بشير اسحق سعدي
&
&
أن التعددية والتنوع القومي والثقافي وحتى الديني أيضاً هو حقيقة قائمة على الأرض السورية لا يمكن لأي إنسان عاقل التنكر لها. كما لا يمكنه التنكر للتنوع في النبات والطبيعة والمناخ، فمن البديهي لبلد مثل سوريا يتمتع بخيرات وثروات طبيعية وبموقع جغرافي وإستراتيجي هام، أن يكون محطاً ومستقراً للإنسان منذ أزمان موغلة في القدم، وأن يكون بالوقت نفسه هدفاً ومطمعاً للأقوام المجاورة له بهدف التوجه للاستقرار به سلماً أو كنتيجة للحروب والغزوات والإحتلالات العسكرية.
ودون الخوض بالتفاصيل، فبعد أن قامت على الأرض السورية مدنية وحضارة على أيدي أبنائها الأصليين السريان الآشوريين، تشهد عليها آلاف التلال والمواقع الأثرية، أصبحت فيما بعد أيضاً ميداناً لغزوات لاحقة متتالية، من فارسية ورومانية بيزنطية، ثم الفتوحات العربية الإسلامية، وبعدها تتالت موجات غازية أخرى، تترية وأوروبية(صليبية) وعثمانية، وكان آخرها الإنتداب الفرنسي حتى الاستقلال في 17 نيسان علم 1945.
وبديهي أن تسفر هذه السلسلة من المراحل المتعاقبة من الغزوات ، إلى استقرار شعوب مختلفة جاءت مع هذه الغزوات، إلى جانب هجرات سلمية بحثاً عن حيلة أفضل، كما تجري الأمور في عصرنا ، حيث تهاجر الناس من الدول الفقيرة إلى الدول الغنية.
واللوحة القومية الموجودة على الأرض السورية حاضراً تتكون من العرب وهم الأغلبية ومنهم عرب أقحاح جاءوا قبل الفتوحات وبعدها، ومنهم من استعرب من سكان البلاد الأصليين من السريان إثر دخولهم الإسلام. أما الأقليات فهم الأكراد والأرمن التركمان، وأخيرا السريان الآشوريين الذين يتوزعون على طوائف عديدة هي:( السريان الموارنة، السريان الكاثوليك، السريان الملكيين، السريان الأرثوذكس، الكلدان الكاثوليك، وأبناء كنيسة المشرق القديمة الآشورية ). كما يوجد مجموعة من السريان الذين اعتنقوا الإسلام في منتصف القرن التاسع عشر من سكان جبال القلمون في القرى الثلاث : معلولا ، جبعدين ، بخعا، ولا يزالون يتكلمون السريانية الآرامية لغة سوريا القديمة .
أما اللوحة الدينية فتشمل مختلف المذاهب الدينية لمختلف الأديان السماوية، إضافة لوجود أقلية في محافظة الحسكة تدين بالديانة الزرادشتية القديمة المعروفة باليزيدية.
كل هذه الأقليات القومية سواء منها الأصيلة أو الوافدة في مراحل تاريخية مختلفة، لها حقاً متساويا ًفي الوطن، ولا يحق لأي مجموعة دون أخرى الادعاء بأنها صاحبة الأرض وأن الآخرون ضيوفاً تحت أي مبرر تاريخي أو أيديولوجي، فيجب أن تسود فكرة المواطنة الحقيقية، وأن الوطن ملك لجميع أبنائه. وهنا تبرز إشكالية الهوية الوطنية الجامعة التي يجب أن تبتعد عن النظرة القومية الضيقة وصهر وتذويب بقية الثقافات الوطنية لصالح ثقافة واحدة، هي ثقافة وهوية الأكثرية، هذه النظرة القومية الضيقة التي أثبتت الحياة فشلها، بل أدت إلى تراكم الغبن لدى الأقليات ودفعها نحو الهجرة والانكفاء على ذاتها حماية لهويتها ، وهذا ما أدى ويؤدي إلى ضعف في الرابطة الوطنية الحقيقية التي هي القوة الحقيقية لأي مجتمع.
&لا شك حيثما يوجد الغبن والظلم والحرمان توجد قضية تحتاج لحل، فمن المؤكد أن للأكراد كما هو الحال لبقية الأقليات القومية الأخرى في سوريا، كامل الحق في حماية وتطوير وإحياء ثقافتهم ولغتهم ومجمل شخصيتهم الثقافية ، ضمن إطار الوحدة والسيادة الوطنية ، وحقهم في المشاركة في إدارة المناطق التي يتواجدون بها ، وحقهم أيضاً بالمشاركة في صناعة القرار السياسي الوطني وفقاً لتمثيل يتناسب مع نسبتهم العددية. دون هيمنة أو تجاوز أو تهميش فلا فضل لمواطن عربي على آخر غير عربي إلا بمقدار إخلاصه وخدمته وتضحيته لوطنه. إذن لا يوجد في سوريا مسألة كردية فقط ، بل هناك مسألة عامة تخص كل الأقليات القومية : الكردية ، الأرمنية، التركمانية ، وأخيرا السريانية الآشورية، فالحق حق سواء كان عدد المطالبين به كبيراً أم صغيراً، وسواء كانت مساحة ميدانه كبيرة أم صغيرة، والمسألة الأساس المرتبطة بمجمل المسائل هي مسألة الحرية ، والكرامة الإنسانية ، والديمقراطية، إذ لا وجود ولا استمرار ولا مستقبل للوطن، دون حرية كل أبنائه، أكثرية وأقليات ، خصوصاً في مثل هذه المرحلة التي تمر بها البشرية من سباق وتنافس لا يرحم الكسالى والمتخلفين عن الركب ، في عالم أصبحت بواباته ونوافذه مفتوحة عل الحقائق ولا من سبيل لإخفائها، عالم القرية الكونية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.
وحقوق الشعوب الصغيرة العدد،أو ما اصطلح على تسميتها بالأقليات، ليست مسألة منة أو مكرمة يقدمها الحاكم برغبة منه أو لا يقدمها، فهي مسألة حقوقية أقرتها الإنسانية واعترفت بها قديماً، سواء بالقوانين والأعراف الوضعية ، أو تلك الواردة في النصوص الدينية ، وصولاً إلى القانون الدولي الحديث المتمثل بمواثيق الأمم المتحدة وإعلاناتها المتعلقة بحقوق الإنسان والأقليات، وكمثال عن هذه النصوص :
-&& المادة الثانية من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تنص على :"لكل إنسان حق التمتع بكافة الحقوق الواردة في الإعلان ، دون تمييز، بسبب العنصر أو اللون أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي ، أو أي رأي آخر، ودون أي تمييز بين الرجال والنساء..."، وهذا اعتراف بالتنوع القومي والديني والثقافي، وتأكيد ضمني على حقوق الأقليات.
-&&&&&&& المادة الأولى من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية تقول:" كل الشعوب لها الحق بتقرير مصيرها وتحديد وضعها الاقتصادي بحرية تامة، وإدارة شؤونها الاقتصادية والثقافية وتطويرها". ومن& المفيد ذكره أنه لا توجد حدود فاصلة بين& تعريف الشعب وتعريف الأقلية ، فلا زال هناك تشابك واختلاط بينهما في التعريف في القانون الدولي.
-&&&& المادة السابعة والعشرون من العهد الدولي أعلاه تقول:"في الدول حيث يوجد بها أقليات قومية أو دينية أو لغوية ، الأفراد المنتمون لهذه الأقليات لا يمكن أن يحرموا من حقهم في الانضمام لأفراد مجموعاتهم وحياتهم الثقافية وممارسة دياناتهم ولغاتهم".
-&&&&& المادة التاسعة عشر من إعلان مؤتمر الجزائر الدولي المنعقد بتاريخ 14 تموز عام 1976 نصت على :" حين يكون شعب ما أقلية ضمن دولة ما ،يكون الحق لأفراد هذا الشعب بأن تحترم هويته وعاداته ولغته وتراثه الثقافي".
-&&&& إعلان حقوق الأفراد المنتمين لأقليات قومية أو دينية أو ثقافية، الصادر عن الجمعية العمومية للأمم المتحدة عام 1992 . أوضح بجلاء تام حقوق الأقليات بحماية وتطوير هويتها ولغتها وثقافتها ، وحقها في المشاركة في إدارة المناطق التي تتواجد عليها ،ومسؤولية الدولة في رعاية وحماية وتطوير ثقافتها، وفي حق المجتمع الدولي في حماية هذه الأقليات في حال تعرضها لانتهاكات خطيرة تمس مصالحها وحقوقها الأساسية.
-&&&&&&& مؤتمر حقوق الإنسان الدولي الذي عقد في "فيينا" عام 1993 أكد إعلانه على الترابط العضوي بين حقوق الإنسان، وحقوق الأقليات وفق إعلان حقوق الأفراد المنتمين للأقليات لعام 1992.
-&&&&&&& من المفيد الإشارة إلى أن دولة مجاورة ووضعها مشابه للوضع في سوريا من حيث التنوع القومي والتاريخي والجغرافي وفي طبيعة نظامها السياسي وهي العراق، ينص دستورها على أن العرب والأكراد شركاء بالوطن إلى جانب الأقليات دون ذكرها بالاسم، كما أن مسألة الاعتراف بالأقليات فيها تمت معالجته نظرياً ونسبياً عبر عدة مراسيم منها، بيان 11 آذار عام 1970 القاضي بالحكم الذاتي للأكراد في شمال العراق، وصدر مرسوم عام 1970 بخصوص الحقوق الثقافية للتركمان، وصدر مرسوم عام 1972 مرسوم خاص بالحقوق الثقافية للناطقين باللغة السريانية من سريان وكلدان و أثوريين. وبرغم عدم التطبيق الكامل لهذه المراسيم على ارض الواقع، فهي سياسياً وقانونياً تعتبر اعترافاً بواقع الأقليات في العراق، وهذا ما يؤكد واقعية هذه المطالب وأحقيتها على الساحة السورية أيضاً.
-&&&&&& وفي ختام عرضنا هذا نؤكد على حقيقة وواقع التعددية القومية في سوريا، وعلى حقيقة وجود قضية قومية ليست ذات طابع كردي فقط بل هي قضية تتعلق بكل الأقليات الموجودة في سوريا، من أكراد و تركمان و أرمن وسريان آشوريين، والحل برأينا لن يكتمل إلا بحل ديمقراطي يشمل الوطن كله، إذ لا جدوى لصدور قرارات أو مراسيم خاصة بالأقليات في ظل نظام شمولي غير ديمقراطي، حيث أن في ظل مثل هكذا نظام لا تستطيع الأقليات أن تحقق ذاتها والتمتع بحقوقها على الأرض، والعراق مثال حي على ذلك في عدم التطبيق العملي إذ رغم صدور مراسيم خاصة بحقوق الأقليات لم تتمكن الأقليات التمتع بحقوقها الثقافية ولا بحقوقها الإنسانية مثلها مثل الأكثرية، حيث ساواهم الاستبداد بمظالمه.& والحل الديمقراطي هو برأيي مسؤولية كل القوى السياسية الوطنية للأكثرية وللأقليات، كما أن قضية الأقليات يجب أن تكون من مهمات القوى السياسية للأكثرية كواحدة من المهام الوطنية العامة. وإن الخطوات العملية الملحة للانطلاق عملياً في موكب الإصلاح الديمقراطي الذي يجب أن لا يتأخر أكثر مما تأخر، هي إصدار قانون عصري ديمقراطي للأحزاب يأخذ بالاعتبار التنوع القومي، وقانون للانتخابات ينص على حق التمثيل النسبي للأقليات القومية ويكسر حاجز القوائم الناجحة سلفاً، وإطلاق الحريات السياسية، وفق تعديلات دستورية مناسبة على أرضية علمانية وديمقراطية، ووفق مبادئ المساواة والعدل وحقوق الإنسان، وإبطال العمل بقانون الطوارئ والأحكام العرفية وإطلاق سجناء الرأي. وذلك يمكن أن يتم وفق خطة إصلاحية متدرجة قائمة على حوار ووفاق وطني يشمل كافة القوى الوطنية بمختلف طيفها السياسي والقومي . وأعتقد أن مبادرة السيد الرئيس التي طرحها في خطاب القسم القائمة على الإصلاح والتطوير والتحديث والشفافية هي خطوة هامة وأساسية يمكن الانطلاق منها بعد إحياؤها مجدداً كخطوة في مسيرة الألف ميل.
عضو سابق بمجلس الشعب السوري