نبيل شرف الدين: حين طالعت نبأ إلقاء القبض على محمد الوكيل، رئيس قطاع الأخبار في اتحاد الإذاعة والتلفزيون المصري، عادت بي الذاكرة إلى سنوات "صوت العرب"، وبصرف النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع توجهات تلك الإذاعة، وسياقها التاريخي، لكن أحداً لا يجادل بأن ميكروفون "صوت العرب" زلزل أنظمة فاسدة وأخرى فاشلة، وقض مضاجع مستعمرين، وغير خرائط في المشرق والمغرب، كل ذلك لأن القائمين على تلك الإذاعة كانوا باختصار أصحاب رسالة حقيقيين، وافقنا على تلك الرسالة أو تحفظنا عليها، ليس هذا هو المهم، فالأهم أنهم أخلصوا لتوصيلها، وآمنوا بها إيماناً راسخاً وجد طريقه نحو قلوب المستمعين قبل آذانهم، فللصدق رائحته وسحره وصدقيته، ولم يكن أي منهم يتقاضى سوى ما يسد به رمقه، فلم يمتلك أحدهم الفيللات الفاخرة، ولا السيارات الفارهة، بل كان أجر كبير المذيعين لا يتجاوز وقتئذ خمسين جنيها مصرياً...
الآن يأتي الوكيل ليبيع نجاحات صنعها غيره، لا تنحصر فقط في برنامج "صباح الخير يا مصر" الذي عبر الرئيس مبارك شخصياً عن إعجابه به عند بداية انطلاقته الأولى، وصار خلال فترة وجيزة من أكثر البرامج شعبية في مصر، قبل أن يؤجر الوكيل فقراته ودقائقه وثوانيه لرجال الأعمال المدينين للبنوك، والأطباء التجار الباحثين عن شهرة فشلوا في تحقيقها من خلال جهد فعلي في مهنتهم، فضلاً عن فنانين أو بالأحرى أشباه فنانين انحسرت عنهم الأضواء، أو انفض عنهم المعجبون بعد إفلاسهم، ولم يتوقف الأمر عند أصحاب المهن الجديرة بالاحترام فحسب، بل وصل إلى حد استضافة الدجالين وقراء الكف والمنجمين ومفسري الأحلام، وممهدي الطرقات أمام تكريس التطرف والإرهاب.
باختصار قام الوكيل وصبيته بواحدة من أكبر عمليات "غسيل السمعة" على رؤوس الأشهاد، وبأموال المشاهدين والمستمعين، وإن كان ذلك لا يبرئ ساحة غيره، خاصة وزير "المنظومة" الذي لا أفهم لماذا لا يحاسب ـ سياسياً ـ على هذا "الخراب"، كما حدث لغيره من الوزراء وكبار المسؤولين بالأمس القريب ؟
&نتواءت
ولأن الوكيل كان يجلس على ناصية كل برامج ونشرات الأخبار في اتحاد الإذاعة والتلفزيون المصري، وليس فقط محطة إذاعية أو متلفزة واحدة كما قد يتصور البعض، لهذا لم تكن فضيحة "صباح الخير يا مصر" سوى الجزء الظاهر من جبل الجليد، وصرنا نستمع من شباب العاملين في القطاع حكايات ووقائع من فرط بشاعتها، لا يمكن وصفها بالفساد فقط، بل هي الخراب بعينه.
فلم يكتف المسؤولون في القطاع بإسناد البرامج والنشرات لأبناء وبنات العاملين بالإذاعة والتلفزيون ـ وما أكثرهم، ولنا معهم وقفة أخرى ـ بل ظل هناك فائض جرى توزيعه على بعض النكرات والمحظيات، والمغامرين القادمين من المجهول، وأنصاف الموهوبين والباهتين والباحثين عن النجومية، مقابل خدمات وأموال، وهذا ملف لا ينبغي أن يظل قيد التجاهل والكتمان، وإلا فعلينا ألا نتوقع تميزاً، ولا نتحدث عن منافسة فضائيات تطلقها نتوءات حضارية وجغرافية.
فحين تفرض على كافة نشرات وبرامج الأخبار قوائم محددة بأسماء الضيوف "المعتمدين" للمشاركات والمداخلات والمقابلات، وهي قوائم لا يملك الإضافة أو الحذف أو التعديل فيها سوى الوكيل نفسه (أو من يفوضه في الأمر)، لا يمكن أن نتوقع سوى الفشل الذي يدعو للشفقة أكثر مما يثير الغضب.
وحين يتحول معدو البرامج والنشرات إلى موظفي علاقات عامة لدى رجال الأعمال والسماسرة، لا يمكننا أن نتبجح بالقدرة على المنافسة الفضائية أو الأرضية، أو حتى تحت الأرض، ويصبح دفاعنا عن "المنظومة الإعلامية" مجرد ألفاظ فارغة من أي مضمون، وخطاباً "بلشفياً" فجاً لا يتجاوز تراقينا.وحين يهبط على شاشات وميكروفونات بلادنا مرتزقة من الشرق والغرب ندفع لهم من جيوب دافعي الضرائب البسطاء، ثمن إفساد ذوقنا، وتشويه وعينا فلا يمكن التذرع بالصمت، ولا ينبغي أن نتوقع سوى طوفان لا يبقي ولا يذر.
تغطيات

كنت حريصاً بعد الفضيحة على متابعة تغطيات الصحف المصرية والعربية لها، ليس فقط للوقوف على مزيد من التفصيلات، بل لاكتشاف مدى توغل الوكيل، وحجم نفوذه في هذه الصحيفة أو تلك، ومن سيقيم لهذا الفاسد "خاطر" هنا أو هناك، والمثير أن صحف الحكومة والمعارضة في مصر اتفقت على أن يكون النشر "تقريرياً"، مجرد خبر منقول من الوكالات، جرى تهذيبه، وتشذيبه وحذف بعض العبارات منه، أما الأكثر إثارة فقد تمثلت في أن تغطية الصحيفة "المستقلة" المحسوبة على وزير الإعلام كانت هي الأوسع، وتضمنت معلومات تفصيلية، رغم السياق التبريري في تقريرها، وهو أمر يمكن تفهم دوافعه.
وعربياً فقد أوردت صحف الإمارات تقارير موسعة ومحايدة من خلال مراسليها في القاهرة، وكذا فعلت بعض صحف الكويت، بينما اكتفت الصحف السعودية المحلية بالخبر المنقول من الوكالات، كما فعلت الصحف اللبنانية، لكنني لا زلت أتوقع من الأخيرة قريباً مقالات رأي تعوض نقص معلومات مراسليها في القاهرة، الذين تستعيض بالوكالات عن كلفتهم.
أما صحيفة "الحياة" اللندنية فقد نشرت في اليوم التالي على صدر صفحتها الأولى تقريراً متميزاً، تناول بالشرح مفهوم "الزيس"، وهو مصطلح تم نحته وتدشينه في أروقة "ماسبيرو"، حيث يقع مبنى الإذاعة والتلفزيون المصري، حين اتهم قبل سنوات مذيع النشرة الاقتصادية بأنه يتقاضى رواتب شهرية ومكافآت ضخمة من رجال الأعمال والشركات، فضلاً عن الرحلات والسفريات وعطلات نهاية الأسبوع، ورأس السنة، إلى الحد الذي كان يوضع اسمه في لوائح الوزارات والشركات حين توزع أرباح ومكافآت نهاية العام على العاملين المتميزين فيها، ورغم الضجة التي أثيرت حينئذ حوله، مازال يقدم النشرة الاقتصادية حتى اليوم، وإن تغيرت أساليب "الزيس"، وصارت أكثر احترافاً والتزم قدراً أكبر من الحذر والحيطة، وكلما طالعت وجه هذا المذيع حتى يومنا لا أدري لماذا أتصوره يخرج لسانه لي ولملايين المصريين ساخراً!
تبقى صحيفة العرب الأولى "الشرق الأوسط"، وقد انفردت بتجاهل القضية برمتها، وظللت أفتش طيلة الأيام الثلاثة الفائتة عن أي خبر منشور، ولو ذراً للرماد في العيون، فلم أعثر على سطر واحد، سواء كان مصدره الوكالات أو المراسلين، كما لم أجد تفسيراً لهذا التجاهل الغريب، رغم أن منافسيها المهنيين، وحتى من هم دون منافستها، أفردوا صدر صفحاتهم الأولى للنبأ.
متحفيات
في كل مرة كنت أتحدث فيها مع زملاء إعلاميين وصحافيين عرب عن أحوال المهنة في مصر، كنت أجدني ـ ومعي آلاف من المصريين العاملين في الحقل ـ مضطراً للدفاع عن الفشل الإعلامي المصري المتنامي، متذرعاً بنجاحات أيام خلت كان الساسة والمثقفون وحتى العوام من المحيط إلى الخليج ينتظرون وصول "الأهرام" بعد يومين من صدورها، و"روز اليوسف" و"صباح الخير" و"الهلال" و"المصور" و"آخر ساعة" وغيرها، ويضبطون دقات قلوبهم مع دقات ساعة جامعة القاهرة، ويعرفون أسماء المدن والقرى المصرية، ويطلقون على أبنائهم وبناتهم أسماء مصريين ومصريات، ناهيك عن حفلات "ثومه" و"العندليب" وفريد وفايزة ونجاة وأفلام صلاح أبو سيف ويوسف شاهين و.. و..
غير أنني بعد طول مناقشات وتأملات ذاتية اكتشفت أنني كنت أدافع عن "حالة متحفية"، فقد دخلت هذه الحقبة التي استندت إليها متحف الثقافة والفكر والإعلام، وفي عصر الفضائيات والإنترنت والصحف الإليكترونية نسند للوكيل وقبله من هو أبشع، وبعده من لا نتعشم ألا يكون أسوأ، نسند إليهم مهمة منافسة "الجزيرة" و"أبو ظبي" و"MBC" و"أوربيت"، بل يصل التبجح بالبعض إلى حد التجرؤ على القول بمنافسة "CNN" و"NBC" و"فوكس"، و"BBC"، في الوقت الذي تمارس فيه محطاتنا المصرية إعلام من طراز "استقبل بمكتبه اليوم السيد الأستاذ الدكتور .."، و"غادر بمثل ما استقبل به من حفاوة وتكريم"، وهو أمر ليس مستغرباً على الإطلاق في ظل مناخ إعلامي يصنعه الوكيل ومن سبقوه ومن سيحلون محله، و"في ضوء توجيهات السيد الوزير" القابع على "منظومته"، والقابض على عيوننا وآذاننا منذ عشرين عاماً.
تساؤلات
حين يتعلق الأمر بواحدة من ثلاثية "عصب الدولة"، أي دولة، وهي الجيش والأمن والإعلام، ونحن في قضية الوكيل نتحدث عن شأن من شؤوننا المهنية والوطنية، وعن قطاع هو بدوره عصب الإعلام "أي إعلام"، وهو الأخبار، فليس مقبولاً أن نتعامل معها بمنطق الاستخفاف أو الذرائعية ولا التبرير، ولا مفر من نكأ الجراح، وحشوها بأكبر قدر من ملح الحقيقة والموضوعية والمكاشفة، لأن أحداً غيرنا لن يدفع ثمن الخراب الحاصل والمرشح للتصاعد.
يا سادة : لقد احتملنا- رغماً عن أنوفنا - فشلكم الذريع، وإصراركم على إحالة منارة العرب إلى "حالة متحفية"، لكن هل ينبغي علينا أيضاً أن نتحمل فسادكم؟وندفع ثمنه من جيوبنا في صورة ضرائب ورسوم وأحلام مجهضة؟
وهل يعقل ألا نسمع عن فضائح من هذا النوع والوزن في أي من تلفزيونات أو إذاعات تمتلكها وتديرها مؤسسات خاصة، أو دول لم يكن لبعضها أي وجود على خارطة الإعلام قبل سنوات قليلة مضت، بينما يحدث ذلك في مصر، وإعلام مصر؟
وهل سيكون الوكيل "آخر عنقود" الفاسدين، بعد سلسلة فضائح سابقة في قطاع الإنتاج والمنوعات وحتى قناة "الأسرة والطفل"، وهل القضية يمكن حصرها في شخص أو عدد محدود من الأشخاص، أم الأمر طال "عصب الإدارة" برمته ؟والحاصل أن مبنى "ماسبيرو" سيظل قادراً على إنتاج المزيد من الفضائح والروائح، طالما "الزيس" هو اللغة المعتمدة في مكان "تمأسس" فيه الفساد حتى تحول إلى "خراب" يذكر بأحوال المؤسسات السوفيتية قبل الانهيار الكبير.
لكن رغم كل هذه العتمة، يبقى رهاننا الأخير على أن "مصر ولاّدة"، وكانت عبر تاريخها دائماً قادرة على أن تصحح مساراتها، وتعيد ترتيب أوراقها، وتدرك ـ ولو بعد حين ـ حقيقة محبيها من المتاجرين بها في أسواق النخاسة.ويومها سننشد مع أحد عشاقها الحاضرين بشدة رغم غيابهم، "الشيخ إمام"، الممنوع حتى يومنا من تلفزيون معشوقته :
صباح الخير على الورد اللي فتح في جناين مصر
صباح العندليب يشدي بألحان السبوع يا مصر
صباح الدايه واللفه
ورش الملح في الزفه
صباح يطلع بأعيادنا من القلعة لباب النصر.