أمين الإمام
&
&
أمِّي التي أنجبتني، لم تشهد سنوات نضجي، وتحوُّلاتي، ومحاولاتي. لم تشهد بحثي المضني، عن شيءٍ مفقود، عن حقيقةٍ ضائعة، عن طرقٍ متقاطعة، لا تقود إلاّ للمزيد من المتاهة. لم تشهد هذا الزمان الموغل في إدهاشاته، وانكساراته، والكثير من تفاصيله المُرعِبة. توفّاها الله، قبل 27 عاماً، وأنا صبيٌ يافع، وتلميذ أكمل لتوِّه السنة الثالثة "الابتدائيّة". لهذا لم أعد مستوعباً، للكثير من تفاصيل حكاياتها معي، وأنا طفل، فهناك أشياء تحتاج لمن يسترجعها من الذاكرة، بتوجيه السؤال إليه. أمِّي غادرت هذه الفانية، فلم أجد من يعينني على تذكار، ما أودّ تذكاره، وأنا في عمر ما دون الثالثة (مثلاً)، فمثل هذه التذكارات، لن يدركها والدي (أطال الله في عمره)، ولا أختي وأخي الكبيران. لكنني وجدت من يأتي بالكثير مما أبحث عنه، وليس كلِّه. إنّها خالتي التي تكبر أمِّي، حيث حضرت ولادتي، وتحضرها ذاكرة رائعة (أطال الله في عمرها).
رحمك الله يا أمِّي، وأسكنك فسيح جنّاته (آمين).
خالتي تقول لي دائماً، إنّها لا تنسى يوم أن بكى العرب جميعاً، وبكى ذلك المصري الأسمر المحبوب: "جمالو" (هكذا كانت تسمِّيه، وهي تقصد الرئيس جمال عبدالناصر)، وهي تشير بالطبع إلى يوم الخامس من يونيو (حزيران)، من عام 1967، يوم "النكسة" العربيّة، والهزيمة أمام جيش العدو الصهيوني.
تتذكَّر خالتي بكلّ وضوح، أنّها ذهبت مع أمِّي وأبي، إلى المركز الصحِّي المجاور لمنزلنا، على صهوة "الجيب" الروسي، الذي كان يملكه أبي حينها (المقتنيات الروسيّة كان لها وزنها آنذاك!). وسبب زيارة المركز الصحِّي، في نفس يوم "النكسة" الشهير، من أجل أخذ إحدى جرعات التطعيم المعروفة، التي لها مواعيدها المنتظمة للأطفال المواليد بالطبع، حيث أكملت في ذلك اليوم، 3 أشهر بالضبط.
لا شكّ أنّني بكيت بمرارة ذلك اليوم، ليس بسبب هزيمة العرب، و"نكسة حزيران"، ولكن بسبب ألم "إبرة التطعيم"، والحُمَّى الجسديّة المصاحبة لها، والآلام التي تكاد تشلّ الفخذ، الذي يُوخَز بتلك الإبرة.
خالتي تقول لي، بأنّني في إحدى نوبات بكائي، ضحكت بلا سبب، ولفترة قصيرة جدّاً، قبل أن أعود ثانيةً للبكاء. فضحكوا جميعاً، ونسوا آلام ذلك اليوم: النكسة، وبكائي، وبكاء أختي وأخي الكبيرين تضامناً معي. فاستحال يوم "النكسة" لديهم، إلى حالة ساخرة من "الضح...كاء"، تفسِّر الواقع العربي من 5 يونيو 1967، وحتى لحظة كتابة هذه الأسطر وقراءتها، وإلى أن يشاء ربّ العباد.

[#].....................

الحديث عن "النكسة"، تجاوز أعراف الاستهلاك، وأصبح نهشاً في اللحم الحيّ و"الميِّت"، فليغفر الله لمن كانوا على "سُدَّة القرار العربي"، في ذلك الوقت المظلم. والآن وقد صار ذلك الطفل "المُطعَّم" ضد الأمراض الوبائيّة، وهو ابن ثلاثة أشهر، قد كبر وغزا الشيب بعض رأسه، وأصبح عمره مقارباً لعمر تلك الذكرى المؤلمة (36 عاماً).
لا شيء محدَّداً، أستطيع أن أقوله بشأن تلك الأيّام "الستّة"، التي شهدت حرباً لا تُفسَّر، وهزيمةً لا تُبرَّر، واحتباسات لا تُحرَّر. فماذا بوسعي أن أضيفه، بعد الكلمات التريليونيّة، التي ملأت أفقنا العربي، بالمزيد من الضبابيّة، والتي استمرت 36 عاماً هي عمري. لا شيء يُقال.
ما يجب أن يُقال، يرتبط بالصورة الراهنة، فالحاضر يستنطق صلف ماضي الاحتلال، وماضي التنازلات، ويستشرف مستقبلاً مجهولاً، بل مفرطاً في "مجهوليّته". ففي نفس اليوم الذي يصادف ذكرى "النكسة" (الخميس 5/6/2003)، أفاد خبر من المركز الفلسطيني للإعلام، أن رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون، قد قدّم هديته للفلسطينيين، وذلك بعد أقل من 12 ساعة، من انتهاء قمّة "العقبة" الأردنيّة. فقد نجا عدد من المزارعين الفلسطينيين، صباح ذلك الخميس ("المنكوس" بذكراه!)، من موت مُحقَّق، عندما فتح جنود الاحتلال، المتمركزون في موقعٍ عسكري، على الشريط الفاصل بين "الخط الأخضر"، والأراضي الفلسطينيّة شرق منطقة الفراحين (خانيونس)، نيران أسلحتهم الرشاشة، بشكلٍ عشوائي تجاههم. وكان المزارعون يحصدون القمح حينها، لتفاجئهم نيران العدو الصهيوني، ممّا أدّى إلى نفوق وإصابة 15 رأساً من الأغنام، ونجا المزارعون بأعجوبة، بعد أن انبطحوا أرضاً، وزحفوا لمسافات طويلة، داخل حقول القمح، وسط إطلاق النار المتواصل.
أمّا المشهد الاحتلالي الحقيقي، في زمن اللا خجل (كما أشرنا لهذه الصفة بالأمس)، فقد وقع في منطقة القصاص، جنوب مدينة رفح (قطاع غزّة)، قرب الحدود مع مصر. ففي عشيّة ذكرى "النكسة"، توغّلت خمس دبّابات إسرائيليّة، مع جرافتين ومجموعة من الآليات، في تلك المنطقة، وحاصرت مجموعة من المباني، وأجبرت سكّانها على إخلائها، تحت تهديد السلاح، كما هدمت أربع عمارات سكنيّة، وشرّدت عشرات الفلسطينيين، وسط حلكة الليل، وزمهرير عواصفه الباردة. وبعيداً عن الحجّة، التي بسببها تم حدوث ذلك الإجراء الاحتلالي العلني، عليكم أن تتذكّروا أفعال العصابات الصهيونيّة، في مطلع القرن الماضي، لما كانت تداهم القرى والأحياء في المدن، فتخلي الكثير من المساكن من ساكنيها، وتذبح من تذبحه، إلى أن وضعوا أقدامه في العديد من مساحات الأرض، وقامت دولتهم، واعترف بها الأوغاد، فكانت "النكبة"، ثمّ "النكسة"، ثمّ "النكتة"، وهلمجرّا(!).

[#].....................

ما إن تطفو على سطح خيباتنا العربيّة، ذكرى "النكسة" بكلّ تبعاتها، نتذكّر "هوامش على دفتر النكسة"، للسوري الراحل نزار قبّاني، مثلما لا ننسى "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة"، للمصري الراحل أمل دنقل (معظم أصحاب الشهادات رحلوا!). فلنعيد البكاء مع دنقل، بين يدي الحاضر المعيش: بين بغداد، والرياض، والدار البيضاء، والخرطوم، وشرم الشيخ، والعقبة، وجميع المدن والقرى الفلسطينيّة المحتلّة، ونتأمّل:
أسأل يا زرقاء...
عن وقفتي العزلاء بين السيف... والجدارْ!
عن صرخة المرأة بين السَّبي... والفرارْ؟
كيف حملت العار...
ثم مشيتُ دون أن أقتل نفسي، دون أن أنهار؟
ودون أن يسقط لحمي... من غبار التربة المُدنَّسة؟
تكلَّمي أيّتها النبيّة المُقدَّسة
تكلَّمي... باللهِ... باللعنة... بالشيطانْ
لا تغمضي عينيكِ،
فالجرذان تلعقَ من دمي حساءَها... ولا أردُّها!
تكلَّمي... لشدَّ ما أنا مُهان
لا الليل يُخفي عورتي... ولا الجدران!
ولا اختبائي في الصحيفة التي اشدُّها...
ولا احتمائي في سحائب الدخان!
أما التاريخ سيحفظ لقبّاني، تحوّله الفجائي من شعر الحبّ والنساء، إلى شعر الخطابة السياسيّة (مع تحفُّظات من بعض مجايليه!)، وقد اعترف بذلك في نفس "الهوامش":
يا وطني الحزين
حوّلتني بلحظةٍ
من شاعرٍ يكتبُ الحبَّ والحنين
لشاعرٍ يكتبُ بالسكِّين
... ومع ذلك، كان نزار قبّاني في قمّة الوضوح، وهو يفشي "سرّ النكسة":
السرُّ في مأساتنا
صراخنا أضخمُ من أصواتنا
وسيفُنا أطولُ من قاماتنا
خلاصةُ القضيّةْ
توجزُ في عبارةْ
لقد لبسنا قشرةَ الحضارةْ
والروحُ جاهليّةْ...
وفي أخر "دفتره"، كان الشاعر السوري الراحل محقّاً، وهو يحوِّل الرسالة إلى الأطفال، إلى المستقبل، إلى من عليهم أخطر مسؤوليّة لم تتم بعد:
يا أيُّها الأطفال...
من المحيط للخليجِ، أنتمُ سنابلُ الآمالْ
لا تقرأوا أخبارنا
لا تقتفوا آثارنا
لا تقبلوا أفكارنا
فنحنُ جيل القيء، والزُّهري، والسعالْ
ونحنُ جيلُ الدجلِ، والرقصِ على الحبال
يا أيُّها الأطفالْ:
يا مطرَ الربيعِ... يا سنابلَ الآمالْ
أنتمْ بذورُ الخصبِ في حياتنا العقيمةْ
وأنتم الجيلُ الذي سيهزمُ الهزيمةْ
... والرسالة مستمرّة، مستمرّة، مستمرّة، إلى أن تنجلي الهزيمة، إذا آن لها أن تنجلي (!).
&
كاتب صحافي سوداني
[email protected]