&

في الحلقة السابقة تحدث منتصر الزيات عن نشأة زعيم جماعة الجهاد الدكتور أيمن الظواهري والظروف التي أسس خلالها أول خلية جهادية سرية، وعرض للمناخ الذي كان يسود مصر وقتها، وروي بداية العلاقة بينه وبين الظواهري واورد رموز الإسلاميين الذين تأثر بهم زعيم جماعة الجهاد . وفي حلقة اليوم يكشف خفايا النزاع الذي تفجر بين تنظيمي الجهاد و الجماعة الإسلامية وفض الائتلاف بين التنظيمين والدور الذي لعبه الظواهري في ذلك، كما الجذور الفكرية لزعيم الجهاد التي تقوم علي مبدأ الإنقلاب.
قضينا أكثر من سنتين داخل السجون بعدما وزعتنا السلطات المصرية علي أكثر من سجن أثناء المراحل التي مرت بها القضايا الثلاث التي توزعنا علي لوائح الاتهام فيها، وكنت أتردد خلالها علي مستشفي ليمان طره بين الحين والآخر قادماً اليها من سجن أبي زعبل الذي كنت مودعاً فيه حيث التقيت بالدكتور أيمن الظواهري.
كنت قد عايشت أزمة عنيفة ألقت بظلالها علي كل قيادات العمل الإسلامي الجهادي المودعين في السجون المختلفة، والتي تفجرت حول استمرار إمارة الدكتور عمر عبدالرحمن علي التنظيم، أي الائتلاف بين تنظيمي الجماعة الاسلامية والجهاد.
والحق أن هذه الأزمة كانت من تداعيات مناخ الهزيمة الذي خيّم علي التنظيم بعد نجاحه في تنفيذ مهمة اغتيال السادات وفشله في اتمام مهمات أخري جري التخطيط لها علي عجل في الفترة بين 5 أيلول (سبتمبر) 1981- وهو تاريخ إصدار السادات قرار التحفظ علي 1536 من قيادات العمل الوطني في مصر وبينهم عدد من قيادات الجماعات الإسلامية - وحتي 6 تشرين الأول (أكتوبر) ساعة تنفيذ خالد الإسلامبولي ورفاقه عبدالحميد عبدالسلام وعطا طايل حميدة رحيل وحسين عباس مهمة اغتيال السادات في ساحة العرض العسكري في مدينة نصر. ودارت داخل السجون نقاشات ساخنة حول أسباب الفشل والتقاعس عن تنفيذ المهمات الأخري التي أنيطت إلي مجموعات أخري والتوسع في عملية اقتحام مديرية أمن أسيوط صبيحة يوم عيد الأضحي في الثامن من تشرين الأول (أكتوبر) عام 1981 التي أسفرت عن مقتل أكثر من مئة شخص، ما كان سبباً في اكتشاف السلطات أن الخطر عليها لا يكمن فقط في هؤلاء الذين نفذوا حادث المنصة وانما في مئات آخرين كانوا أعضاء في التنظيم.
أثار فريق من قيادات الجهاد شبهة بطلان ولاية أو زعامة الدكتور عمر عبدالرحمن للتنظيم بدعوي عدم سلامة أهم حواسه وهي حاسة النظر واعتبروا ذلك سبباً مهماً لإعفائه من منصبه. وكان في طليعة من آثار هذه القضية الشائكة الشهيد عصام القمري ومعه بالطبع الدكتور أيمن الظواهري و آخرون.
اللافت أن الأيام جمعت في المواقف بين الأخ رفاعي طه قيادي الجماعة الإسلامية - الذي تولي قيادتها في فترة مهمة بعد الإفراج عنه وسفره إلي أفغانستان حتي أجبر علي الاستقالة في أعقاب حادث الأقصر الشهير في تشرين الثاني (نوفمبر) 1997 ـ وبين الظواهري علي رغم أن شهور السجن شهدت خلافاً عميقاً بينهما.
أذكر أن العلاقة كانت قد توترت الي أقصي درجة داخل السجن في عام 1983 بين الرجلين وكان طه يحدثني في تلك الأيام عن دور الظواهري في إذكاء الفتنة وتحريكه لها من طرف خفي وتصديره للأخ عصام القمري في الحديث عن هذا الأمر. ومعلوم مدي اندفاع القمري وجرأته وحدّته في الحديث.
غير أني التقيت بالظواهري أيضاً داخل عنبر مستشفي ليمان طره وسألته عما يتردد فأجابني في هدوء يحسد عليه مؤكداً عدم صحة ما يردده رفاعي طه، وأنه يكن كل تقدير للدكتور عمر عبدالرحمن وتضحياته واحترامه لمكانته الاجتماعية والعلمية. وأوضح الظواهري أنه مقتنع بأهمية دور الشيخ عمر نفسه في رفع الالتباس أو تفادي الفتنة بضرورة تخليه طواعية عن الإمارة اسوة بالحسن بن علي بن أبي طالب (رضي الله عنهما) حينما تنازل عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان حقناً للدماء ودفعاً للفتنة . المهم أن الخلاف بين الفريقين انتهي بانفصال التنظيمين وبدأ كل منهما في العمل منفرداً.
والتقيت الظواهري بعد الإفراج عنه من قضية الجهاد قبيل سفره عام 1985 فأبلغني عزمه علي العمل في أحد المستوصفات الطبية بمدينة جدة بالمملكة العربية السعودية، ولم يكن راغباً في خوض أي إجراءات قضائية بخصوص واقعة تعرضه للتعذيب أثناء سجنه في قضية الجهاد. واكتفي بإبداء أقواله كشاهد علي ما حدث لبعض إخوانه ممن استشهدوا به في وقائع تعرضهم للتعذيب في التحقيقات التي كان يجريها مكتب النائب العام بناء علي حكم أصدره المستشار عبدالغفار محمد أحمد في قضية الجهاد وطلب التحقيق في وقائع التعذيب مع الضباط المتهمين باقترافه.
حين سافرت لأداء العمرة وكان بصحبتي الأخ مجدي سالم - أحد القيادات البارزة في جماعة الجهاد، وهو يقضي حالياً فترة العقوبة عشرون عاماً في قضية طلائع الفتح ـ في وقت لاحق لسفر الظواهري عام 1985 حرصت علي زيارته في مستوصف ابن النفيس في جدة وبدا الحزن يكسو قسمات وجه الظواهري، فلم تكن آثار الجروح التي خلفها التعذيب البشع الذي تعرض له قد برأت من قلبه وان برأ منها جسده فقد كان مؤلماً أن يتعرض الظواهري لقدر غير طبيعي من التعذيب رغم ضعف دوره في واقعة اغتيال السادات أو مجريات عمل التنظيم قبلها لكن يبدو أن أجهزة الأمن كانت اكتشفت بعد القبض عليه علاقته بمجموعة من الضباط في القوات المسلحة علي رأسها عصام القمري، الضابط في المدرعات الذي فر من الخدمة العسكرية بعد اكتشاف السلطات أدواره التنظيمية في آذار (مارس) عام 1981، وكذلك الأخ النقيب عبدالعزيز الجمل والملازم أول عوني عبدالمجيد وكنت قد التقيت مع الأخيرين أثناء المحاكمات اذ اتهما في قضية الانتماء لتنظيم الجهاد التي كنت المتهم الأول فيها.
في اعتقادي أن أهم ما كان يؤلم الظواهري أنه أجبر تحت وطأة التعذيب والإكراه علي أن يكون شاهد إثبات ضد زملائه وإخوانه وأعضاء تنظيمه في القضية التي حوكم فيها القمري والضباط الآخرون. وقد اخرج الظواهري من سجنه في طره مرتدياً الملابس المدنية واقتيد إلي قاعة المحكمة العسكرية العليا في الجبل الأحمر ليشهد ضد زملائه من الضباط أنهم شكلوا تنظيماً داخل القوات المسلحة استهدفوا من خلاله إطاحة نظام الحكم وإقامة حكومة إسلامية بدلاً منه.
وكان الظواهري قد أرشد، بعد ضبطه في 15 تشرين الأول (اكتوبر) 1981 الي مكان اختباء عصام القمري وقاد أجهزة الأمن إلي زاوية صغيرة اعتاد القمري أن يؤدي الصلاة فيها ويلتقي فيها دورياً مع الظواهري وأفراد تنظيمه.
أقول ربما كانت هذه الأمور من أشد ما آلم الظواهري ودفعه إلي ترك مصر والسفر إلي السعودية حيث بقي فترة قبل أن ينطلق إلي حيث أراد الله له أن يذهب ويفجر طاقاته في أفغانستان في الفترة من 1987 حتي 1990، وخلال هذه الفترة ولدت زعامة الظواهري واستطاع عبرها جمع شتات عناصر الجهاد من المجموعات المختلفة.
ظل عبود الزمر ضابط المخابرات السجين في طره حتي وقت متقدم من عام 1987 الرمز الأشهر لحركة الجهاد الإسلامي في مصر وزعيمها الأسير الذي تتشوق كل عناصر الجهاد إلي رسائله وتوصياته و أدبياته، فكان أن اختار الزمر الأخ مجدي سالم ليكون ممثله خارج السجن ومسؤول تنظيم الجهاد آنذاك، يعاونه عصام مطير وهو أردني فلسطيني كان يقيم في مصر. وفي ذلك الوقت اصبح اسم الجهاد ذا مد اعلامي قادراً علي استقطاب الكثير من الشباب، فيما تمتع عبود الزمر بقبول شعبي وعاطفة متأججة تجاهه.
لكن الأمور سارت علي غير ما يريد الزمر وفي اتجاه أماني الظواهري وطموحاته بل وتخطيطه. فقد اهتم مجدي سالم بالسفر خارج البلاد وتنقل بين مصر والسعودية حيث أقام وباشر نشاطاً تجارياً هناك، فضعفت سيطرته علي عناصر الجهاد الموجودة في مصر ومتابعته لشؤونهم.
وألقت أجهزة الأمن عام 1987 القبض علي عصام مطير الذي كان يتمتع بحركة نشطة ودائبة عوّضت غياب مجدي سالم وقامت بترحيله إلي الأردن فكانت الضربة القاصمة. في هذه الأثناء انتقل القيادي البارز في تنظيم الجماعة الاسلامية محمد شوقي الإسلامبولي ليقيم في القاهرة تاركاً مدينة ملوي في محافظة المنيا واقام مشروعاً تجارياً كان عبارة عن مكتبة في ضاحية عين شمس بالقرب من المناطق التي كانت تسيطر عليها مجموعات الجهاد . ففي عين شمس كان يقيم عبدالحميد عبدالسلام وحسين عباس زميلا شقيقه خالد الإسلامبولي وأيضاً نبيل المغربي موسوعة تنظيم الجهاد . هنا تجدر الاشارة الي أن محمد الاسلامبولي كان ناشطاً في الجماعة الاسلامية في حين أن شقيقه خالد كان ينتمي الي تنظيم الجهاد . والمهم أن محمد اتخذ من المكتبة التي يبيع فيها الكتب الدينية والإسلامية واشرطة الخطب الدينية مركزاً لنشاطه فكانت سبباً مهماً في الترويج لأشرطة الدكتور عمر عبدالرحمن، سواء الدروس التي كان يلقيها في المساجد بعد الإفراج عنه في 1984 أو أشرطة تلاوته للقرآن الكريم اذ انه يتمتع بصوت رخيم يجذب القلوب والعقول، وبالتالي صارت مكتبة محمد شوقي الإسلامبولي في أسفل مسجد صعب بن صالح أول مقر تقيمه الجماعة الإسلامية داخل القاهرة، وكانت الكاريزما الخاصة لمحمد شوقــي الإسلامبولي وعائلته ووجود والدته دائماً بجواره وما كانت ترمز إليه من قدرة علي الصمود وتحمل ألم فقد الابن الشهيد وعذابات ابنها الآخر، من أهم أسباب انتشار الجماعة الإسلامية في القاهرة معقل الجهاد ، وبالتالي إلي محافظات الوجه البحري التي لم يكن للجماعة الإسلامية وجود فيهــا قبـــل أحـــداث تشرين الأول (اكتوبــر) 1981.
سهلت مأمورية الدكتور أيمن الظواهري في جمع شتات عناصر مجموعات الجهاد واعتمد في ذلك علي أمور عدة أهمها سفر كثير من الشباب إلي أفغانستان للمشاركة في الجهاد ضد الروس وتحرير كابول من دنس الاحتلال الشيوعي. واستطاع الظواهري، بعلاقته التي توطدت بأسامة بن لادن، أن يحسن استقبال هذه العناصر في معسكرات أقامها له بن لادن، وبالتالي كان المناخ مهيئاً للسيطرة عليهم تنظيمياً عبر دروس متنوعة في أساليب القتال عسكرياً وأيضاً عبر أبحاث شرعية وأخري سياسية وحركية تؤدي بالضرورة إلي ارتباطهم به شخصياً وبالتنظيم الذي كان يعمل علي تأسيسه آنذاك. وصبّت هذه الاستعدادات كلها في خانة إعداد الأفراد والسيطرة عليهم فكريا ومن ثمّ استقطابهم لعضوية تنظيمه الجديد وها هو يبدأ مشواره الذي عمل له منذ صدر شبابه سعياً الي فكرته التي يؤمن بها وهي قلب نظام الحكم في مصر.
وفي الوقت نفسه ترك الظواهري في القاهرة من يقومون باستقطاب البقية الباقية من تنظيم الزمر والتوسع في ضم آخرين إلي التنظيم ومعاونتهم في السفر إلي أفغانستان.
وكان نشاط نبيل نعيم عبدالفتاح و ثروت صلاح شحاته من أهم الأسباب التي ساعدت علي تكريس سيطرة الظواهري علي كل عناصر الزمر بل ضمّ آخرين عبر الترويج لفكر الظواهري ومؤلفاته التي بدأت تنتــشر شيئاً فشيئاً. وكانت الرسائل الصفراء (في إشارة إلي لون الغلاف الذي تميزت به) قد ملأت التجمعات الشبابية والجهادية، ورغم كونها نشرات سرية إلا أنها كانت تطبع وتوزع بسرعة فائقة وبجهد متنام لنعيم وشحاتة قبل أن تتوصل أجهزة الأمن الي خطورتهما ودورهما في إعادة بث التعاليم الجهادية، فألقت القبض علي نبيل نعيم عام 1991 لكن ثروت شحاته كان أسرع في الفرار من قبضة الأمن حيث استطاع السفر الي خارج البلاد بجواز سفر مزور ووصل إلي أفغانستان ليكون الرجل الثاني في تنظيم الظواهري.
وفي هذا الصدد كنت قد تحدثت مع الظواهري طويلاً، خصوصاً عندما تقابلنا في جدة وقبل أن يشرع في تأسيس تنظيمه عن أهم أسباب إخفاق حركة الجهاد وتراجعها واتفقنا في الرأي علي أن السرية المفرطة التي تتبعها الحركات الجهادية من دون أن تكون لها أدبيات تخاطب الناس وتحرك مشاعرهم أحد تلك الأسباب المهمة وقلت له ان العمل السري لا يجد له أنصارا في مصر وأن أي حركة إسلامية تفتقر إلي أهم أسباب وجودها وتواصلها إذا انقطعت عن الجماهير. واعتقد أن الظواهري تأثر كثيراً بما طرحته عليه وبعد ذلك بدأ يصدر العديد من النشرات والمؤلفات والأبحاث التي تحمل فكره.
منهج انقلابي
قبل أن نتعرض بالتحليل والتدقيق لفكر الظواهري لا بد أن نلقي شيئاً من الضوء علي شخصيته الغنية بالكاريزما، ورغم وضوح فكره الانقلابي من أول يوم لدخوله في أول خلية سرية عام 1968 إلا أنه كان يتسم بصفات طيبة. فهو عرف بالأخلاق الكريمة والرقة في تصرفاته، هادئ لا يتكلم كثيراً حتي يمكن وصف سمته بالانطوائية، لكن أفكاره مرتبة يعرف ماذا يريد تحقيقه، قليل الكلام لكن المستمع إليه يستطيع بسهولة أن يعرف ماذا يريد من حديثه، لا ينفعل بسرعة وهذه ميزة مكّنته من اتخاذ القرارات المهمة في ظروف متغايرة.
وإذا كنا نتحدث عن فكر أيمن الظواهري فلا يمكننا أن نعزله عن خلفيته الاجتماعية علي نحو أعمق من مجرد النظر إلي الجوانب الأرستقراطية فيها وإنما إلي التراث الثوري المنحدر من جذوره فهو سليل أسرة عريقة أباً وأماً. فمن ناحية الأب ينتمي إلي جده لأبيه الشيخ محمد الظواهري أحد شيوخ الأزهر العظام ممن دافعوا عن الحق وقاوموا الاحتلال والفساد. ومن ناحية الأم فجده لأمه عبدالرحمن باشا عزام أول أمين عام لجامعة الدول العربية صاحب التراث الوطني المخلص من أجل توحيد الصف العربي وتنمية الرغبة في الحصول علي الاستقلال، ومن أخواله سالم عزام الذي يدير المجلس الإسلامي - الأوروبي في لندن. وقال أيمن في التحقيقات إن سالم أمده بأموال في عام 1981 غير أنه عاد وشكك في صحة هذه الأقوال أمام المحكمة لأنها وليدة إكراه فبرأت المحكمة سالم عزام. وخاله الآخر محفوظ عزام نائب رئيس حزب العمل المصري المعارض وهو صاحب مرجعية إسلامية. تلك هي خلفية أيمن الظواهري الثورية التي أججت داخله الرغبة في الثورة علي الأوضاع إثر نكسة يونيو 1967، فلم يكن مستغرباً أن يتنازل الدكتور أيمن الظواهري خريج كلية طب القاهرة ووريث أسرة عريقة في مجال الطب والجراحة عن أرستقراطيته ونموذج حالة مستقرة يتمناها كثيرون من أقرانه.
ولعل الإسقاط علي النهج الذي اختاره الظواهري وحليفه بن لادن وخلفيتهما الإسلامية وهما سليلا أسر ارستقراطية ثرية، يكشف بطلان حصر وسائل البحث والتعليل في أسباب نشأة الجماعات الإسلامية وما ارتبط بها من مراحل المعارضة المسلحة وتبرير ذلك إلي النواحي الاقتصادية والاجتماعية.
إن الفكرة عندما تسيطر علي صاحبها ويقنع بها ويؤمن بما تحمله من مبادئ خصوصاً إذا كانت إسلامية ترتبط بجذور حضارة عريقة وعتيقة فإنها لا تعرف المقياس الاجتماعي ولا التفسير الطبقي. قد يكون الفقر أو ضعف الحالة الاقتصادية سبباً لحالة العنف التي تطرأ علي أي مجتمع لكن عنف الفقر لا يكون سبباً لاعتناق الفكر الإسلامي، فأتباع الإسلام في كل عصر ومكان من الأغنياء والفقراء علي السواء، وهو دين غني بالنظرية التي تكفل التكافل الاجتماعي يلجأ إليه الفقراء إنصافاً من جور الإقطاع وشعوراً بالعدل ويحقق للأغنياء فرصة لرعاية الفقراء وإنفاق الأموال طمعاً في مرضاة الله واهب هذه الأموال وسبب وجودها. إن الإسلام سيمفونية رائعة تعزف من أجل تحقيق التكافل الاجتماعي بين الناس.
ولقد امتلأت لوائح الاتهام في قضايا عديدة بنماذج من المتهمين يحسبون علي شرائح اجتماعية متقدمة من رجال الأعمال وشاغلي الوظائف المميزة يعتنقون مرجعية إسلامية كانت سبباً في تعرضهم للاعتقال والمحاكمة.
ولعل هذه النقطة تحديداً من أهم الأسباب التي تدفعني إلي تأكيد احترامي للظواهري فقد كانت أمامه فرصة قوية لاستخدام خلفيته الاسرية لكنه اختار فكرة ودافع عنها، اتفقنا أو اختلفنا معه حولها، وضحي في سبيلها. يبقي أن أشير في هذا المقام إلي ما يتمتع به الظواهري من تواضع وزهد، وقد كانت الخصال سبباً مباشراً في تكريس زعامته وتأكيد قيادته وسلطانه علي قلوب أتباعه.
لذلك كنت أعتبر أن ما ردده بعض الشخصيات في أسرة الظواهري عن سبب مغادرته لمصر وبالتالي حدوث هذه التطورات في مسيرة حياته وتبنيه للعمل المسلح ضد الحكومة المصرية هو تقليل من شأنه مع احترامي العميق لأسرته التي تنظر إليه كواحد من أفرادها تهتم بأموره إنسانياً وتعمل لالتماس المبررات لنقاء صورته وفق اعتبارات اجتماعية. والاكيد أنه يحمد لهذه الأسرة أنها لم تتبرأ من ابنها في أحلك الفترات سواداً وقاومت كل الضغوط من أجل تخليها عن ابنها واحترمت فيه ما تبناه من فكر.
ولكني أنظر إلي الظواهري كشخصية عامة كان لها حضورها الطاغي في مجريات الأحداث في مصر لفترة طويلة، ومن هنا كان التنقيب عن فكره ومنهجه وأساليبه وآلياته، خصوصاً بعد تداعيات الأحداث علي النحو الذي سارت إليه منذ الإعلان عن دخول الظواهري في تحالف وثيق مع بن لادن في شباط (فبراير) 1998 وما تلا ذلك من تفجير للسفارتين الأميركيتين في نيروبي ودار السلام ثم تفجير المدمرة كول في ميناء عدن في اليمن، مروراً بصدور أول حكم قضائي من إحدي المحاكم العسكرية ضده في مصر في القضية المعروفة إعلامياً بـ العائدون من ألبانيا بالإعدام غيابياً.
ثم كانت أحداث الثلثاء الدامي في الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001 التي شهدت تفجيرات خطيرة في نيويورك وواشنطن وإعلان السلطات الأميركية أن المطلوب الأول فيها هو أسامة بن لادن والمطلوب الثاني هو أيمن الظواهري، وبذلك تكون الحالة الفكرية والتنظيمية للظواهري قد وصلت إلي أعلي نقطة يمكن أن تبلغها ويصبح تقويم خطواته وأفكاره ومنهجه أمراً واجباً.
ولذلك كان مهماً أن نوثق رصدنا للحالة الانقلابية في فكر الظواهري من خلال أقواله هو ومنها ما أورده في التحقيقات في قضية الجهاد الكبري عام 1981 أو أبحاثه وكتبه التي دونها وأصدرها.
أقوال الدكتور أيمن الظواهري في القضية الرقم 462 للعام 1981 حصر أمن دولة عليا (الجهاد الكبري):
دار الحوار الآتي بين المحقق والظواهري:
متي بدأت اهتماماتك بالنواحي الدينية؟
- كان ذلك في المرحلة الثانوية سنة 1965/1966 حين كنت أقوم بقراءة الكتب الدينية وعقب حادث الإخوان المسلمين سنة 1965 بدأ بعض الناس يحدثوني عن ضرورة تجمع الشباب المسلم لأن هذا الحادث موجه ضد الإسلام فاقتنعت بهذه الفكرة.
ومتي نمت فكرة تكوين التنظيم الذي كنت فيه؟
- خلال عام 1966/ 1967 تقريباً.
ومن الذي فكر في إنشاء هذا التنظيم؟
- كنا مجموعة من الطلبة في مدرسة المعادي الثانوية وطلبة آخرين من مدارس أخري من بينهم إسماعيل طنطاوي.
ومن قام بإنشاء هذا التنظيم؟
- كان معنا طالب اسمه عادل العياط فكر في إنشاء هذا التنظيم ثم قمت أنا وإسماعيل طنطاوي وسيد حنفي وعادل العياط بإنشاء هذا التنظيم إلا أن عادل العياط انسحب منه مبكراً.
وهل أطلقتم اسماً معيناً علي هذا التنظيم؟
- لا.
وما هو هيكل هذا التنظيم منذ إنشائه؟
- إسماعيل طنطاوي كان أمير التنظيم وكان معه في عضوية التنظيم أنا وسيد حنفي ثم انضم بعد ذلك علوي مصطفي عليوة ثم بدأ ينمو التنظيم بإضطراد حتي عام 1974 حين حصل انشقاق من بعض الأفراد عليه.
وما الغرض من إنشاء هذا التنظيم؟
- كنا نهدف إلي إقامة الحكومة الإسلامية.
وما المقصود بالحكومة الإسلامية في ظل تنظيمكم هذا؟
- هي الحكومة التي تحكم بشرع الله سبحانه وتعالي.
ثم عاد وكيل النيابة ليسأل الظواهري مرة أخري في الصفحة 56 من محضر استجوابه.
ما معني الجهاد في ظل التنظيم؟
- أجاب الظواهري بوضوح: معني الجهاد هو إزاحة الحكومة الحالية عن طريق مقاومتها وقلب النظام القائم وإحلال الحكومة الإسلامية محلها.
وكيف يتم إحلال الحكومة الإسلامية محل الحكومة الحالية؟
- قال في شفافية ووضوح ينبآن عن وضوح هدفه ومقصده: عن طريق الانقلاب المسلح وقد اقتنعنا بأنه يجب تعاون المدنيين مع العسكريين لتحقيق هذا الهدف.
وما سبب إزاحة الحكومة الحالية وإقامة الحكومة الإسلامية؟
- لأن الحكومة الحالية لا تحكم بشريعة الله سبحانه وتعالي
وفي نهاية هذه الجلسة من الاستجواب سأل محمود مسعود وكيل نيابة أمن الدولة العليا الظواهري: هل أعددتم الوسيلة الكافية للقيام بهذا الغرض؟
- قال الظواهري: إحنا سعينا لذلك وكان أمامنا مشوار طويل لم نبلغه لأن إمكانياتنا لم تصل لتحقيق هذا الغرض.
وفي جلسة تحقيق أخري يوم 2/11/1981 عاد محمود مسعود وكيل نيابة أمن الدولة العليا ليسأل الظواهري عن التنظيم الذي قام بتأسيسه مع إسماعيل طنطاوي وسيد حنفي وعادل العياط:
فقال: في البداية كان التنظيم مكوناً مني أنا وإسماعيل طنطاوي وسيد حنفي وعادل العياط وعلي سعد وشخص يدعي بدر في المعادي ويحيي هاشم وعبدالعظيم عزام، ثم انفصلت أنا وإسماعيل طنطاوي وسيد حنفي عن هؤلاء الأشخاص جميعاً، وذهب كل منهم الي حاله، وكوّنا إحنا الثلاثة تنظيمنا الذي أنضم إليه علوي مصطفي عليوه ومحمد عبدالرحيم وعصام القمري وأشخاص آخرون فوصل عدد التنظيم خلال عام 1974 إلي حوالي أربعين شخصاً، ثم حصل انشقاق بعض الأعضاء عن هذا التنظيم علي رأسهم علوي وعدد آخر من الأعضاء وأصبح تنظيمنا بعد ذلك يتكون أساساً مني وإسماعيل طنطاوي ومحمد عبدالرحيم ثم انضم إلينا أعضاء آخرون، علي فترات متتالية كما خرج بعض الأعضاء من التنظيم إلي أن وصلنا إلي الصورة الحالية الآن لتنظيمنا وهو يتكون من حوالي أحد عشر عضواً وأتولي أنا أمارة هذا التنظيم، ومعي كل من أمين الدميري وسيد إمام عبدالعزيز ونبيل البرعي ومحمد عبدالرحيم وخالد مدحت الفقي وخالد عبدالسميع ويوسف عبدالمجيد وعصام ولا أذكر لقبه وهو طالب في كلية الطب البيطري والثلاثة الموجودون في السعودية وهم شقيقي محمد ومصطفي كامل وعبدالهادي التونسي.
ومتي انضم هؤلاء الأعضاء إلي التنظيم وكيف انضموا إليه.
- أمين الدميري انضم للتنظيم من حوالي سنتين وعرفني به سيد إمام وأنا اللي دعوته للانضمام إلي تنظيمي فوافق، وسيد إمام انضم إلي التنظيم في عام 1975/1976 عندما كان طبيب امتياز معي في القصر العيني وأنا اللي قمت بضمه أيضاً، ونبيل البرعي انضم الي التنظيم قبل ذلك لأنه كان معي في المجموعة الأولي في التنظيم واستمر في تنظيمي بعد ذلك انضم تقريباً سنة 1974/1975 وأنا اللي جددت انضمامه لتنظيمنا، ومحمد عبدالرحيم كان معي منذ نشأة التنظيم، وخالد مدحت الفقي تم ضمه للتنظيم عن طريق نبيل البرعي من حوالي ثلاث سنوات تقريباً، وخالد عبدالسميع انضم للتنظيم من حوالي سنتين تقريباً عن طريق شخص يدعي وحيد جمال الدين وانفصل عن تنظيمنا ويوسف عبدالمجيد انضم عن طريق نبيل البرعي من حوالي ثلاث سنوات، وعصام انضم من حوالي سنتين ونصف عن طريق نبيل البرعي أيضاً، أما شقيقي محمد فهو معي في التنظيم منذ نشأته ومصطفي كامل انضم للتنظيم منذ حوالي ثلاث سنوات، وعبدالهادي التونسي انضم منذ عام تقريباً، وقام بضمهما شقيقي محمد.
ما الهدف الذي كنتم تسعون اليه عند إنشائكم لهذا التنظيم؟
- كنا نسعي إلي قلب نظام الحكم القائم بالقوة وإحلال الحكومة الإسلامية محل الحكومة الحالية.
وأوضح الظواهري طريقة تفكيره الانقلابية في الصفحة 62 من التحقيقات، قال: إحنا كان لنا هدف مرحلي هو تجميع أكبر عدد ممكن من المدنيين وضمهم للتنظيم بالإضافة إلي التعاون مع العسكريين، وعملية قلب نظام الحكم تعتبر عملية فنية يجب أن يخطط لها شخص عسكري من الذين سينضمون إلي التنظيم .
هكذا كان يخطط أيمن الظواهري فقد كان دائماً ينظر نظرة طويلة وعميقة لعملية الانقلاب الذي يرتب له ويراه الوسيلة الوحيدة للتغيير وإقامة الحكومة الإسلامية لأنه أيضاً يعتقد اعتقاداً جازماً بعدم جدوي الخطاب الدعوي، فبدون حكومة إسلامية لا يمكن تغيير الشعب فالأمران مرتبطان في يقين الظواهري ارتباطاً لا يقبل الانفصام.
لذلك كان من الأهمية أن نقرأ اجاباته عن مجموعة أسئلة من المحقق علي النحو الآتي:
وما رأيك بنظام الحكم القائم؟
- لا ينطبق بصورة تامة مع أحكام الشريعة الإسلامية.
وما أوجه الخلاف بين هذا الحكم القائم وبين أحكام الشريعة الإسلامية؟
- توجد أوجه خلاف كثيرة منها علي سبيل المثال إباحة الخمور والملاهي وأندية القمار وعدم تطبيق الحدود الشرعية.
وكيف يمكن من وجهة نظرك تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية بواسطة الحكومة؟
- الحكومة تملك تطبيق أي شيء بمقتضي قوتها ولكن المهم هو نتيجة هذا التطبيق لأنه احتمال أن يفشل.
وكيف يمكن التطبيق السليم لأحكام الشريعة الإسلامية من دون الفشل؟
- عن طريق التزام الحكومة في قوانينها ومعاملاتها بالشريعة الإسلامية وعن طريق التزام الشعب في سلوكه بالشريعة الإسلامية.
و كيف يمكن من وجهة نظرك تغيير الحكومة إلي الناحية الإسلامية؟ وكيف يمكن تغيير الشعب؟
- عن طريق تفهيم الشعب أصول الإسلام.
كان الظواهري واضحاً منذ اليوم الأول لالتحاقه بأول خلية سرية في سعيه نحو الانقلابية بمعني قلب نظام الحكم من جذره وإقامة حكومة إسلامية بديلة، الأمر الذي دفعه إلي توثيق صلاتــــه بعناصــــر داخل القوات المسلحة، وهو ما سنعود إليه لاحقاً في علاقته بعصام القمري وزملائه داخل القوات المسلحة. وهو ظل يميل إلي اتباع سياسة النفس الطويل متفادياً الدخول في مصادمات قد تلحق أضراراً بتنظيمه لكنه غيّر نهجه في هذه الجزئية تحت وطأة ضغوط مارسها عليه بعض أفراد تنظيمه في التسعينات، وقد حاول الظواهري ان يثني عبود الزمر عن الاستمرار في المصادمات التي كان مخططاً لها أن تعقب عملية اغتيال السادات وبدا ذلك في حرصه علي زيارة عبود الزمر في مخبئه مساء يوم 6 تشرين الأول سنة 1981، اذ توجه لمقابلته بصحبة أمين الدميري وسيد إمام. يقول الظواهري: قمت بمناقشته ـ يقصد الزمر ـ في ضرورة عدم تطوير التصادم مع الحكومة والاكتفاء بما تم من واقعة اغتيال رئيس الجمهورية .
- وفي موضع آخر من التحقيق الذي أجراه معه محمود مسعود، وكيل نيابة أمن الدولة، نستخلص فكرته الانقلابية حينما سأله عن سبب تكوين تنظيم عصام القمري داخل القوات المسلحة، قال الظواهري بوضوح انه يقصد منه قلب نظام الحكم لإقامة الحكومة الإسلامية محل الحكومة الحالية .
ويوضح الظواهري في الصفحة 98 من التحقيقات الفروق بين تنظيمه والتنظيمات الأخري في ذلك الوقت فيقول: إحنا بنؤمن أساساً بأننا موافقون علي ما أجمع عليه المسلمون وأئمتهم الأربعة وأننا مستعدون للتخلي عن كل ما يخالف ذلك، فإحنا بنخالف التكفير والهجرة من حيث أنهم يكّفرون بالذنب، ونخالف الإخوان المسلمين لأن لهم بعض الأحيان مواقف مهادنة للحكومة إلا إذا تغير أسلوبها وحكمت بشرع الله .
هذه جذور الظواهري الفكرية تقطع بالانقلابية من دون سواها من الوسائل في التغيير، وهو اثبتها في التحقيقات عام 1981.
وقبل أن يسارع البعض إلي التشكيك في الاعتماد علي أقوال أبداها في ظروف غير طبيعية، أي الفترة التي كان فيها سجيناً فها هو بعد قرابة ستة عشر عاماً، وفي حديث مع وكالة الانباء الفرنسية في آب (اغسطس) 1997 يُسأل: هل انتم بالمطلق ضد أي مبادرة لوقف الصراع العسكري بينكم وبين الحكم في مصر، ويقول: سيتوقف الصراع العسكري وكافة أوجه المقاومة الأخري - الدنيوية والفكرية والإعلامية بين المجاهدين - كطليعة للصحوة الإسلامية - وبين النظام يوم يتخلي النظام للمسلمين عن الحكم .
نقلاً عن "الحياة" اللندنية ، و"القبس" الكويتية ، و"أخبار العرب" الإماراتية