مصطفى علي نعمان
&
في سنة 1258م أثمرت خيانة رجل السلطة القوي في بغداد، الوزير ابن العلقمي، في إسقاط الإمبراطورية العراقية العريقة، التي كانت بغداد عاصمة لها، فاندفعت جحافل المغول المتحالفة مع الطابور الخامس بقيادة الخائن ابن العلقمي، لتقضي على أكثر الحضارات الإنسانية تطوراً آنئذ، فانتُهكت أعظم عاصمة في العالم، وأُذلت، واستُبيحت، ودُمرت كل المدن المأهولة، وسحقت مظاهر التمدن فيها، وعاد مهد الحضارات التي استمرت مزدهرة أكثر من أربعة آلاف عام قاعاً يباباً، وفي سنة 1958 ثارت بغداد، وانتقمت لنفسها، ونفضت عنها ثوب الذل، وأنهت قروناً سبعة من التبعية والاستعباد، صادفت سنة الثأر والثورة والكرامة والعزة بعد 700 سنة بالتمام والكمال، فتجددت أمال الأمة بالنهوض، والسير في طريق التقدم، لكن أباليس الظلام، في الداخل والخارج، قرروا وأد الثورة، في شهرها الأول، فاتفق عبد السلام وعبد الناصر على قتل عبد الكريم قاسم، بعد بضعة أيام من قيام الثورة، لم يردع الأول رفقته لعبد الكريم، وأخوته له، وعشرته الطويلة، ولم يمنع الثاني ما يدعيه من مبادئ عروبية، اتخذها ذريعة كاذبة، للتربع على السلطة في مصر، وعندما لم يستطع عبد السلام تنفيذ المؤامرة، حاولوا في الشهر الثاني، والثالث، حتى استطاعوا قتلها، قتل روحها، بطلها الزعيم الأمين عبد الكريم قاسم، قتلوها وعمرها أربع سنين ونصف فقط.
فماذا أنجز عبد الكريم للثورة، للشعب في هذا الوقت القصير؟
على يد الزعيم تخلص العراق من الاستعمار، وقطع علاقاته بالنقطة الرابعة، وانسحب من حلف بغداد، وفك ارتباط العملة العراقية بالإسترليني، وشرع لأول مرة في العراق قانون الأحزاب، وأجاز كل الأحزاب التي استوفت الشروط، وأصدر قانون الجمعيات، ووزع الأراضي على الفقراء، وبنى أكثر من خمسة وثلاثين ألف دار منحت إلى الفقراء من دون مقابل، وقضى على الصرائف التي كانت تسور بغداد من جميع الجهات، ووسع العاصمة بافتتاح قناة الجيش، وجملها بسور من الأشجار، وأصدر أفضل قانون للأحوال للشخصية في كل الدول الإسلامية والعربية، إذ توجب أخذ موافقة الزوجة الأولى لوجود شريكة لها في الزواج، وكان ذلك يحدث للمرأة لأول مرة في تاريخ العرب والمسلمين، وقضى على التمييز الشائن بينها وبين الرجل في الإرث، واستوزر أول امرأة في تاريخ العالم الثالث الحديث، وأنجز أوسع ثورة علمية في العراق والدول المجاورة في فترة قياسية: افتتح جامعة بغداد، وجامعة المستنصرية، وأرسى حجر الأساس لجامعات الموصل، السليمانية، البصرة، الكوفة..الخ، وفتح أبواب جامعات المعسكر الاشتراكي للطلبة غير الحاصلين على الشهادة الثانوية، فتدفق عشرات آلاف اليائسين من مواصلة التعليم، إلى هذه الدول، وتخرجوا فيها، وأصبحوا كادراً مهماً أولياً، وثانوياً، مثمراً في الحياة، وأرسى مبادئ التعليم المجاني في العراق، وكان الفقراء يعانون من شراء الكتب المدرسية، فأصبحت مجانية، وأدخل نظام التغذية المدرسية، ووقع اتفاقية صناعية مع الاتحاد السوفيتي، أقامت عشرات المصانع في العراق، حتى وصلت المصانع التي أقيمت في عهد الزعيم إلى خمسة وستين معملاً، ضخماً، بينما لم يُنشئ الحكام الآخرون، قبله، وبعده، وطيلة سبعين سنة من حكمهم المشؤوم سوى بضعة مصانع، وكان للزعيم خطة كبرى تعتمد على إقامة سكك حديد، في مختلف أنحاء العراق، انتهت بموته، لكنها أنجزت سكة حديد بغداد بصرة، وكانت لديه خطة تقضي بإنشاء شبكة كهرباء تعم العراق كله، أنجز الكثير منها، فلقد وصلت إلى قرية "بنكرد" وهي على حدود إيران، فرأيت العمال يقيمون شبكة كهربية فيها سنة:1961، وسمح بإنشاء صحف ومجلات أدبية وثقافية، بينما كان العهد الملكي يمنع المجلة الثقافية والأدبية بعد عدد واحد أو عددين يصدران فقط، واهتم بتنظيم المدن العراقية كلها، وأخذ بإصلاح ما أفسده الدهر، فقد كانت السدود التي أنشئت قبل مجيئه من دون توربينات لتوليد الكهرباء، فطفق بإقامة التوربينات، وحدّث تجهيز الجيش العراقي بأسلحة روسية، وأصدر قانون الإصلاح الزراعي، ورعى دراسة للتخلص العراق من البلهارسيا، وكان هذا المرض يفتك بالفلاحين من أبناء الشعب بشكل خاص، فاستورد أنواعاً من الأسماك تعيش على بويضات البلهارزيا، مما أدى إلى القضاء على هذا المرض الوبيل، وحاول تأميم النفط العراقي، لكن السوفيت أقنعوه بأن الوقت ليس بملائم، فأصدر قانون رقم 80 استرجع فيه كل الأراضي التي استحوذت عليها شركات النفط بالباطل، وأسس شركة النفط العراقية، وبنى مدينة الطب وجهزها بالمعدات اللازمة.
أما أهم إنجاز حققته الزعيم عبد الكريم قاسم فكان خلقه للطبقة الوسطى، وهذه نقطة أغفلها الكثير ممن كتبوا عن الثورة، عن جهل أو تجاهل، أما كيف حدث ذلك فقد تم عن طريق توزيع قطع الأراضي في جميع المدن والأقضية والقرى في العراق، بأسعار رمزية، ومنح المواطنين قروضاً للبناء، بفائدة رمزية، فعلى سبيل المثال وزعت أراضي المنصور والمأمون بسعر 100فلس للمتر المربع، وأراضي بغداد الجديدة، والمشتل ب 50 فلساً، وعلى ذلك يستطيع المدرس المتخرج للتو "وكان راتبه آنذاك 41 ديناراً، أن يشتري 400 متراً مربعاً في المنصور، أو 800متراً مربعاً في المشتل، أو بغداد الجديدة، أو في أي مدينة عراقية أخرى، وفي نفس الشهر يستطيع أن يحصل على قرض من المصرف العراقي، وفي خلال بضعة أشهر يتمكن من السكن في دار حديثة، تشتمل على حديقة، ويتخلص من دفع الإيجار، مرة وإلى الأبد، وبذلك في خلال مدة قصيرة خلق عبد الكريم قاسم طبقة جديدة، مرفهة، بعدما كان إيجار الدار يلتهم معظم دخل أفراد تلك الطبقة، وأعرف معلماً، امتلك داراً وسيارة في السنة الثانية من الثورة، بينما كان في العهد البائد لا يحلم بالسكن في كوخ يخصه، ولا يحلم بدراجة هوائية يتنقل فيها، وبهذا تحقق المبدأ الذي كان يردده الزعيم، والذي سخر منه المؤدلجون الجامدون، والقوميون المزيفون على حد سواء، مبدأ عبد الكريم كان: لا نريد أن نفقر الأغنياء، بل نريد رفع الفقراء إلى مستوى الأغنياء، فهذا المواطن الفقير الذي سكن في خلال السنة الأولى من الثورة في "فللا" وامتلك سيارة، لا يمكن أن لا تعتبره غنياً، في المواصفات البرجوازية السائدة في أمريكا وأوربا بالذات، وعلى ذلك نستطيع أن نقول إن عبد الكريم هو خالق المدينة العراقية الحديثة، فقبل عبد الكريم لم يكن في الموصل على سبيل المثال، إلا المدينة القديمة المحصورة بين بقايا الأسوار التاريخية، وفي زمنه زحف العمران إلى الضواحي، ليتضاعف حجمه إلى بضع مرات، وهذا ما حدث في كل مدينة عراقية.
إن هذه الطبقة الوسطى مدينة إلى ما وصلت إليه، لإخلاص، وتضحية، وحكمة، وتخطيط عبد الكريم قاسم، وكان أي موظف في العراق يستطيع الحصول على قطعة أرض، بدقائق، ومن دون أن يرهق نفسه، لكن الأمر اختلف بعد مقتله مباشرة، فقد قفزت الأسعار قفزة فلكية، تجاوز السعر عشرة أضعافه في زمن عبد الكريم، ولم يعد يستطيع المواطن العادي أن يحصل على الأرض إلا بشق الأنفس، ووفق إجراءات روتينية معقدة، تدخل فيها أشياء أخرى غريبة عنها، كالانتماء الحزبي، والولاء، وو
كان الزعيم يردد باستمرار: "لنا في كل شهر ثورة"، وكان ذلك حقاً، فقد كان هناك إنجاز في كل شهر، وكانت البطالة تعم العراق قبل تسلمه الحكم، فاختفت بعد الثورة بسنتين، وأعرف عائلة من الجيران كان كل شبابها من العاطلين، لكنهم جميعاً وجدوا عملاً دائماً بعد الثورة ثم عادت العطالة لتسود بعد وفاته.
يتفق الجميع على أن الزعيم الأمين كان أميناً على مصالح الشعب، لم يعرف الأنانية، كريماً، يوزع راتبه على الفقراء، لم يستغل منصبه قط، لم يستأثر أي قريب من أقربائه بأي مكسب، عطوفاً، رحيماً حتى مع أعدائه، اشتهر بالتسامح، والتواضع، والأدب، والحياء، مؤمناً بالمثل العليا، إيماناً كاملاً، ينظر إلى أبناء الشعب العراقي كلهم نظرة متساوية، يحترم المخلص، ويعطف على المذنب رجاء أن يصلح نفسه بنفسه.
ولا أستطيع في مقالة واحدة إحصاء فضائل عبد الكريم قاسم، ولا أعتقد أن بإمكان أي كان ذلك، لكن أعداء الزعيم كانوا أكثر من الكثير، عاداه كل من الولايات المتحدة، إنكلترا، الأردن، تركيا، إيران، السعودية، الكويت، العربية المتحدة، هذا في الخارج، أما في الداخل فعاداه كل العملاء، أيتام العهد البائد، الثوريون الكذبة، القوميون المزيفون، رجال الدين من سنة وشيعة، الدجالون، النفعيون، اللصوص، انتصروا عليه، كما انتصروا على مصدق، وقتلوه في مؤامرة قذرة، فلم يرَ العراق منذ مقتله وحتى هذا اللحظة أي خير.
والآن وقد بدأت عصف التغير تهب، أنجز بعضهم مسلسلاً ظاهره تسليط الضوء على عبد الكريم قاسم، وباطنه إدانته، وتزييف وقائع عهده، والافتئات عليه، مسلسلاً تدفقت فيه أقوال غير مسؤولة مليئة بادعاءات كاذبة لا يمكن إثباتها، تتالت جملة وتفصيلاً، وبشكل مقزز.
مع الأسف لم تتح لي المصادفات أن أرى المسلسل ذا الوجهين هذا، وقت صدوره من قناة "أبو ظبي"، أخبرني أحد أصدقائي، وعندما حاولت أن أتابعها على الكومبيوتر، أخفق حاسوبي، وكان علي أن أعتمد على وعود بعض الأصدقاء لأراها في فلم فديو، فلم يتم ذلك إلا قبل بضعة أيام، فجزا الله الصديق الذي أتاح لي رؤية الفلم خير جزاء.
عنوان الحلقات: عبد الكريم قاسم، بين زمنين .
هذا يعني أنها ستحاول إنصاف الزعيم الأمين، وهذا لم يحدث، كما أسلفنا، حدث العكس تماماً، أنصفت النظام الذي أطاح به الأمين، وبرأت المجرمين اللذين قتلوا الأمين، وأساءت إلى عبد الكريم بطريقة تغليف السم بالدسم، وتبطين السب، والذم، بما يشبه المدح، وتشويه التاريخ، ولو سمي البرنامج "بين غدرين" لكان ذلك أقرب إلى طبيعة الحال.
فماذا أنجز عبد الكريم للثورة، للشعب في هذا الوقت القصير؟
على يد الزعيم تخلص العراق من الاستعمار، وقطع علاقاته بالنقطة الرابعة، وانسحب من حلف بغداد، وفك ارتباط العملة العراقية بالإسترليني، وشرع لأول مرة في العراق قانون الأحزاب، وأجاز كل الأحزاب التي استوفت الشروط، وأصدر قانون الجمعيات، ووزع الأراضي على الفقراء، وبنى أكثر من خمسة وثلاثين ألف دار منحت إلى الفقراء من دون مقابل، وقضى على الصرائف التي كانت تسور بغداد من جميع الجهات، ووسع العاصمة بافتتاح قناة الجيش، وجملها بسور من الأشجار، وأصدر أفضل قانون للأحوال للشخصية في كل الدول الإسلامية والعربية، إذ توجب أخذ موافقة الزوجة الأولى لوجود شريكة لها في الزواج، وكان ذلك يحدث للمرأة لأول مرة في تاريخ العرب والمسلمين، وقضى على التمييز الشائن بينها وبين الرجل في الإرث، واستوزر أول امرأة في تاريخ العالم الثالث الحديث، وأنجز أوسع ثورة علمية في العراق والدول المجاورة في فترة قياسية: افتتح جامعة بغداد، وجامعة المستنصرية، وأرسى حجر الأساس لجامعات الموصل، السليمانية، البصرة، الكوفة..الخ، وفتح أبواب جامعات المعسكر الاشتراكي للطلبة غير الحاصلين على الشهادة الثانوية، فتدفق عشرات آلاف اليائسين من مواصلة التعليم، إلى هذه الدول، وتخرجوا فيها، وأصبحوا كادراً مهماً أولياً، وثانوياً، مثمراً في الحياة، وأرسى مبادئ التعليم المجاني في العراق، وكان الفقراء يعانون من شراء الكتب المدرسية، فأصبحت مجانية، وأدخل نظام التغذية المدرسية، ووقع اتفاقية صناعية مع الاتحاد السوفيتي، أقامت عشرات المصانع في العراق، حتى وصلت المصانع التي أقيمت في عهد الزعيم إلى خمسة وستين معملاً، ضخماً، بينما لم يُنشئ الحكام الآخرون، قبله، وبعده، وطيلة سبعين سنة من حكمهم المشؤوم سوى بضعة مصانع، وكان للزعيم خطة كبرى تعتمد على إقامة سكك حديد، في مختلف أنحاء العراق، انتهت بموته، لكنها أنجزت سكة حديد بغداد بصرة، وكانت لديه خطة تقضي بإنشاء شبكة كهرباء تعم العراق كله، أنجز الكثير منها، فلقد وصلت إلى قرية "بنكرد" وهي على حدود إيران، فرأيت العمال يقيمون شبكة كهربية فيها سنة:1961، وسمح بإنشاء صحف ومجلات أدبية وثقافية، بينما كان العهد الملكي يمنع المجلة الثقافية والأدبية بعد عدد واحد أو عددين يصدران فقط، واهتم بتنظيم المدن العراقية كلها، وأخذ بإصلاح ما أفسده الدهر، فقد كانت السدود التي أنشئت قبل مجيئه من دون توربينات لتوليد الكهرباء، فطفق بإقامة التوربينات، وحدّث تجهيز الجيش العراقي بأسلحة روسية، وأصدر قانون الإصلاح الزراعي، ورعى دراسة للتخلص العراق من البلهارسيا، وكان هذا المرض يفتك بالفلاحين من أبناء الشعب بشكل خاص، فاستورد أنواعاً من الأسماك تعيش على بويضات البلهارزيا، مما أدى إلى القضاء على هذا المرض الوبيل، وحاول تأميم النفط العراقي، لكن السوفيت أقنعوه بأن الوقت ليس بملائم، فأصدر قانون رقم 80 استرجع فيه كل الأراضي التي استحوذت عليها شركات النفط بالباطل، وأسس شركة النفط العراقية، وبنى مدينة الطب وجهزها بالمعدات اللازمة.
أما أهم إنجاز حققته الزعيم عبد الكريم قاسم فكان خلقه للطبقة الوسطى، وهذه نقطة أغفلها الكثير ممن كتبوا عن الثورة، عن جهل أو تجاهل، أما كيف حدث ذلك فقد تم عن طريق توزيع قطع الأراضي في جميع المدن والأقضية والقرى في العراق، بأسعار رمزية، ومنح المواطنين قروضاً للبناء، بفائدة رمزية، فعلى سبيل المثال وزعت أراضي المنصور والمأمون بسعر 100فلس للمتر المربع، وأراضي بغداد الجديدة، والمشتل ب 50 فلساً، وعلى ذلك يستطيع المدرس المتخرج للتو "وكان راتبه آنذاك 41 ديناراً، أن يشتري 400 متراً مربعاً في المنصور، أو 800متراً مربعاً في المشتل، أو بغداد الجديدة، أو في أي مدينة عراقية أخرى، وفي نفس الشهر يستطيع أن يحصل على قرض من المصرف العراقي، وفي خلال بضعة أشهر يتمكن من السكن في دار حديثة، تشتمل على حديقة، ويتخلص من دفع الإيجار، مرة وإلى الأبد، وبذلك في خلال مدة قصيرة خلق عبد الكريم قاسم طبقة جديدة، مرفهة، بعدما كان إيجار الدار يلتهم معظم دخل أفراد تلك الطبقة، وأعرف معلماً، امتلك داراً وسيارة في السنة الثانية من الثورة، بينما كان في العهد البائد لا يحلم بالسكن في كوخ يخصه، ولا يحلم بدراجة هوائية يتنقل فيها، وبهذا تحقق المبدأ الذي كان يردده الزعيم، والذي سخر منه المؤدلجون الجامدون، والقوميون المزيفون على حد سواء، مبدأ عبد الكريم كان: لا نريد أن نفقر الأغنياء، بل نريد رفع الفقراء إلى مستوى الأغنياء، فهذا المواطن الفقير الذي سكن في خلال السنة الأولى من الثورة في "فللا" وامتلك سيارة، لا يمكن أن لا تعتبره غنياً، في المواصفات البرجوازية السائدة في أمريكا وأوربا بالذات، وعلى ذلك نستطيع أن نقول إن عبد الكريم هو خالق المدينة العراقية الحديثة، فقبل عبد الكريم لم يكن في الموصل على سبيل المثال، إلا المدينة القديمة المحصورة بين بقايا الأسوار التاريخية، وفي زمنه زحف العمران إلى الضواحي، ليتضاعف حجمه إلى بضع مرات، وهذا ما حدث في كل مدينة عراقية.
إن هذه الطبقة الوسطى مدينة إلى ما وصلت إليه، لإخلاص، وتضحية، وحكمة، وتخطيط عبد الكريم قاسم، وكان أي موظف في العراق يستطيع الحصول على قطعة أرض، بدقائق، ومن دون أن يرهق نفسه، لكن الأمر اختلف بعد مقتله مباشرة، فقد قفزت الأسعار قفزة فلكية، تجاوز السعر عشرة أضعافه في زمن عبد الكريم، ولم يعد يستطيع المواطن العادي أن يحصل على الأرض إلا بشق الأنفس، ووفق إجراءات روتينية معقدة، تدخل فيها أشياء أخرى غريبة عنها، كالانتماء الحزبي، والولاء، وو
كان الزعيم يردد باستمرار: "لنا في كل شهر ثورة"، وكان ذلك حقاً، فقد كان هناك إنجاز في كل شهر، وكانت البطالة تعم العراق قبل تسلمه الحكم، فاختفت بعد الثورة بسنتين، وأعرف عائلة من الجيران كان كل شبابها من العاطلين، لكنهم جميعاً وجدوا عملاً دائماً بعد الثورة ثم عادت العطالة لتسود بعد وفاته.
يتفق الجميع على أن الزعيم الأمين كان أميناً على مصالح الشعب، لم يعرف الأنانية، كريماً، يوزع راتبه على الفقراء، لم يستغل منصبه قط، لم يستأثر أي قريب من أقربائه بأي مكسب، عطوفاً، رحيماً حتى مع أعدائه، اشتهر بالتسامح، والتواضع، والأدب، والحياء، مؤمناً بالمثل العليا، إيماناً كاملاً، ينظر إلى أبناء الشعب العراقي كلهم نظرة متساوية، يحترم المخلص، ويعطف على المذنب رجاء أن يصلح نفسه بنفسه.
ولا أستطيع في مقالة واحدة إحصاء فضائل عبد الكريم قاسم، ولا أعتقد أن بإمكان أي كان ذلك، لكن أعداء الزعيم كانوا أكثر من الكثير، عاداه كل من الولايات المتحدة، إنكلترا، الأردن، تركيا، إيران، السعودية، الكويت، العربية المتحدة، هذا في الخارج، أما في الداخل فعاداه كل العملاء، أيتام العهد البائد، الثوريون الكذبة، القوميون المزيفون، رجال الدين من سنة وشيعة، الدجالون، النفعيون، اللصوص، انتصروا عليه، كما انتصروا على مصدق، وقتلوه في مؤامرة قذرة، فلم يرَ العراق منذ مقتله وحتى هذا اللحظة أي خير.
والآن وقد بدأت عصف التغير تهب، أنجز بعضهم مسلسلاً ظاهره تسليط الضوء على عبد الكريم قاسم، وباطنه إدانته، وتزييف وقائع عهده، والافتئات عليه، مسلسلاً تدفقت فيه أقوال غير مسؤولة مليئة بادعاءات كاذبة لا يمكن إثباتها، تتالت جملة وتفصيلاً، وبشكل مقزز.
مع الأسف لم تتح لي المصادفات أن أرى المسلسل ذا الوجهين هذا، وقت صدوره من قناة "أبو ظبي"، أخبرني أحد أصدقائي، وعندما حاولت أن أتابعها على الكومبيوتر، أخفق حاسوبي، وكان علي أن أعتمد على وعود بعض الأصدقاء لأراها في فلم فديو، فلم يتم ذلك إلا قبل بضعة أيام، فجزا الله الصديق الذي أتاح لي رؤية الفلم خير جزاء.
عنوان الحلقات: عبد الكريم قاسم، بين زمنين .
هذا يعني أنها ستحاول إنصاف الزعيم الأمين، وهذا لم يحدث، كما أسلفنا، حدث العكس تماماً، أنصفت النظام الذي أطاح به الأمين، وبرأت المجرمين اللذين قتلوا الأمين، وأساءت إلى عبد الكريم بطريقة تغليف السم بالدسم، وتبطين السب، والذم، بما يشبه المدح، وتشويه التاريخ، ولو سمي البرنامج "بين غدرين" لكان ذلك أقرب إلى طبيعة الحال.
التعليقات