&

القاهرة&- ضحى خالد: الشيخ عبدالقادر جادالله (93 عاماً) الذي يعمل مأذوناً شرعياً منذ العام 1942 عقد قران أبناء عبدالناصر ووصفه الزعيم الراحل بأنه مأذون بكل اللغات فدخل بلاط الزعماء والسياسيين والفنانين المصريين. وكان السادات يسأل عنه في كل حفلات الزفاف التي يحضرها بطريقته الشهيرة امال فين المأذون الشيخ جاد الله؟، ويكون هذا السؤال بمثابة قرار جمهوري للبحث عن الرجل واحضاره من تحت الارض أو بالتحديد من مكتبه المتواضع في حي السيدة زينب من اجل المثول في حضرة رئيس الجمهورية الذي يسأله فور وصوله ازاي صحتك يا رجل يا عجوز.
ولأن جعبة مأذون الرؤساء والفنانين والمشاهير متخمة بالذكريات والحكايات والمواقف الطريفة، فضلاً عن مشاهداته وملاحظاته الخاصة جداً علي حقبة مهمة من تاريخ مصر، كان لنا معه هذا الحوار الذي يجول في ذاكرة القاهرة الاجتماعية والسياسية علي امتداد نصف قرن تقريباً:
وكيف دخلت بلاط السياسيين والفنانين وأصبحت أشهر مأذون في مصر؟
- لبدايتي مع الشهرة قصة طريفة، فأنا لم اكن أمارس المأذونية كعمل أساسي، بل كنوع من العمل الاضافي لمواجهة تكاليف الحياة، فأنا مدرس لغة عربية تخرجت في الازهر الشريف وحصلت علي شهادة العالمية، وكان من زملاء دراستي في الازهر - في المناسبة - شيخ الازهر الراحل جاد الحق علي جاد الحق. المهم انني بدأت كمأذون عادي تماما إلي أن ساقتني المصادفة ذات يوم الي منزل عبدالناصر الذي كان سبب شهرتي.
كيف حدث ذلك ؟
- في ذلك اليوم ذهبت مع زميل مهنتي و صهري الشيخ علي القصاص الي دائرة مصر الجديدة، التي يعمل فيها وبالتحديد الي منشية البكري حيث منزل عبدالناصر لأشد من ازره و أسنده وهو يكتب عقد زواج مني كريمة الزعيم علي أشرف مروان. فقد كان القصاص متوجساً من فكرة مواجهة عبدالناصر وجهاً لوجه ومرتبكاً بشدة من مقابلة اعضاء مجلس قيادة الثورة نظراً الي الاقاويل والحكايات التي كان تتردد في شأنهم آنذاك.
وماذا بعد؟
- عندما بدأ (القصاص) الذي كان يبدو أصغر مني سناً عقد القران وعبدالناصر يجلس الي جوار صديقه عبدالحكيم عامر ويلاحظ كل شيء بنظرة صقر، ازداد ارتباكه إلي حد أنه اخطأ في تلاوة صيغة العقد. وهنا ضحك عبدالناصر وسمعته يقول لعامر باللغة الانجليزية المأذون خايف جداً وجايب أبوه معاه.
وهل علقت علي ملاحظة عبدالناصر؟
- الحقيقة انني ابتسمت له بدوري، مخففاً من حدة الموقف ثم قلت هوه مش خايف ياريِّس بس هيه رهبة حضرتك فما كان من عبدالناصر إلا أن اندهش للغاية من معرفتي بالإنجليزية وضحك مجدداً وهو يقول :جميل جداً.. مأذون بكل اللغات.وإثر هذه الواقعة وهذا الوصف الطريف من الزعيم الراحل صار معظم السياسيين الكبار والفنانين المشهورين يطلبونني بالاسم في حفلات زواجهم فأصبحت معروفاً لدي الجميع، خصوصاً انني في ما بعد عقدت قران خالد وعبدالحكيم عبدالناصر. وكان الرجل الكبير يتذكرني ويكرر أحياناً مداعباته اللطيفة معي بالرغم مما اشتهر عنه من جدية وصرامة.
كيف كانت أفراح أبناء عبدالناصر من حيث مظاهر الفرح وترتيباته؟
- عبدالناصر - رحمه الله - كان يكره التظاهر والبهرجة ويفضل الاحتفال بمثل هذه المناسبات السعيدة علي أضيق نطاق ممكن بحيث لا يزيد عدد المدعوين علي 30 شخصاً، إذ غالباً ما كان يقام الحفل في منزله في منشية البكري ويقتصر حضوره علي اصدقاء الزعيم المقربين وأغلبهم اعضاء من مجلس قيادة الثورة مثل عبدالحكيم عامر وحسين الشافعي وأنور السادات وكمال الدين حسين وغيرهم.
زيجات سياسية
ويضيف الشيخ عبدالقادر جاد الله: لا استطيع ان انسي حفل عقد قران خالد عبدالناصر، الذي كان يشبه اجتماع مجلس الوزراء تماماً، وكانت الشرطة تقوم بحراسته حراسة مشددة. ولم يكن من حق احد الاطلاع علي ما يدور فيه من نقاشات لأنها كانت بمثابة أسرار سياسية لا ينبغي كشفها للعامة.
سياسة في حفلة زفاف؟
- نعم فالصفة الغالبة علي معظم مناسبات عبدالناصر العائلية هي السياسة وأحوال البلد ولا شيء غير ذلك، لأن الرجل - كما عرفته - كان يحمل هموم الناس معه في كل مكان وكل مناسبة.
وكانت حفلات زفاف أبناء عبدالناصر تبدأ عادة بقراءة القرآن الكريم، ويليها عقد القران ومن ثم تقدم بعض الاطعمة البسيطة كالتورتة و الكاتوه و السندويتشات وغالباً ما كان الريس يأمر السفرجية بتوزيع بعض هذه الاطعمة علي البوابين والسائقين وغيرهم من الناس الغلابة في الحي الذي يسكنه.
وهل صحيح ان السيدة تحية عبدالناصر لم تكن تخالط ضيوفها؟
- السيدة تحية كانت تعتزل مع سيدات الحفلة من صديقاتها وزوجات الوزراء وأعضاء مجلس قيادة الثورة في أحد الاركان بعيداً عن المدعوين الرجال بناء علي طلب عبدالناصر، كما كان يقال لي، والسبب في تقديري هو ان الزعيم الراحل كان صعيدياً بالفطرة ومتشدداً في مسألة اختلاط ذويه وأهله من النساء اجتماعياً، كما هي عادة الناس في صعيد مصر.
حكايات السادات
وكيف بدأت علاقتك الوثيقة بالرئيس الراحل أنور السادات؟
- السادات - رحمة الله عليه - كان اقرب اليّ من عبدالناصر، مع ان الأخير هو الذي قدمني، كما أسلفت، الي عالم الشهرة. وهناك قصة أخري طريفة لبداية علاقتي بالسادات وهي العلاقة التي استمرت وطيدة حتي وفاته.
ففي يوم من الايام فوجئت بسيارة فارهة جداً تقف أمام باب مكتبي وينزل منها اشخاص يوحي مظهرهم بالأهمية ويطلب مني أحدهم بمنتهي التهذيب الذهاب معهم لعقد قران شخصية مهمة جدا.
وهل ذهبت؟
- طبعاً، وبعد مسيرة عشر دقائق تقريباً بالسيارة وصلنا الي ÷يلا فاخرة وهناك وجدت الرئيس الراحل السادات منتظراً بنفسه فعرفت ان الزيجة تهمه شخصيا واتضح لي انها احدي كريماته.
وكنت اعرف السادات بطبيعة الحال قبل ذلك لانني سبق ان شاهدته مرات عدة في حفلات زواج السياسيين والمشاهير التي كان حريصا علي حضورها، ولا سيما زيجات المقربين له من الضباط الاحرار السابقين وأبناء اعضاء مجلس قيادة الثورة وشخصيات عامة أخري.
ما الذي علق بذاكرتك من لقائك الأول بالسادات؟
- اذكر اني رفضت يومذاك تقاضي أجري، ولكن الرجل الح واعتبر الأمر جميلاً في رقبته وصار يطلبني في زيجات ابنائه ومعارفه بعدما اصبح رئيس الجمهورية. وفي كل حفلات الطبقة الراقية المصرية التي يُدعي اليها كان يسأل عني بالاسم ولو لم اكن انا المأذون الموكل اليه عقد القران، أو حتي لو كانت المنطقة خارج الدائرة التي اعمل في نطاقها، ولذلك باتت كل الأسر الكبيرة عندما تدعو السادات الي افراحها تستدعيني لتوثيق الزواج أيضاً.
زيجات الباشاوات
ما هي ذكرياتك عن أفراح السادات وعن الحفلات التي كان يحضرها لافراح الآخرين؟
- علي عكس الطبيعة الشخصية الحازمة لعبدالناصر كان السادات كما تعاملت معه عن قرب رجلاً مرحاً ومحباً للحظات السعادة و الفرفشة بعيداً عن أعباء العمل السياسي المرهق. وفي كل الحفلات التي شاهدته فيها كان الرجل يضاحك المدعوين ويلاطفهم بعباراته و قفشاته اللاذعة هنا وهناك. ومن ناحية اخري كان السادات أيضاً من هواة الفخامة والابهة في مناسباته الخاصة وكان يدعو كبار الشخصيات والفنانين ويحرص علي اضفاء اللمسات الارستقراطية علي كل شيء في هذه المناسبات وعلي حضور المطربين والمطربات وغيرهم للغناء وخلافه.
ويتابع الحاج جاد الله شريط ذكرياته قائلاً: أما الطريف حقا فهو ان السادات كان يشرف بنفسه علي عشائي الخاص واصناف الطعام التي ستقدم اليّ بعدما انتهي من كتابة عقد الزواج، فيأمر الخدم بأن يكون عشاء باشاواتي لانه كان يعلم انني تعاملت مع فؤاد سراج الدين وعائلته وحتي احكي للناس عن كرمه الخاص وعن الفرق بينه وبين باشوات زمان.
ورغــم هـذا المزاج الارستقراطي اصبحت صديق السادات ولم تصادق عبدالناصر؟
- لم يكن من السهل علي عامة الناس من امثالي النفاذ الي شخصية عبدالناصر أو مصادقته بسبب حزمه الشديد - كما قلت - وانشغاله الدائم بالسياسة في حفلاته الخاصة، أما السادات فكان شخصاً متواضعاً ومرحاً وبسيطاً مع العامة، علي عكس ما يقال عنه خلافاً لذلك، واعتقد ان تمرسه بأمور الحياة علي مدي مراحل مشواره الحافل منذ منتصف الثلاثينات في السجون والمعتقلات وغيرها هو الذي اكسبه صفة الاريحية وجعله ابن بلد حقيقياً ومن الطراز الاول.