حسن بن عثمان .......... تصوير صموئيل شمعون
ايلاف- اسماعيل حسن: يعتبر حسن بن عثمان من أهم الروائيين في تونس اليوم. وكل كتاب يصدر لحسن بن عثمان، يعتبر حدثا أدبيا بامتياز. وروايته الجديدة، الثالثة "شيخان" مثلها مثل "ليلة الليالي" وقبلها "بروموسبور"، رواية جريئة وآسرة، فهذا الكاتب التونسي يعرف جيدا لعبة الأدب، فمنذ السطور الاولى يدخلك في عالم "شيخان" المحيِّر والغريب. ويمكنك قراءة عنوان الرواية بطريقتين"شِيخان" أو "شَيخان" (بكسر الشين، أو فتحه).
ولا تقل عناوين فصول الرواية غرابة، فهي: أعوذ بالله، بسم الله، لا اله الا الله محمد رسول الله، الحمد لله، ان شاء الله، ما شاء الله، الله أكبر، حسبنا الله ونعم الوكيل، سبحان الله، لا حول ولا قوة الا بالله والفصل الاخير: أنا لله وانا اليه راجعون.
وحسن بن عثمان من مواليد الصقالبة في 12 شباط (فبراير) 1959. اصدر في العام 1986 مجموعة قصصية بعنوان "عباس يفقد الصواب" وبعد خمس سنوات نشر مجموعته الثانية "لا فوق الأرض ولا تحتها" ثم رواية "بروموسبور" 1998، ورواية "ليلة الليالي" 2000. وله اصدارات اخرى متنوعة، دراسات وحوارات.
ننشر هنا مقطعا من الفصل الاول "أعوذ بالله":
أعوذ بالله

أنا الزعيم!
يلقبني أهلي ومعارفي وكل الناس بالزعيم، لأنني لا أصلح لزعامة أي شيء. من الواضح أنهم يتلاعبون باللغة معي. شأنهم في تسمية الفحم بياضا، والذكي مزوراً، والرشوة هدية، والمصيبة رحمة، والمرض نعمة، والكفيف مبصرا.
أنا الزعيم!
ولكن عادة ما يكون الزعيم في المواقع الامامية يقود الناس، والحال أني دائما في المواقع الخلفية أنتظر من يقودني من يدي في أبسط الأمور، مثل اجتياز طريق أو ركوب حافلة أو حتى شربة ماء، وذلك لأني ببساطة أعمى لا أرى. ولأنني أعمى فالناس يسمونني الزعيم، ليس استهزاء بي، على ما اعتقد، بل لعله تمثيل باللغة وعبث بأسمائها وصفاتها. ان الناس عندنا يكرهون الزعماء والملوك والرؤساء والأمراء، وكل اصحاب الجلالات والمناصب والمواهب والامتيازات، فسمونني الزعيم تشفيا من كل الزعماء ومن لف لفهم، واحتقارا لهذا الرهط من كبار القوم. هذا لا يهمني! ما يهمني أنني سعيد بصفة الزعيم التي خلعها عليّ الناس، طوع ارادتهم وبمحض اختيارهم، ليستروا بها عماي.
أنا الزعيم، وذلك هو المايسترو عبد الملك النخاخ، المتوجه للغطس في مياه البحر مع جماعة من أعضاء فرقته الغنائية. انه شريف من أشراف قريتنا. وللتوضيح فان جميع أهل قريتنا من الأشراف، وذلك باعتراف بايات تونس في الزمن القديم ثم باعتراف سلطة الاستعمار الفرنسي من بعدهم. نحن نعتبر أنفسنا من سلالة النبي العربي محمد عليه الصلاة والسلام، ولنا في ذلك شجرة أنساب تعود بنا الى جدنا الأول علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وزوجته فاطمة الزهراء بنت الرسول العربي. لكن ثمة من المناوئين لنا، من غير الاشراف، من يقول ان شجرة نسبنا فيها بعض الثغرات وانها منتحلة، لكن لا أحد من المناوئين بامكانه ان يطعن في ان عنوان شرفنا، المتفق عليه، اننا كنا معفين من الجيش التركي ومن بعده من الجيش الفرنسي، وكان لنا امتياز عدم تأدية الخدمة العسكرية. الا ان هذا الشرف العريق المتةارث انتزعته منا دولة الاستقلال، وساوت بيننا وبين كل الناس، الذين صاروا مواطنين، في خدمة علم البلاد. مع ذلك فأنا فخور لانني حافظت على شرفي الموروث ولم أؤد الخدمة العسكرية، رغم أنف قوانين دولة الاستقلال. فنحن قوم لا تناسبنا الجندية الالزامية وانما يليق بنا التطوع للجهاد في سبيل الله والدفاع عن ديار الاسلام.
بسبب عماي أعفيت من الجيش وحافظت على شرفي. عبد الملك، هو أيضا، حافظ على شرفه ولم يجند، لا هو ولا أي واحد من اخوته او أبلناء عمومته. كان أبوه شيخ قريتنا وعمدتها، فمنصبه الكبير يتيح له ان يتصرف وفق اهوائه ورغباته. كان الشيخ هو القانون، ومن الطبيعي ان لا يلقي بأبنائه وأقربائه للجيش، فيحرمهم من شرف متوارث.
عبد الملك النخاخ ابن شيخ القرية، مشهور عنه انه طويل عريض ضخم الجثة، يحترف الغناء الشعبي والرقص البدوي، ويتدبر أمور حياته على افضل وجه، وفق فصائل هذه الايام. لكن مأساته ان والده الشيخ مات غير راض عنه، بل وهو نادم على انجابه، لأنه تيقن، في أيامه الاخيرة، أنه أنجب نذلا. الثابت عندي ان والد عبد الملك مات وهو يردد على فراش موته: "قتلني سلوك ابني. وحده عبد الملك مسؤول عن موتي. لن أغفر له ذلك دنيا وآخرة!".
كان والده يعتبر ابنه قد لوّث شرف القرية باحترافه الغناء الشعبي في الاعراس، وبادمانه شرب الخمر وتدخين التكروري، ومخالطة الأوباش والمنحرفين، والاقامة في السجون، مرات عديدة، لاقترافه الجرائم وتعاطيه الموبقات. لكن عبد الملك كان يعتبر انحرافه هو صلاحه ودليل شرف سلالته، بل ان انحرافه واحترافه الغناء الشعبي سيوصلانه حتما الى الشهرة، والشهرة تؤدي الى المجد، والمجد سيمكنه، طال الزمان أو قصر، من ان يكون شيخا للقرية ليخلف والده في المنصب الذي ألغته دولة الاستقلال، وما زال عبدالملك يحلم به، ويسعى الى استعادته، بعزيمة مشعوذ خرّبت ذهنه ثقافة الغرب وضلالات الخمر وهلوسات الحشيش. والأدهى من كل ذلك ان عبد الملك لم يروّعه اتهام والده بانه المتسبب في موته. لم يكن له أي احساس بالذنب جراء ذلك، بل اني سمعته بنفسي يفتخر بأنه قاتل أبيه، وكان يقول باعتداد: "لا بد من قتل الأب حتى يحيا الابن!".
من هنا، على وجه التقريب، نشأ خلافي الكبير معه. مع ان لي اسبابا اخرى عديدة للخلاف، لن اذكرها الآن، لأنني أفترض ان عبد الملك في سبيله اليّ ليقودني الى البحر ويشرف على استحمامي، وفي انتظار وصوله لا بأس انه من أن أشير الى مسألة خطيرة جدا بيني وبينه. لا، ليس مسألة انه مطرب أعراس وأنا منشد ديني وجنائزي. وليس مسألة انني متزوج من طليقته، حبيبتي أزهار، بل أخطر من ذلك بكثير. المسألة التي أقصدها مسألة حياة أو موت بالنسبة إليّ، وقد تكون كذلك بالنسبة له!.
بعد ان تزوجت امرأته عزمت على ان اتزوج حكايته ايضا. لذلك ما فتئت أسعى، منذ زمن بعيد، الى امتلاك الحكاية التي يعتنقها لأقوم فيما بعد بتقويضها وردمه تحت أنقاضها، هو ومعه الكثير من الناس الذين على شاكلته وقناعاته. كنت أشعر دوما بأنني مهدد بتلك الحكاية التي يفخر عبد الملك بحفظها والعمل على& هديها، وتطبيق مبادئها، في كل شأن من شؤون الحياة، باعتبار انها حسب تصريحاته المتعجرفة، ستقوده الى المشيخة في الدنيا والاخرة! تلك الحكاية التي اعتبرها أنا سبب كل البلاء والعذاب الذي يحيق بنا، بل وبجميع الناس فوق هذه البسيطة، ولن يستقيم لنا حال، ولن يهدأ لنا بال، ما لم نخرج من تلك الحكاية، الى ما هو أرحب منها. تطلب مني ذلك تفكيرا مرهقا ومكابدات مريرة لمدة طويلة، ولكنني لم أتوصل الى حل. الا اني لم استسلم ولم ألق السلاح. في كل مرة كنت اسمع فيها حكاية "علم اليَدَبْ"، كما يسميها عبد الملك، كانت تنتابني الحمى وامرض، حتى ان زوجتي أزهار، طليقة عبد الملك، حذرتني من مغبة التمادي في البحث عن سبل لتقويض حكاية عبد الملك الأثيرة لديه ولدى عامة الناس. لأن ذلك قد يكلفني خسارة عظمى. بل قد يكلفني خسارة حياتي ذاتها، حسب زعيمنا!..
هتف عبد الملك قبل أن يصل الى مكاني على رمال الشاطئ تحت المظلة وارفة الظلال:
- يا زعيم، يا زعيم... هل شوتك الشمس؟ ألم تحترق بعدُ يا زعيم؟! كنت أرغب أن ألقاك متفحما يا زعيم!
- وصلت يا مايسترو! أنا في انتظارك. فعلا كدت أحترق! هيا خذ بيدي لأغطس. هذا نهار من جهنم والعياذ بالله...
خرجتُ منتعشاً من البحر. كان عبد الملك يقودني وهو منصرف بالحديث الى جماعته. قلت في نفسي وقدماي تلامسان الرمال الساخنة: "صدق رب العزة الذي قال: _ وجعلنا من الماء كل شيء حي)!". التفتُ فجأة الى عبد الملك، ناديته، باسمه، لا بصفته العزيزة عليه، وهو بين الجماعة. قلت له بوجد وكأنني في لحظزة الهام:"اسمع يا عبد الملك. لا مناص من تخيل& آفاق أخرى لحكاية علم اليدب!. لا يعقل ان تتجمد الحكاية في نمط واحد، جاف ومتحجر. صارت حكايتك، للأسف، مهلهلة جدا وبالية بصورة محزنة، وهي لا تنتج سوى معان رثة على شاكلتها، سخيفة ومؤذية، تناسب الخراب الذي اصابنا، ولا يمكن، بأي حال من الاحوال، ان تليق بكرامة الانسان، مهما نأى به الزمان والمكان...".
أنهيت تصريحي الخطير أمام الجماعة وأنا أفترض انني سأتلقلا ردا عنيفا، أن أصفع أو أضرب. مرت لحظات من الصمت الرهيب، انقطعت فيها الانفاس، وتجمدت أمواج البحر، وتلاشت ضجة المصطافين المحتشدين على الشاطئ، افترضت ان الاجساد كانت عارية الا من المايوهات. أعرف ان عرى الاجساد يثير الشهوات البدائية، ويبعث رغبة عارمة للالتحام او للعراك والاقتتال. اعتبرت ان الثياب لم تخترع فقط لتستر العورة بل خصوصا لتحفظ الاجساد من نزوعها الفطري المتوحش للعنف الأصم. كنت أخشى أن أتلقى رد فعل من قبل عبد الملك اومن واحد من اعضاء فرقته. انهم جماعة من المتهورين الاوغاد ولم يصدهم حتى عماي عن إلحاق الأذى بي.
من فضل الله ان لحظات الصمت القاسية، المشحونة بالتوقعات، مرت بسلام، حين نطق عبد الملك بصوت حاقد كله تهديد: "تكذب!! أنت كذاب ومعقد...".

صدرت "شيخان" في اوائل الشهر الجاري عن "الشركة التونسية للنشر وتنمية فنون الرسم"& تونس 2002.
&
ثقافة ايلاف [email protected]
&