ، وهو كمال حبيب الذي كان بمثابة المرجعية الفكرية للتنظيم ، وحكم عليه بالسجن عشر سنوات في قضية عام 1981 م ، وهو يقول في شهادته الهامة التي نشرتها مطبوعة1 محسوبة على التيار الإسلامي ليصف تفاعل الخبرة الإخوانية مع الأجيال اللاحقة من الأصوليين ، من خلال أدبيات سيد قطب تحديداً ، فضلاً عن خبرة "النظام الخاص" ، أي الجناح السري للإخوان المسلمين ، المكلف بعمليات العنف حينئذ :
"ويمكنني القول إن استلهام الروح الجهادية لدى هؤلاء الشباب الجدد - تسرب إليهم من الجيل الأسبق عليهم من التنظيم الخاص ، الذي كان يتربى تربية متميزة ومختلفة عن عموم الإخوان وهنا أحب أؤكد - للتاريخ - مسألتين :
الأولى : أن الشباب الجديد الذي التف حول سيد قطب كان استمراراً في تربيته وروحه للنظام الخاص الذي كان سرياً قبل حلّه وجعْله علنياً .
والثانية أن النزعة السلفية لدى الشباب الإسلامي في مرحلة السبعينات كان أحد مصادرها سيد قطب ، الذي طرح أفكاراً ومنهجاً جديداً يمثل استجابة لأسئلة المرحلة الجديدة من تاريخ الحركة الإسلامية .
وأحب أن أثير التفات أخي عصام إلى أن الأجيال الجديدة في الحركة الإسلامية هي أجيال تبحث عن إجابات لأسئلة متصلة بالتفاصيل وإجابات لأسئلة متصلة بتحديات ومشاكل الواقع ، وهذه الأجيال لم يعد يصلح لها إطلاق العموميات والعناوين العريضة والكبيرة ، التي ربما لا يعرف الذين أطلقوها التفصيلات التي تدخل تحتها أو الجزئيات المكونة لها ، وأذكر أن اجتماعاً جمعني وأجيال متعددة في الحركة الإسلامية ، تبدأ من أجيال الشيوخ ثم جيل الوسط والجيل المعاصر ، وبدت أزمة فهْم في حوار هذه الأجيال ، إذ إن الشيوخ كانوا يركِّزون على العموميات ، بينما كان الشباب يتحدثون عن التفاصيل والجزئيات ، وبينما كان الشيوخ أكثر محافظةً وحذراً ، كان الشباب أكثر جرأة وإقداماً ، لذا فإن اجتهادات جريئة ومهمة وجديدة يجب أن تلحق بخطاب وقضايا الحركة الإسلامية ، مع التأكيد على أن هذه الأجيال ترفض أن تُحبس في نمط واحد من الاجتهادات لا تتجاوزه ، وكأنه المقرر الدراسي ، الذي إن لم يلتزمه الطالب فسوف يرسب في الامتحان !" .
ويتفق الباحثون في التطور الفكري لسيد قطب أن راديكاليته برزت بعد العام 1952 إذ إبان هذه الفترة بالذات صار عضواً في الإخوان المسلمين، لكنه لم يكتب حرفاً واحداً في الجاهلية والحاكمية إلا بعد العام 1954 عندما دخل مع آلاف من أعضاء جماعة (الإخوان المسلمين) السجن للمرة الأولى بعد صدام الإخوان الأول بنظام الرئيس المصري الراحل عبد الناصر.
وفي السجن أقبل سيد قطب على كتابة تفسيره الشهير: (في ظلال القرآن) ، فظهرت فيه لأول مرة فكرة "الحاكمية" و"الجاهلية" ، وكان سيد قطب قد قضى بأمريكا مبعوثاً من وزارة التعليم المصرية عامين بين 1948و1950، ومنها عاد بعداء كاسح للغرب وكل ما يمت له بصلة
وفي أواخر الأربعينيات ترجم كتاب المفكر الهندي أبي الحسن الندوي المسمى (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين) ، كما اتصل بكتابات أبي الأعلى المودودي ، زعيم الجماعة الإسلامية بباكستان ، التي دشن فيها فكرة الحاكمية ، فيغلب علي الظن أن الفكرتين (الحاكمية) و(الجاهلية) تبلورتا عنده نتيجة قراءاته من جهة وتجربته السلبية في التجربة الأميركية من جهة أخرى ، ثم أتت خبرة السجن لتكتمل كافة العناصر المؤسسة لأسطورة سيد قطب الدامية.
وعودة إلى الوضع الراهن للإخوان المسلمين ، فهم يلعبون الآن في مصر دوراً مزدوجاً بالغ الخطورة وشديد التنظيم والإحكام ، فعلى الرغم من كونها جماعة محظورة النشاط ومنحلة من الناحية الرسمية بموجب قرار جمهوري صدر بحلها منذ عهد عبد الناصر ، إلا أنهم يسعون للتواجد بشكل مكثف في قطاعات هامة ومؤثرة كبعض المؤسسات الصحفية والتعليمية والاقتصادية والحزبية والنقابية وغيرها ، وكان الكثيرون منهم قد سافروا في أعقاب خروجهم من السجون في عهد عبد الناصر واتجهوا للخليج العربي والسعودية وألمانيا الغربية والولايات المتحدة واستطاعوا تكوين ثروات هائلة ، ودوائر اتصالات ضخمة وظفوها لعقد العديد من التحالفات السياسية التي ترتب عليها نتائج هامة ، فمحلياً استغل الإخوان المشروعية السياسية لبعض الأحزاب (حزب العمل المجمد حالياً) سعياً لاكتساب وجود حقيقي لهم تحايلا على القرار بحل الجماعة والتفافاً على الدستور المصري الذي يحظر إقامة أحزاب على أساس ديني أو مذهبي أو طائفي ، وبالمقابل منحوا تلك الأحزاب قاعدتهم الشعبية المتعاطفة معهم ودعموهم مالياً ومضوا خلال العقود المنقضية يقيمون في كل المدن المصرية عشرات المشروعات التجارية في إطار خطة مدروسة لإقامة مؤسسة اقتصادية موازية تساند أنشطتهم وتدعم أهدافهم ، فضلاً عن دورهم النيابي ، وقد حصلوا الآن على مقاعد في مجلس الشعب "البرلمان" المصري تزيد عن كافة مقاعد أحزاب المعارضة المعترف بها رسمياً مجتمعة .
الجماعات السلفية "غير الإخوانية" :
ويقصد بها في هذا الإطار تلك المجموعات المتناثرة في طول البلاد وعرضها من الشباب الذين ربما لم ينخرطوا تنظيميا ـ حتى الآن ـ تحت لواء أية جماعة تتخذ منهجاً حركياً يقر العنف كأسلوب صريح لها وهى عادة جمعيات مشهرة بالشئون الاجتماعية كالجمعية الشرعية والتي يرأسها عبد اللطيف مشتهري أحد أقطاب جماعة الإخوان المسلمين ، وهناك أيضاً جماعة أنصار السنة المحمدية وجماعة التبليغ والدعوة وجماعة شباب محمد وغيرها ، ويؤكد معظم المراقبين أن هذه الجماعات أو الجمعيات تشكل القاعدة غير المرتبطة تنظيميا أو حركياً بأي تنظيم أو جماعة ، لكن أعضاءها يؤمنون بنفس المنهج الفكري ، ويسعون إلى نفس الأهداف ويسعون للانتشار أفقياً في شتى أنحاء البلاد بمعدلات مطردة ويعولون على مناهج التربية وفقا لأكثر المفاهيم تطرفاً ، ويعمدون إلى إشاعة قيم الالتزام بالمسلك المتشدد في قطاعات تلاميذ المدارس والجامعات ، ويذكر أن كافة الأسماء اللامعة في عالم المنظمات الأصولية قد بدأت نشاطها من خلال الانضواء تحت راية هذه الجماعات "البريئة" في البداية ، ثم انشقت عليها لتنضم وتؤسس التنظيمات الأصولية الأخرى فمثلاً عبود الزمر وناجح إبراهيم وكرم زهدي كانوا أعضاء في الجمعية الشرعية ، وحتى أيمن الظواهري كان عضواً بجماعة أنصار السنة ، أما طلعت فؤاد قاسم وطلعت همام وصفوت عبد الغنى كانوا أعضاء في جماعة التبليغ والدعوة وحتى شكري مصطفى وعمر عبد الرحمن كانت بدايتهما مع الإخوان المسلمين وأخيرا فإن ما يمكن قوله في هذا المضمار أن هؤلاء السلفيين ، وإن لم يحملوا السلاح حتى الآن إلا أنهم لم يلقوه بعد ، ولم ينادوا بإلقائه صراحة فضلاً عن كونهم المصفاة الأولى ، وبوابة العبور إلى جماعات ومنظمات العنف المختلفة كما اتضح في عدة حالات .
وباستقراء الخريطة التنظيمية ـ كما تحددها الوثائق الأمنية المصرية ـ فإننا نراهم بشكل مكثف في القاهرة والجيزة والقليوبية والشرقية والإسكندرية ، ويظل مؤشر وجودهم مرتفعا نسبيا في محافظات الدلتا والقناة ، بينما ينخفض المؤشر كلما اتجهنا جنوبا ففي الوقت الذي يحتفظون بالوجود المؤثر في شمال الصعيد كالفيوم وبنى سويف والمنيا ، يكاد يتضاءل وجودهم في محافظات الجنوب كأسيوط وسوهاج وقنا وأسوان والوادي الجديد ، وهم بهذا يسيرون في اتجاه معاكس تماماً لتواجد الجماعات الأخرى في شتى مدن وقرى مصر باستثناء القاهرة نظراً لطبيعتها الديموغرافية الخاصة .
(يتبع)